الـدولـة الـتـابـعـة

مصداق سيادة الدولة استقلالها في صنع القرار.. فحين تكون الدولة عاجزة عن تحقيق ذلك تفقد سيادتها وتكون تابعة لغيرها، ويصدق عليها مسمى الدولة المملوكية بحسب المفكر الفلسطيني عزمي بشارة. ويمكن القول بأن تجربة العدوان الاسرائيلي على لبنان كشفت عن غياب الدولة العربية الحقيقية، حيث بدا الارتهان للخارج سافراً، وافتضح هزال بنية الكيانات السياسية العربية.

نقرأ في الموقف السعودي الرسمي طيلة مدة العدوان هشاشة بنية الدولة، وانفراط عقدها.. كما نقرأ ضعف العقل السياسي والجهاز الدبلوماسي السعودي الذي يتحرك في غياب رؤية واضحة لسياسته الخارجية، وانما يعتمد الانفعال وردود الفعل في مواقفه.

باتت السعودية في موقع سياسي وديني وشعبي لا يحسد عليه، فالاخطاء المتراكمة قبل وخلال ثلاثة وثلاثين يوماً من العدوان الاسرائيلي على لبنان حرمتها من فرصة البراءة من الضلوع غير المباشر في العدوان.. عزلت نفسها عن الشارع الشعبي الذي كان أنزه من كل مواقفها، ولم يرحمها حلفاؤها الذين خذلوها حين كشفوا عن أهدافهم البعيدة، ولم يحترموا سيادتها واستقلالها، بل عمدوا الى تأكيد تابعيتها لهم. فالتوازن المعدوم في المواقف السعودية قد نفهمه على أنه صراع داخل السلطة، ولكنه لا يغيّر من حقيقة الخطأ الفادح الذي ترتكبه الدبلوماسية السعودية فدفعت ثمناً باهضاً فلا هي حققت هدفاً مشتركاً بالقضاء على المقاومة ولا هي ضمنت استقلالها وسيادتها، بل فقدت مسمى الدولة.

الحكومة قد تحضر مالياً في لبنان ولكن ليس لمساعدة الفقراء والضحايا، ولكن لدعم حلفائها في الحكومة اللبنانية، وليس هناك في لبنان من يتوقع أن تضطلع الحكومة السعودية بدور ما في إعادة إعمار المباني المدمّرة في الضاحية الجنوبية أو في قرى الجنوب اللبناني، أو قرى البقاع.. وليس هناك من يقايض الدم بالمال، فسيكتب التاريخ بأن السعودية وقفت الى جانب المشروع الاميركي الاسرائيلي في عدوانه على الاطفال والنساء والشيوخ في لبنان.

في اليوم الاول لوقف اطلاق النار في الرابع عشر من أغسطس بدأت الوفود الشعبية والدبلوماسية بالتوجّه الى الضاحية الجنوبية للاعراب عن تضامنها مع المقاومة والمشاركة في احتفال النصر التاريخي على الهمجية الاميركية ـ الاسرائيلية. السعودية غابت عن حملة التضامن دبلوماسياً، فيما حضرت وفود دبلوماسية خليجية، كما غابت خلال أيام العدوان حيث كانت شاحنات المساعدة تنطلق من الامارات والكويت وقطر والبحرين. لا بد أن الذين نزحوا من لبنان خلال العدوان وعادوا اليها فور وقف اطلاق النار لحظوا الحضور القطري اللافت على الحدود البرية بين سوريا ولبنان حيث كان المتطوّعون في الحملة الانسانية القطرية يوزّعون المواد الغذائية، ويعالجون المرضى، ولابد أن هؤلاء لحظوا شاحنات المساعدات الغذائية وسيارات الاسعاف القادمة من الامارات وهي تستعد للدخول الى لبنان عبر الحدود البرية بالرغم من المخاطر، ولابد أنهم لحظوا حملة التبرعات الانسانية من الدولة الخليجية الصغيرة والفقيرة (البحرين).

كل هؤلاء بالرغم من خذلان الموقف الرسمي العربي ساهموا بمواقف إنسانية وسجّلوا حضوراً في لحظة تاريخية. لم تحضر السعودية دبلوماسياً ولا انسانياً في تلك اللحظة، ويحتمل غيابها في لحظات تاريخية لاحقة، فقد شغلتها معاركها السياسية عن التفكير في البعد الانساني والشعبي. وكما أخطأت في العراق حين غفلت عن البعد الانساني والشعبي ها هي تكرر الخطأ ذاته فتخسر مرتين: سياسياً وشعبياً.

المقاومة اللبنانية انتصرت باعتراف قادة الدولة العبرية، ويجب أن تستوعب الحكومة السعودية هذه الحقيقة وأن مغامرة المقاومة كشفت فداحة (الحكمة) السعودية، وهذا يتطلب تغييراً حقيقاً في الرؤية الاستراتيجية من أجل التعاطي بصورة صحيحة مع تلك الحقيقة الناصعة على الارض، ومع حقائق أخرى كانت مجهولة في التفكير السياسي والاستراتيجي السعودي. إن انتصار المقاومة هو بلا شك انتصار لخيار عربي وإسلامي ويجب استثماره بصورة صحيحة لتحقيق الاستقلال الحقيقي للدول العربية، فانتصار المقاومة هو سقوط الخيار الاميركي ـ الاسرائيلي الذي كان موجّهاً في أحد مساراته لتقويض النظام الشرق أوسطي الحالي بكل مكوّناته.

سقط التحالف الاستراتيجي في العدوان على لبنان، ومن العقل أن تعيد الحكومة السعودية ترتيب أوراقها السياسية، بدلاً من الوقوع في حبائل التجاذبات الصغيرة التي تجري على الساحة اللبنانية، والتحوّل الى مجرد حزب سياسي في شكل دولة. إن وجود مصالح حيوية مشتركة مع الولايات المتحدة والغرب لا يغني عن ضرورة بناء قاعدة من العلاقات المتماسكة في المجال الجيوسياسي للدولة. فالتعويل على مصالح مع البعيد ليس بديلاً عن مصالح أخرى مع الاقرب جغرافياً وحضارياً، ويكفي أن تجربة العدوان كشفت عن أن ليس هناك تحالف استراتيجي حقيقي بين السعودية والولايات المتحدة أو أية دولة غربية أخرى، فهذا التحالف المصيري معقود بين الولايات المتحدة والدولة العبرية فحسب، وغيره مجرد توافقات عابرة على قاعدة مصالح مشتركة، ويجب ألا ننخدع بما يقال عن وجود تحالفات استراتيجية مع قوى كبرى لها تطلعات كوّنية تتجاوز حدود الجغرافيات السياسية الاقليمية.

في المحصلة، فإن الحكومة السعودية بحاجة الى إعادة تقييم مجمل سياساتها الخارجية التي لم تحقق سوى قائمة أخطاء فادحة، هكذا حصل في أفغانستان، والعراق، وفلسطين واخيراً في لبنان. في الواقع، إن الحكومة السعودية أمام منعطف خطير على المستوى العربي والاسلامي، حيث تفقد مواقعها تباعاً في سبيل ترميم علاقاتها الدولية، فقد أحرقت مراكبها في (مغامرة) بدت تتضح بأنها خاسرة بل كارثية، وقد يأتي اليوم الذي تفقد فيه كيانها بحسب خطة رايس التي لا تستثي أحداً.

الصفحة السابقة