ثمن سعودي بخس لبضاعة غير معروضة للبيع

العلاقات السعودية السورية من الإمتعاض الى الأزمة

حلف سعودي أردني مصري ضد المقاومة

هناك أزمة سعودية سورية، انفجرت بعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

هل كان مقتله سبباً للأزمة؟

ربما. فالسعودية تتبنّى نظرية أن المخابرات السورية هي من تولّى اغتياله.

هل كان السبب يعود الى العلاقات السورية الإيرانية المتميّزة منذ قيام الثورة الإيرانية؟

ربما. فالسعودية قبلت على مضض بذلك التميّز في العلاقات في عهد الرئيس حافظ الأسد، الذي أقنع حلفاءه السعوديين بأهمية تلك العلاقات لسوريا على الأقل وهي تصارع اسرائيل على حدودها، كما أنه أقنع السعوديين بأهمية ضبط الإندفاعة الإيرانية من خلال علاقة سوريا، بما يصبّ في صالح الدول العربية وخاصة الخليجية منها. فسوريا ـ كما رآها الأسد الأب ـ هي مفتاح علاقة العرب مع إيران، وهي أداتهم ـ إن شاؤوا ـ للضغط عليها، أو للتفاهم معها. ولكن السعوديين اكتشفوا ـ متأخرين ربما ـ بأن العلاقة السورية ـ الإيرانية أكثر أهمية واستراتيجية لدمشق من علاقتها المائعة مع مصر والسعودية، التي رأى السوريون أنها محدودة الفائدة فيما يتعلق برؤية سوريا لموضوع السلام، بحيث تحولت تلك العلاقة الى أداة ضغط بيد الأميركيين والغربيين عليها أكثر من كونها أداة دفاعية لهم.

أم أن العقدة الطائفية تعود مرّة أخرى فجعلت اللاعبين لا يرون الأمور إلا من خلال نافذتها؟

ربما أيضاً. فالسعودية ليست بعيدة عما قاله حلفاؤها في الأردن ومصر من خطر (الهلال الشيعي) الذي تحدث عنه الملك الأردني، وما قاله الرئيس المصري بشأن (ولاء الشيعة العرب لإيران وليس لأوطانهم). السعودية في الأصل كانت مصدر هذه الدعاوى منذ عقود طويلة، خاصة في بداية التسعينيات الميلادية من القرن الفائت، والسعودية تأخذ البعد المذهبي الى مراحل متقدمة ـ كما هو معهود عنها ـ فهي متشربة به، ليس بالمنظور السياسي فحسب، ولكن بالمنظور العقدي.. خاصة وأن أيديولوجيا النظام السعودي ملتصقة بالرؤية الطائفية للشؤون السياسية. قد تتجاوزها أحياناً بحذر، ولكنها مستقرّة في وجدان (صانع القرار السياسي السعودي) الى أبعد الحدود. وبالنسبة لسوريا، فالجميع يلمح ولا يصرّح بالتقارب المذهبي بين سوريا وإيران، وهذا تأخذه الحكومة السعودية على محمل أكثر من الجدّ نفسه.

وأخيراً هل هي ورقة السلام مع اسرائيل التي أفضت الى وقوف (السوري) و (حماس الفلسطينية) (وحزب الله اللبناني) في خندق مخالف للسعودية ومشاريع سلامها هي ومصر والأردن؟

ربما ثالثاً ورابعاً وعاشراً. فسوريا ـ المعنية في الصميم ـ بالموضوع، كون بعض أراضيها محتلة، لا تقبل من دول وقعت اتفاقات سلام مع اسرائيل، او طرحت مشاريع سلام، أن تملي عليها مواقف ترى أنها متخاذلة. هذا ما قاله بشار الأسد في خطاب أخير له. فالسعوديون والمصريون والأردنيون هم من يجب أن يستمع الى صاحب القضية سواء كان فلسطينياً أو لبنانياً أو سورياً ويقتربوا من آرائه لا العكس. وهم من يجب أن يأخذ دور المؤازر، لا دور المعترض بالنيابة عن أميركا واسرائيل. وقد قال الأسد الإبن بأن قضايا بلاده ليست للبيع، وأشار الى أنه لا يقبل بأي حال من الأحوال أن يطبخ الثلاثي الأردني السعودي المصري اتفاقات سلام دون أخذ رأيه، فلا أحد أوكل له هذه المهمة: لا حماس التي فازت بالإنتخابات، والتي يشتمها ذلك الثلاثي، ولا دولة لبنان كما مقاومته، ولا سوريا نفسها. فلماذا ينزعج هؤلاء إن أراد السوري تحصين نفسه سياسياً بمواقف المقتربين منه في النهج، ويبتعد عمّن يأخذ المبادرة بيده بدون توكيل من أحد، خاصة وأنه أقرب الى موقف اسرائيل منه الى موقف أصحاب القضية أنفسهم؟

السعوديون قد يكونوا منزعجين من كل هذه القضايا التي طرحت آنفاً. ولا يبدو أن لديهم المبرر الكافي لأخذ الأمور الى التصعيد.

السياسة السعودية مجرد ملحق للسياسة الأميركية

التصعيد السعودي مع سوريا كان واضحاً بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري. فالسعودية ـ على الأقل من الناحية القانونية والسياسية ـ كان يجب أن تتحرك بحذر، لكنها عجلت باتخاذها موقف المتهم المتأكد من أن مقتل الحريري كان قد تم بيد سورية. قد يكون الإتهام صحيحاً، ولكن السعودية عجّلت بتقريع الرئيس الأسد، وأهانته حين زارها في الرياض، ونقل كلام عن الملك عبد الله يحقّر فيه الأسد وأنه لم يمض وفق سنّة والده. وزاد السعوديون بأن أظهروا بصورة من الصور أنهم غير راغبين في علاقة مع النظام السوري، كما وأظهروا تشجيعاً على اسقاطه، من خلال حلفائهم في لبنان، أو من خلال احتضانهم للإنشقاق عليه كما حدث مع عبد الحليم خدام، الرجل المعروف بقربه من السعودية.

جاءت الحملة السعودية في وقت بدأت فيه بعض الأوساط السعودية تتحدث فيه عن إعادة التوازن في المشرق العربي، فهناك خسارة في العراق لنظام حكم سنّي، يجب تعويضه بإسقاط نظام الأسد (العلوي)، وقيل أن هذا الأمر قد ناقشه مسؤولون سعوديون مع الولايات المتحدة الأميركية التي كانت تطرق رأس النظام السوري بمطرقة ضخمة، فأخرجته مهاناً من لبنان، وهددته ولاتزال بسلاح المحاكمة الدولية الموجهة سياسياً، وزادت على ذلك بأن اوصلت التهديد حدّ اجتياح سوريا نفسها عسكرياً، وقيل أن الطائرات الأميركية في العراق قد اخترقت الأجواء السورية مراراً بل وقصفت بعض المواقع على الحدود.

من خلال اعادة النظر في سياساتهما تجاه سوريا، رأت الولايات المتحدة واسرائيل أن تهديدهما يجب أن يستمر حتى يقدم نظامها الكثير من التنازلات سواء فيما يتعلق بالعراق أو بحزب الله في لبنان أو بشأن المنظمات الفلسطينية وقياداتها في دمشق وعلى رأسها قيادة حماس، فضلاً عن تقديم تنازلات داخلية تتعلق بمسيرة الإصلاح السياسي، التي تتخذ منها واشنطن ذريعة للتدخل في الشأن الداخلي السوري. لكن الدولتين ـ اسرائيل واميركا ـ أدركتا منذ البداية ان تغييرا مفاجئاً لنظام الحكم في سوريا، قد يؤدي الى وصول قوى اسلامية (اصولية) قد تكون أخطر على اسرائيل من النظام القائم فعلاً.

الحكومة السورية وجدت السعوديين منغمسين في مسألة زعزعتها، وفهم القادة السوريون أن السعودية من الناحية العملية قد (قطعت شعرة معاوية) واصطفت الى جانب أميركا وحليفتها اسرائيل، وأن حماستها في تغيير نظام الحكم أخذت طابعاً طائفياً أكثر منه سياسياً، ودون إدراك واعٍ لتبعات موقفها على الحكومة السعودية نفسها في حال تغيّر نظام الحكم، فكل ما كان يهم السعوديين هو اثبات أنهم لازالوا قادرين على تقديم خدمات استراتيجية لواشنطن (خاصة بعد 9/11 مع تأكيد أن ما جرى مجرد سحابة صيف)، سواء كان بصورة منفردة، أو بتعزيز عرى التحالف مع عمّان والقاهرة، وهو تحالف بدا وكأنه قام أساساً على قاعدة تحجيم سوريا واستهداف نظامها. على الأقل هذا ما شعر به المسؤولون السوريون.

لكن السعودية في حقيقة الأمر، كانت مستاءة من النهج السياسي السوري عامة منذ وصول بشار الى الحكم. فهي وجدت فيه شاباً (راديكالياً) لا يتمتع بحصافة والده في إدارة الأمور السياسية سواء على صعيد العلاقات معها أو على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي. ومنذ وصول بشار الى سدة السلطة، بدأت السعودية تتحلّل من التزاماتها السياسية والمالية وحتى الأدبية تجاه سوريا، واخذت تتجاهل مكانتها وموقفها في كل مخططاتها المتعلقة بالسلام مع اسرائيل. وهذا وإن كان قد شكل ورقة ضغط على دمشق، فإن الأخيرة لم تجأر بالشكوى الحادّة، ولم تسع لتوتير علاقاتها مع الرياض، التي فقدت بسياساتها تلك رصيدها في دمشق، ولم تعد لديها أوراق ضغط على نظام الحكم فيها.

اكتشفت السعودية متأخراً أنه في سنوات جفائها مع دمشق، وفي وقت كانت فيه الأخيرة بحاجة ماسة الى الدعم السياسي والمعنوي قبل المادي، لمواجهة ضغوط واشنطن وتل أبيب، لم تجد إلا حليفتها طهران لتقف معها، وإلا حليفيها حزب الله والمنظمات الفلسطينية خاصة حماس والجهاد الإسلامي.. وان دمشق قد رتّبت أوضاعها على أساس استراتيجي مختلف، يأخذ بعين الإعتبار أن الحلف السعودي المصري الأردني قد تحوّل بالكامل ضدّها وفي العمق.

وحين اندلعت المواجهة بين حزب الله واسرائيل، رأت السعودية أن (سوريا) هي السبب المباشر، وأنها تسعى لمناهضة مواقعها المتميزة في لبنان عبر فريق 14 آذار، فصبّت جام غضبها على الأسد ونظامه، إعلامياً وسياسياً، وزادت الحقنة الطائفية في الخطاب السياسي السعودي، وتهجّمت على الموقف السوري بصورة لم تكن مألوفة في الخطاب السياسي السعودي، مثلما قد حدث بالفعل من مناوشات في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، كما شنّت حملتها المعروفة على حماس وحزب الله ومن ورائهم جميعاً إيران. كأن السعوديين اكتشفوا أن حلف دمشق ـ طهران ـ حزب الله ـ حماس قويّ منيع، لكن رهانهم ـ كما ظهر في المواقف السياسية والإعلامية ـ كان على (حتمية) نجاح الحرب الإسرائيلية الأميركية على لبنان وحزب الله، والتي ستؤدي ـ من وجهة نظرهم ـ ليس فقط الى هزيمة الحزب، بل والى إنهاك واستسلام دمشق وربما طهران أيضاً.

دمشق ـ طهران: من يفكك التحالف ولماذا؟

وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن السعودية. وانتصر حزب الله. وخسر حلفاء السعودية في لبنان ومعهم حلفاؤهم الأميركيين والفرنسيين والإسرائيليين. وإذا باللغة السعودية ـ المصرية ـ الأردنية تتغير تجاه دمشق. بدأ التغيير في اسرائيل على لسان وزير دفاعها الذي حبّذ مفاوضات مع سوريا، فكانت أصداؤه في القاهرة وعمّان (تقدمت بمشروع سلام! اخيراً) والسعودية.

شعر الأسد بنشوة الإنتصار فكان خطابه بعيد وقف اطلاق النار في لبنان تهجمياً على السعودية بعد أن بلع الموسى مراراً وهو يئن تحت وطأة الضغوط العربية والأميركية والأوروبية. كأنه أراد الإنتقام أو على الأقل التنفيس ولكن (بأثر رجعي). قال في إشارة الى البيان السعودي: (إذا كان المقاومون مغامرين فهل نقول أن سلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو ـ زعماء الاستقلال السوري ـ وسعد زغلول مغامرون). وأضاف بأن: (المقاومة الوطنية اللبنانية ضرورية بمقدار ما هي طبيعية وشرعية). وتابع: (كلما حصل اضطراب يقولون لنا: لماذا ورطتمونا؟ كل بلد مسؤول عن نفسه. قد يكونون قالوا هذا للمقاومة. إلا أننا لا نطلب من أحد أن يحارب نيابة عنا ولا مكاننا).وأضاف بأن على الدول العربية (ألا تتبنى رؤية العدو وألا يكون دورها على حساب مصالحنا. إذا أراد أحد أن يلعب دورا لأسبابه الداخلية على حساب قضايانا فهذا غير مقبول. لم نقرر أن نعرض قضيتنا للبيع في السوق الدولية أو أي سوق أخرى).

كان رد السعوديين محسوباً، فقد ظهر في تلك الفترة حديث عن محاولة استرداد سوريا للتحالف الثلاثي العربي! حتى يتم عزل حماس وحزب الله وإيران! وعدا عن بعض الردود الإعلامية التي ظهرت في القاهرة وعمان والرياض والتي ردت على خطاب الأسد، فإن المسؤولين في تلك الدول حاولوا التهدئة، والحديث عن حاجة العرب لسوريا كما هي بحاجة اليهم، والعرب هم الثلاثي إياه، وكأن سوريا قد خرجت اصلا من عروبتها، ومن الجامعة العربية. سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، علق باقتضاب على خطاب الأسد بأن أعرب عن أمله في أن يرى (السوريون ميزة المحافظة على وحدة الموقف العربي)!

من يستطيع استرداد سوريا بعد اقصائها ومحاصرتها، وبأي الوسائل، وما هو الثمن؟

هذا السؤال فكر فيه الأميركيون والصهاينة قبل السعوديين الذين يبادرون بسرعة للتحرك وفق ما يظهر في الأفق من توجهات أميركية.

الحلف الثلاثي الذي حاصر حماس وجوّع الشعب الفلسطيني بالتعاضد مع اوروبا واميركا واسرائيل وجماعة محمود عباس، رأى عبر السعودية أن يتبرع ببعض المال متأخراً، لا يتوقع له أن يصل في المدى القريب، والفلسطينيون لازالوا جائعين وهم على أبواب رمضان. والهدف إعادة حماس للحضن السعودي بعد أن خسرته إن أمكن ذلك، أو على الأقل إعادة محمود عباس وجهازه الى السلطة مجدداً بغض النظر عن نتائج الإنتخابات الفلسطينية.

وفي لبنان أعلن السعوديون في غمرة الحرب، ومن أجل امتصاص النقمة العارمة ضد بيانهم المغامر، التبرع بخمسمائة مليون دولار، لم يصل منها شيء حتى كتابة هذه السطور، الأمر الذي دفع بالسنيورة للذهاب الى الرياض من أجل استعجالها، في حين كان وزير المالية السعودي يطوف بالضاحية الجنوبية لبيروت، ويشير الى أن السعودي (سـ)ترسل بأسرع وقت تبرعاتها!

صح النوم! أبمثل هذا التكاسل بل الترهل يمكن مواجهة نشاط وفاعلية من يعتبرون أعداءً او منافسين: الحلف الإيراني ـ السوري ـ الحزب اللهي ـ الحمساوي؟! ثم يأتي التأكيد على مرجعية الدولة في حين هي غائبة تطالب بحقها وتنسى واجبها، وقد سبقها حزب الله بسرعة الصاروخ ليقوم بدور الدولة، حتى أن وزير الخارجية الفرنسي حثّ السعودية ودول الخليج للمبادرة بمساعدة لبنان قبل أن (يُبتلع) من حزب الله! ويعود لبنان الى حضن سوريا مرة أخرى! فيا للغيرة الوطنية والعربية!

اما كيف سيسترد السعوديون سوريا، وهو المهمة الجديدة الموكولة أميركياً للحلف الثلاثي خاصة السعودية، فلا أحد يعرف وسائلها، وما عهدنا السياسة السعودية قائمة على الفعل بقدر ما هو ردّ الفعل، خاصة في سنيّها الأخيرة، وما عهدناها تقوم على الرؤية الإستراتيجية بعيدة المدى، وهي للحق غير قادرة على ذلك، لأن المطلوب من السياسة السعودية أن تضبط إيقاعاتها على ما تريده واشنطن، وبالتالي فما يحدث من تغيرات غير محسوبة بل واضطرابات في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، يجب على السعوديين أن يكيّفوا سياستهم وفق تقلباتها، وهكذا فالتابع لا يمكنه أن يفكر استراتيجياً وفق حساباته ومصالحه الخاصة.

امتعاض سعودي من الأسد وحماس

السعودية من جهة لا تستطيع أن تقترب كثيراً من العقلية السورية وفلسفتها في إدارة الصراع، وبالقطع فالسعودية لن تقبل بدور الرديف للسياسة السورية فيما يتعلق بكيفية ادارة المعركة مع اسرائيل سلماً أو حرباً، فالسعودية تعتبر نفسها عنصراً أصيلاً وأكثر من شريك بل وترى في نفسها الجدارة بتقرير سياسة العرب جميعاً في هذا الشأن، سواء كان هؤلاء في ساحة مواجهة (سوريا او لبنان او فلسطين) أو بعيدين عن ساحة الصراع.

ولا يتوقع ايضاً أن تستخدم السعودية تحالفها مع فريق 14 آذار، للتخفيف من الهجوم على سوريا ورئيسها، أو حتى التخلّي عن مشاريع إسقاط النظام السوري، كتلك التي يطلقها بين الحين والآخر النائب وليد جنبلاط، فضلاً عن مسألة المحاكمة الدولية بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتي يظهر منها أنها سيف غربي ـ أميركي ـ اسرائيلي مصلت على رقبة النظام في سوريا. بالإضافة الى كل هذا، فإن هناك حقيقة لا يجب أن تغيب عن الأذهان، وهي أن ملف نشاط 14 آذار قد خرج بالكامل من دائرته العربية ـ السعودية خصوصاً ـ وصار ملفاً دولياً تمّ تسليمه لواشنطن وباريس، ولذا فإن قدرة السعودية على ممارسة نفوذها لدى فريق 14 آذار لن يكون ناجعاً اللهم إلا إذا كان ذلك يأتي ضمن سياق السياسة العامة لواشنطن، ونحن ندرك أن الأخيرة لا تريد تهدئة بين ذلك الفريق ودمشق، وعليه لا تستطيع السعودية حتى مجرد الوعد بأن ذلك الفريق الحليف سيهدّئ من اللعبة من أجل ما يسمى (استعادة دمشق عربياً)!

بقي شيئان يمكن للسعوديين أن يعدوا دمشق بهما: الأول، هو إيقاف الدعم عن حليفيها المعارضين وإخراسهما بصورة من الصور: خدام، ورفعت الأسد. والثاني هو المساعدات المالية، التي توقفت منذ زمن بعيد عن سوريا، فبكم سـ (ترشي) السعودية دمشق من أجل جذبها اليها؟ وهل أولوية النظام السوري حماية نفسه وتحرير الجولان، أم حل مشاكله الإقتصادية؟ وما هو الثمن المترتب عليه إزاء المساعدات السعودية لو تمّت؟ في أحسن الأحوال فإن السعودية لا تعرض استراتيجية تلاقي مع دمشق تشمل كافة الموضوعات التي تهمّها، فكل ما يهمّ السعوديين هو محاصرة ايران والقضاء على حزب الله وتطفيش وتهميش حماس، وحتى الآن لا يوجد ثمن تستطيع السعودية دفعه من أجل ذلك، وما تعرضه مجرد ثمن بخس لبضاعة غير معروضة للبيع أصلاً، كما قال بشار الأسد.

مصادر سعودية قالت أن دمشق بعد خطاب الأسد حاولت التخفيف على السعوديين من وطأة حديث لم يكن متوقعاً، ولكن الأخيرين لم يقبلوا التوضيح السوري لموقفهم، ورفض الملك عبدالله استقبال مبعوث سوري قيل انه وصل الى جدة بداية سبتمبر، وأنهم همسوا في إذن دمشق بأن الطلاق بين البلدين قد وقع. إذا صحّ هذا، فالسعوديين سيكونوا هم الخاسر الأكبر على المدى القريب والبعيد، استراتيجياً وتكتيكياً. سيخسر السعوديون قليلاً أو كثيراً من نفوذهم في لبنان. سيخسرون القوى الفلسطينية الحيّة الصاعدة: حماس والجهاد وبقية الفصائل المقاومة، مع ما يترتب على ذلك من توهين لشرعيتهم في العالمين العربي والإسلامي، إذ ان القضية الفلسطينية والصراع مع أميركا واسرائيل صار جزءً أصيلاً من شرعية كل النظم العربية، وبقدر ما يبتعد نظام عن تلك القضية، فإن شرعيته في بلده تتزعزع، خاصة بالنسبة لبلد يضع نفسه في قائمة الزعامة العربية والإسلامية. ومثل هذا الفعل سيشكل تحدياً لأيديولوجيا النظام نفسه، وستتعرض لخسائر خارج محيطها السعودي. وباختصار فإن السعودية تجازف بسمعتها وشرعيتها في الداخل والخارج.

وزيادة على هذا، فإن (إعلان الطلاق) يضع المنطقة أمام سياسة محاور متصارعة بصورة حادّة. خاصة بين تحالف دمشق ـ طهران الذي يمتد الى فلسطين ولبنان، وهو تحالف ناهض قد يتصل بالعراق في حال فشل المشروع الأميركي فيه، مقابل تحالف عمّان ـ القاهرة ـ الرياض. ومن الواضح في هذه اللحظة على الأقل، أن الخاسر هي الرياض وحلفاؤها، إذ لا قوة ذاتية لهذا الحلف إلا بواشنطن واسرائيل وأوروبا، وإذا ما استمرت خسائر هذا الحلف المتنامية يوماً بعد آخر في المنطقة الإسلامية الممتدة من افغانستان وحتى غزة، فإن مستقبل السعودية سيكون قاتماً (البعض يقول سواء نجح الغرب والأميركيون في مشاريعهم أو فشلوا، فإن السعودية ستكون خاسرة بكل المعايير ولن تأمن على مستقبلها).

الصفحة السابقة