النـهّـاب الأكـبـر!

صفقات عسكرية لمحاربة المال العام!

كأنما كان ينتظر ظرفاً كهذا كيما يمرر صفقتي أسلحة بأسعار فلكية تحت غطاء ناري كثيف، فهو الذي عارض بالأمس صفقة طائرات رافال الفرنسية خلال زيارة شيراك الى الرياض قبل ثلاثة أشهر بتواطؤٍ مع الاميركان، هاهو فجأة يطير الى باريس حاملاً مبادرة لوقف اطلاق النار في لبنان، باعتباره العضيد الأكبر لقوى 14 آذار، فأراد أن يشتري موقفاً فرنسياً داعماً لمبادرة سعودية ماتت في مهدها فوقّع صفقة عسكرية برقم فلكي يتجاوز 3 مليارات يورو، وهي ذات الصفقة التي تأجل الحديث عنها حتى إشعار آخر.. وهاهو الاشعار الآخر قد حان!

صفقة عسكرية أخرى مع واشنطن لبيع وتحديث دبابات للسعودية بقيمة 2,9 مليار دولار. وبحسب وكالة رويترز فإن إدارة الرئيس الامريكي جورج بوش تعتزم بيع دبابات وتحديث دبابات للمملكة العربية السعودية في صفقة قد تصل قيمتها إلى 2,9 مليار دولار لحماية منشآت البنية الأساسية. وتشمل الصفقة المقترحة بيع 58 دبابة من الجيل القديم من طراز (ام 1 ايه ابرامز) سيجري تحديثها، كما تشمل تحديث 315 دبابة مملوكة للمملكة من طراز (ابرامز) الأحدث عن طريق تزويدها بمكيفات هواء وأجهزة رؤية بالأشعة تحت الحمراء للقادة ورماة المدفعية. وقالت وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون) في مذكرة للكونغرس يتعين تقديمها بحكم القانون ان المتعاقدين الرئيسيين سيكونان شركة (جنرال داينامكس كورب) و(وحدة لاند سيستمز) التابعة لشركة (سترلينج هايتس).

أراد الامير سلطان أن يجني ثمن دم يسفك في لبنان لتمكين مبادرته الخاوية والمشفوعة بصفقات عسكرية، بات الجميع يدرك بأنه لن يحارب بها ذباباً، فقد أصبحت تلك الاسلحة المكدّسة آلية السرقة المشرعنة لسماسرة السلاح، ومن الغريب أن صفقات الاسلحة السعودية لا تلقى معارضة أميركية أو أوروبية وأيضاً إسرائيلية، فلو كل العرب عزموا على القتال، فإن السعودية وحدها التي ستلقي بأسلحتها في البحر، وسترفع الراية البيضاء في أول قرع لطبول الحرب، كما فعلت في حرب الخليج الثانية، حين تسلّمت وزارة الدفاع الاميركية إدارة الدولة بالنيابة فيما رحل الامراء الى جدة بانتظار انهاء الاميركيين لمهمتهم.

صفقة سلاح بمليارات.. لماذا؟

من قلة حكمة الامراء أنهم لا يقرؤون مشاعر العرب والمسلمين، فالشارع العربي الذي يغلي غضباً على مواقف حكامه وهم يتواطؤون سراً وعلانية على الدم العربي في فلسطين ولبنان، ينظر الى صفقة سلطان المشبوهة مع شيراك بأنها ساخرة خاسرة، إذ لم يخطر في بال أحد أن طائرات رافال تندرج في إحداث توازن رعب بين العرب والدولة العبرية، أو أنها تدخل في سياق ردع لمنع مطر الصواريخ الهمجية على شوارع، ومبان، وأطفال، ونساء وأشجار وهواء لبنان، كما لم يخطر في بال أحد أن صفقة الاسلحة التي وقّعها الامير سلطان ستضع الجيش السعودي وليس الوطني على أهبّة الاستعداد لمواجهة العدوان الاسرائيلي على أراضيها.

وكما في حرب الخليج الثانية التي عجزت الصفقات العسكرية الفلكية عن تحقيق الردع ضد قوات النظام العراقي البائد بعد غزو الكويت في الثاني من أغسطس 1991، بحيث أصبحت مخازن الاسلحة السعودية في خدمة القوات الاميركية التي وصلت الى الاراضي السعودية بنحو عاجل، فإن كل الصفقات العسكرية التي عقدتها السعودية تكشّف أنها ليست لأغراض عسكرية بل لأغراض سياسية أولاً، بمعنى أنها تدخل في عملية تعزيز علاقات سياسية أو شراء مواقف سياسية، وثانياً أغراض مالية، حيث تقتسم الاطراف المباشرة في الصفقة رشاوى تصل في بعض الحالات الى مايقرب من خمسين في المئة من القيمة المعلنة للصفقة.

لم يعد سراً بأن السعودية تستعمل سلاح النفط سياسياً ولكن بأشكال أخرى، فهي بمداخيل النفط تشتري صفقات عسكرية تلبية لأجندة سياسية، وهي تبيع النفط بأسعار منخفضة لبعض الدول بما في ذلك الولايات المتحدة لاسترضائها أو تخفيف غلوائها.. ولكن لن تقدم على استعمال النفط كسلاح ضدي، بالرغم من أن جزءاً من هذا النفط يتحول الى وقود لطائرات العدو الاسرائيلي التي تقصف المدنيين، والابرياء، ولو امتلكت السعودية ودول نفطية أخرى الشجاعة الكافية بالتلويح بقطع امدادات النفط للولايات المتحدة لمدة 48 ساعة فقط لتوقَّف اطلاق النار بصورة فورية.

نعلم تماماً بأن السعودية لن (تحلم) بالقيام بمبادرة شجاعة كهذه، فقد ارتضت لنفسها أن تكون تابعاً غير مؤثر في السياسة الدولية بل والاقليمية، وارتضى الامراء أن يعيشوا نموراً من ورق، فقد سفّه رئيس فنزويلا شافيزا بموقفه البطولي أحلام السعودية ومصر والاردن الذين ارتهنوا للموقف الاميركي، فقرر سحب سفيره من تل أبيب وهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية احتجاجاً على العدوان الاسرائيلي، فيما تسبب (ثالوث الشر) كما بات يعرف في الشارع العربي في إحداث شرخ عميق في الرسمية العربية، وهو ما ظهر واضحاً في اجتماعات الجامعة العربية على مستويات دنيا وعليا.

كما سفّه وزير الخارجية القطري أحلام خصمه اللدود رئيس الدبلوماسية السعودية الامير سعود الفيصل في مؤتمر صحافي عقب اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت في السادس من أغسطس، حين أشار الى أن بعض المبادرات العربية قد تؤدي الى نشوب حرب أهلية في لبنان.

في العدوان الصهيوني على لبنان تخرج السعودية خاسرة سياسياً وشعبياً وأخلاقياً، وأن السياسة المزدوجة التي اعتنقتها منذ وصول عبد الله الى العرش في الاول من أغسطس العام الماضي تفصح عن التجاذب داخل مركز السلطة. السلوك الرسمي السعودي كان متصدعاً، انفعالياً، وغير حكيم، وما عقد الصفقات العسكرية مع فرنسا والولايات المتحدة في ذروة العدوان الاسرائيلي الهمجي على لبنان والمغطّى أميركياً وأوروبياً سوى نكسة سياسية وشعبية، وهو ما انعكس في نبض الشارع العربي الذي عقد على نحو فوري مقارنة بين البيان الفضيحة الذي برّأ ضمنياً العدوان على لبنان وبين صفقة عسكرية يدرك الجميع بأنها ليست لأغراض عسكرية ولا دخل لها في التوازن العسكري.

صفقات الاسلحة الفلكية كانت وراء نضوب المال العام في العقدين الماضيين، وهي السبب في تكبيد المواطنين خسائر فادحة في أحوالهم المعيشية، حيث ارتفعت نسبة البطالة، وتدهورت الخدمات العامة، وانخفضت بصورة حادة مستويات التعليم والصحة، وبلغ الثراء الفاحش لدى الملك والأمراء حداً مسرفاً في خطورته وكارثيته.

بات معروفاً أن الامير سلطان الذي جنى من صفقات الاسلحة الفلكية مليارات الدولارات، الى جانب مليارات أخرى حصدها من المملتكات العامة والخاصة عنوة وغصباً يطمح لصناعة ثروة تفوق ثروة شقيقه الملك فهد الذي بلغت ثروته ما يربو عن 400 مليار دولار، وسجّل إسمه في المرتبة السابعة في قائمة أكبر الاثرياء في تاريخ البشرية. مصادر مطلّعة على أحوال الامير سلطان تفيد بأنه يحلم بأن يكسر رقم شقيقه الراحل، بالرغم من الخلاف المحتدم بين الملك والأمراء حول صفقات الاسلحة غير الضرورية التي تعيق برنامج إعادة بناء الاقتصاد الوطني وتسديد الديون الداخلية، وتحسين ظروف السكان معيشياً واجتماعياً.

الامير سلطان، كما شقيقه الراحل، لا يعنيه ما يصيب المواطن من ويلات جراء صفقات عسكرية مليارية تكون غطاء للنهب من المال العام، ويخشى أن تفتح زيادة المداخيل النفطية شهيّة النهّابين الكبار والصغار فيما ينتظر المواطن انعكاساً لهذه الزيادة في تخفيف المعاناة العامة.

الصفحة السابقة