من عبدالناصر الى حسن نصر الله ومن الخطر المصري الى الخطر الإيراني

الحروب الدينية والطائفية في السياسة الخارجية السعودية

لم يكن أحدٌ أكثر سعادة من آل سعود بهزيمة عبدالناصر في 1967، ولن يكون أحدٌ أكثر سعادةً من آل سعود ووهابيتهم بهزيمة حزب الله

إنها معركة حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل، كما قال شيمون بيريز.

والحقيقة أن كل معارك إسرائيل كانت وستكون معركة حياة أو موت.

والسبب الأساس هو أن إسرائيل لا تتحمّل هزيمة حقيقية واحدة. فخسارة المعركة، خاصة على الطريقة اللبنانية، تعني أن إسرائيل كدولة لم تعد محصّنة من (خطر الزوال) في المدى غير البعيد، وليس مجرد خسارة معركة فحسب قابلة للتعويض.

ربما تشعر السعودية أيضاً بنفس الأزمة الإسرائيلية، فهي بدت وكأنها في معركة (حياة أو موت)! ليس مع إسرائيل بالطبع، ولكن مع حزب الله وحماس وسوريا وإيران معاً. وبصورة أخص ضدّ ما تعتبره تمدداً أو نهوضاً شيعياً سياسياً وعقدياً.

ولربما تكون القيادتان المصرية والأردنية تشعران بذات الأزمة؛ فكلتا القيادتين الحليفتين للغرب وللولايات المتحدة الأميركية وقعتا اتفاق سلام مع إسرائيل، لا تشعران بالخطر الإسرائيلي بل لا تريان أن هناك خطراً إسرائيلياً بالضرورة، وإنما هنالك خطر واحد قادمٌ من الشرق. إنه بالنسبة للسعودية ومصر والأردن: الخطر الشيعي القادم من إيران والمار بالعراق وصولاً الى سوريا ولبنان وفلسطين.

مواقف هذه الدول المعلنة السابقة تفسر حدود المعركة السياسية ـ الطائفية اليوم. فمن تحذيرات الملك الأردني من (الهلال الشيعي) المستعار من الأدبيات الوهابية السعودية منذ 1990م، الى تحذيرات مبارك بأن ولاء الشيعة في المنطقة العربية هو لإيران، الى تصريحات سعود الفيصل الغاضبة من النفوذ الإيراني في العراق.

هذا بالطبع لا يكفي لتفسير موقف السعودية من معركة حزب الله اليوم مع إسرائيل.

على المستويين الطائفي والسياسي، تبدو قاعدة الحكم في المملكة ـ أي القاعدة النجدية المناطقية الحاكمة سياسياً، والقاعدة الطائفية النجدية الوهابية الحاكمة مذهبياً ـ تبدو متوحدة أكثر من أي وقت مضى، منذ الإستنفار الطائفي الذي شهدنا فصوله بداية الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين، والذي جاء بعد سقوط شاه إيران.

القاعدتان السياسية والطائفية تشعران بقلق بالغ من مجرد احتمالية انتصار حزب الله في حربه ضد اسرائيل، أو حتى خروجه سليماً بشكل عام رغم جراحاته.

لماذا؟

علينا التأكيد أولاً على بعض الحقائق المركزية:

الحقيقة الأولى ـ أن الدين بنسخته الوهابية، هو مصدر الشرعية للحكم؛ وأن المؤسسة الدينية الرسمية هي جزء أصيل من جهاز الحكم؛ وأن القيادتين السياسية والدينية تمثلان أقلية مناطقية (نجدية) لا تصل الى ثلث سكان المملكة؛ وأن الفصل بين الديني والسياسي في المملكة أمرٌ صعب، مهما بلغت الإنشقاقات داخل التيار الوهابي، ومهما بدا التباعد بين من يسمون بالعلمانيين النجديين وبين الدينيين النجديين. الأصل أن هناك مصلحة مشتركة بين كل الأطراف: (1) العائلة المالكة كقيادة سياسية للممجتمع النجدي أولاً وللمملكة ثانياً، (2) والمؤسسة الدينية كقيادة دينية رسمية للبلاد وكأساس لشرعية الحكم، على الأقل في محيطه النجدي وخلفيته المذهبية الوهابية، (3) والنخبة النجدية التي تدير بشكل عام جهاز الدولة العلوي، والمقتنعة كما الطرفين الشقيقين الآخرين بأن الحكم في المملكة (مسألة نجدية) ويجب أن يبقى بيد (النجديين).

الحقيقة الثانية ـ أن الدين بنسخته الوهابية، كان ولا يزال جزءً محورياً في سياسة المملكة الخارجية. فتوظيف الدين في الشأن السياسي الخارجي مسألة واضحة طيلة تاريخ المملكة، سواء في الخلافات الإقليمية أو الدولية بل أن الدين وظّف في الخلافات الداخلية السعودية نفسها (اي ضد المعارضين للحكم ولايديولوجياتهم غير الوهابية).

استخدم السعوديون الدين للإصطفاف مع أميركا والغرب (ممثلة النصارى!) ضد (الشيوعيين الملاحدة).

واستخدموا الدين ضد عبدالناصر باعتباره (قومياً) والقومية كانت تفسر سعودياً في فترة الخمسينيات والستينيات بأنها ضد الدين. ووصموا عبد الناصر بأنه شيوعي وحليف الشيوعية.

واستخدموا الدين ضدّ القذافي وضد قادة العراق الجمهوري عامّة كما ضد العراق الملكي من قبله، على ذات القاعدة: قوميون أو موالون للشيوعية او على الأقل منافسون في الولاء للغرب (كما كان العراق الهاشمي).

واستخدموا الدين بنسخته الوهابية ضد ثورة إيران والخميني، فقلبوا الرأي العام العربي والإسلامي لتصبح الحرب طيلة الثمانينيات بين المسلمين: الشيعة والسنّة.

السعودية لحزب الله وحماس: إقلعوا شوككم بأنفسكم

الآن وبعد انتهاء الحرب ضد الشيوعية، وبعد أن انهارت الشعارات القومية، لم يعد هناك حرب في الغرب إلا ضد الإسلام.

السعودية ـ وخلال السنوات الأخيرة ـ غيّرت جلدتها لتتساوق مع المشروع الأميركي ضمن ما يسميه (الحرب ضد الأرهاب).

أصبحت السعودية ليس ضد (القاعدة) التي هاجمت ال سعود في عقر دارهم، فهذا أمرٌ متفهّم الى حدّ كبير.

لكنها أصبحت وبسرعة فائقة ضد المنظمات الجهادية الفلسطينية: حماس والجهاد الإسلامي، فضلاً عن المنظمات الأخرى. ولعلنا لا نحتاج الى التذكير بموقف السعودية من حركة حماس التي انتصرت في الإنتخابات فعوقبت سعودياً ومصرياً وأردنياً بتجويع الشعب الفلسطيني ومحاصرته، وليس فقط التوقف عن دعم حكومة حماس سياسياً ومالياً. كل ذلك بالتنسيق مع حصار اسرائيل والغرب كله ضدّها.

واليوم تأتي المعركة الجديدة بين حزب الله ومن ورائه جماهير العرب والمسلمين وبين اسرائيل. وقد اختارت السعودية معسكرها الذي تؤمن به: معسكر الغرب واسرائيل. ولكن عنوان الحرب السعودية ضد حزب الله في أصله سياسي طائفي، حيث استنفرت الوهابية مرّة أخرى لتلعب دورها في تسوير النظام السعودي سياسياً وطائفياً خشية تداعيات الحرب.

الحقيقة الثالثة ـ الإستراتيجية السعودية قائمة على اعتبارين أساسيين: أن إسرائيل لا تشكل خطراً حقيقياً على النظام السياسي في المملكة، فهذا الخطر، وإن كان موجوداً بنسبة أو أخرى على المدى البعيد، قابل للإحتواء من خلال علاقة أوسع مع الولايات المتحدة الأميركية. الأساس الآخر هو أن السعودية ترى أنها في مأمنٍ من أشدّ الأخطار في حال بقيت العلاقة وثقى مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة. العائلة المالكة في السعودية تعتقد بأنه مادامت هناك علاقة قوية وحميمية مع أميركا، فإنها بمأمن من الإنشقاقات الداخلية والتهديد الخارجي، الإسرائيلي أو غيره.

ضمن هذه الإستراتيجية، فإن المملكة لا يمكن بالمطلق أن تتخلّى عن تلك العلاقة الوثيقة، مهما بلغت الأثمان التي تدفعها (نفط رخيص ومستمر، استثمارات في أميركا، انصياع كامل ومساهمة غير محدودة في المشاريع الأميركية المتتالية). حتى لو خسرت السعودية سمعتها الداخلية والخارجية، أي على الأصعدة الشعبية والعربية والإسلامية، فإنها لا تهتم كثيراً مادامت الولايات المتحدة تنظر اليها بعين الرضا.

هذا قد يفسر في جانب منه سرّ وقوف السعودية ضد حزب الله وحماس.

وهو يفسر أيضاً إصرارها على ذلك الموقف كما قال سعود الفيصل في مؤتمره الصحافي في 1/8/2006 حين قال بأن موقف المملكة صحيح ولا تعتذر عنه، كما أنه يفسر الى حد كبير كيف أن المعركة الدائرة في لبنان هي قريبة من حقيقة أنها معركة حياة أو موت بالنسبة للسعودية الوهابية نفسها.

الآن، كيف ترى السعودية المعركة، ولماذا هي متوترة، بل شديدة التوتر، ولماذا أصدرت بيانات التقريع والإتهام لـ(المغامرين)، ولماذا لاتزال الماكنة الإعلامية السعودية تشعل نار الفتن الطائفية ضد حزب الله سواء في لبنان والعراق أو غيرهما، ولماذا قامت ـ بحسب تصريحات متعددة وصريحة ـ بإيصال رسائل لقادة إسرائيل تحثّهم على مواصلة المعركة ضد حزب الله الى أن يتم إفناؤه؟

اسرائيل ليست خطراً على السعودية.. هذا واضح.

والخطر الحقيقي ـ كما تراه السعودية ـ يأتي من إيران وهو ذو شقّين: خطر سياسي، وخطر عقائدي، ولا يمكن الفصل بينهما في الرؤية السعودية وقاعدتها المناطقية والطائفية.

السعودية ترى نفسها زعيمة العالم العربي والعالم الإسلامي. زعامتها قائمة على أمرين: الإمكانات المالية (الرشوة)، وكونها تحتضن الأماكن المقدّسة. واختراقها للعالم الإسلامي كان يتم على قاعدة دينية، كان هدفها في الماضي محاربة الشيوعية، ثم تطور الى محاربة التشيّع، ثم محاربة الحركات الإسلامية، والذي بدأ بالتبلور بعد احتلال صدام للكويت، ووقوف أغلب الحركات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي في الصف المناهض للحرب آنئذ.

انكفأت السعودية على نفسها لأسباب داخلية وخارجية لمدة 15 عاماً تقريباً (1991-2005).. وكأنها كانت تطلب الستر، ريثما تعيد ترتيب أوراقها الإقتصادية والسياسية، ولم نشهد سياسة خارجية فاعلة طيلة تلك الفترة إلا بعد موت الملك فهد في العام الماضي، ومحاولة إعادة إحياء الدور السعودي العربي والإسلامي، على الأقل من زاوية رد الفعل وليس مباشرته وأخذ زمام المبادرة فيه.

في الـ15 عاماً الماضية، أصلحت السعودية علاقاتها مع كل جيرانها تقريباً. مع ايران، مع اليمن، مع الأردن، ولكنها بقيت مرتابة من كل الحركات الإسلامية التي سبق وأن دعمتها. وحين جاءت أحداث 11/9 كان الجهد السعودي يقوم على إعادة تكييف للذات والأهداف وترميم العلاقة مع واشنطن باعتبارها مصدر الخطر، والحليف الذي يكاد أن ينقلب عليها. وقد نجحت في ذلك عبر تنازلات هائلة على حساب فلسطين والقضايا الأخرى، وتجلّت في مشروع السعودية للسلام الذي وافق عليه العرب في قمة بيروت 2004.

ولأن القيادات العربية المتحالفة مع أميركا شاخت وضعفت ولم تعد مقنعة لشعوبها، ولم تكن لها مبادرة.. وإزاء فشل عملية السلام مع اسرائيل، ومحاولة السعوديين بكل جهد إرضاء أميركا، اكتشفت السعودية أن العراق (السنّي) في قيادته قد تحول الى (شيعي) مع نفوذ ايراني متواصل، واكتشفت كما مصر والأردن بأنهما غير قادرتين على القيام بأي فعل، عدا مواكبة ودعم المشروع الأميركي من جهة، وإشعال الفتنة الطائفية من جهة أخرى بالرجال والمال، ولازال المشروع قائماً.

فجأة اكتشفت السعودية أن نفوذها في محيطها العربي وجوارها المشرقي قد تهدد في العراق، وزاد الخوف من المشروع الإيراني الموجه أصلاً لإسرائيل وأميركا بغية حماية النظام الإيراني نفسه، ثم جاءت قاصمة الظهر باختطاف حزب الله للجنود الإسرائيليين، فإذا بها تخرج عن طورها وعن لباقتها المعهودة، فالورقة الفلسطينية تكاد تخسرها، ومن يخسرها يخسر شرعيته على أرضه. العجز والفشل مقابل الحيوية للتحالف الإيراني السوري ، المعاضد لحماس وحزب الله، عبر عنه بأوضح العبارات، ولم يكن بالإمكان مواجهته إلا بجعل الحرب شيعية سنية بدل أن تكون إسلامية ضد الصهاينة والأميركيين.

الوهابية من جهة ثانية ترى الحرب عقدية، ولأن الشيعة ـ كما غيرهم من المسلمين ـ كفار من وجهة نظر مشايخ الوهابية، فإن العدو واحد وبنفس الخطورة: اليهود والأميركان والروافض ـ حسب تعبيرهم. والحقيقة، فإن الوهابية كما القيادة السياسية السعودية ترى في ايران وحزب الله ـ وكما عبروا عن ذلك علناً أيضاً ـ أكثر خطراً من اليهود والأميركان، لأن الأخيرين عدو معروف، وحزب الله وإيران خطراً حاضراً مجهولاً للناس حسب رأيهم.

معركة الوهابية ـ السعودية، هي مع ايران.. وهي معركة سياسية عقدية. وهي بالنسبة لمصر والأردن معركة سياسية عبر عنها مبارك وعبدالله ملك الأردن، وإن حاولا جعلها عقائدية أيضاً، بالعزف على الخطر الشيعي ولكن القاعدة الشعبية في الأردن ومصر أفشلت ذلك.

الصفحة السابقة