الدولة الشوفينية

يستبد شعور التميّز بالعائلة المالكة الى حد أن أفرادها يدرجون أنفسهم في جنس آخر من الكائنات الراقية، فهم لا يشعرون بأنهم جزء من مجموع السكان، بل هم يمثّلون طبقة نبلاء أصفياء عنصراً ونسباً، وبقية الناس ليسوا سوى مجرد مخلوقات ناقصة ومنحطة، وهو ما يعكسه سلوك الأمراء إزاء السكان، ويتغذى هذا الشعور بالكمال والتميّز العنصري على عقيدة مزعومة بأنهم يمثّلون أمناء على إرث تاريخي يخوّلهم الاحتفاظ بالسلطة للأبد، وأن غيرهم مدين لهم بما تحقق على أيديهم، وبالتالي فإنهم يحكمون وفق حق خاص واميتاز لا يقاسمهم أحد فيه.

تعبّر تلك النزعة الشوفينية لدى الطبقة الحاكمة نفسها في سلوك الحكام وتضطّرد في سياسات والتركيبة الادارية للدولة وتتنزل الى روابط المجتمع بمختلف فئاته. تمظهرات ذلك تتجلى في حصص التمثيل في الجهاز الاداري والمقرر من قبل العائلة المالكة، وفي توزيع الثروة والسلطة بحسب موقع المنطقة والتي تمثّل رموز الهاتف لكل منطقة عاكساً أميناً لموقعها في النظام التراتبي الاداري والاقتصادي والاجتماعي.

ثمة تقليد شائع في العائلة المالكة لم ينطبق سوى في حدود ضيقة على الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، بناء على أمر إلهي وهو أن أزواجه لا يتزوجون غيره بعد وفاته، حيث يصبحن أمهات للمؤمنين بنص القرآن الكريم. التقليد في العائلة المالكة يقضي بأن أفراد العائلة المالكة يتزوجون من غيرهم ولكنهم يحظرون زواج بناتهم من غيرهم، ولعل قصة الأميرة مشاعل شاهداً بارزاً على ذلك، وقد أدى زواجها من لبناني الى قطع رأسها بالسيف. وأكثر من ذلك، فإن النساء التي يطلّقهن الملوك والأمراء يبقين بلا زواج مدى العمر، بالرغم من أن بعض الزيجات تمت لليلة واحدة أحياناً ولكنهن، رغم ذلك، يحرمن من الزواج بقية حياتهن.

ومن المفارقات المثيرة أن النزعة الشوفينية لا تظهر الا في مقابل من يحكمون، فيما تتوارى أمام من ينبذون تلك النزعة، فيقدّمون لها تبريرات دينية. ينقل جون فيلبي أن الملك عبد العزيز قال له ذات مرة بأنه على استعداد للزواج من إبنته ولكنه لن يقبل الزواج من بنات مكة. مبرر ذلك، أن فيلبي من أهل الكتاب ولكن بنات مكة مشركات حسب عقيدة ابن سعود!

يقسّم الأمراء بحكم نزعتهم الشوفينية الى من هم أقرب وأبعد الى عنصرهم، ومن هم مطيعون وعصاة، ومن هم موالين أو معارضين، ومن هم وجوه القوم ومن هم سواد الناس، وهي معايير يحددها الأمراء بوحي من نزوعهم الى تمييز السكان الى أعراق متفاوتة الشأن والقدر.

يرى الأمراء أنفسهم وكأنهم يلعبون دوراً عظيماً في المجتمع والتاريخ، بدعوى أنهم حرسوا حضارة الأمة، عبر تنمية العمران المدني في ضوء حاجات الاجتماع، وحققوا معجرة إقتصادية وتعليمية وتنموية وكأن حركة التاريخ لا تبدأ الا حيث يشتعل الوقود الوفيني المضطرم، فهم وحدهم مفتاح التغيير، والاصلاح، والتنمية، ويحتفظون بشيفرة الانتقال التاريخي للأمة.

لا يقبلون القسمة مع أحد من خارجهم، لأنهم صفوة الخلق، فإذا منحوا كان خيراً منهم وإذا منعوا كان حقاً لهم. وهنا تكمن إرادة النكوص عن التغيير الذي يطال ما يرونه امتيازاً تاريخياً، فإذا طولبوا بالانصاف يرفعون العقائر منددين بكل من تسوّل له نفسه التطاول على المقامات العلى، والتطاول هنا ليس شيئاً آخر غير المطالبة بالشراكة السياسية وتقاسم الثروة والسلطة.

يتصرفون في المال العام وكأنه صندوق العائلة، لا يقبلون حساباً ولا يرتضون عتاباً، فهم وحدهم أهل الحساب وأهل العقاب. يفعلون كل ذلك لأن ثمة شعوراً ثاوياً في داخلهم بأنهم ليسوا سواء مع غيرهم، فهي دولة ابن سعود وأبنائه، ويتصرفون فيها كمن يتصرّف المالك في ملكه.. وقد نزعوا الاملاك العامة والخاصة تحت ذات المبرر، وقد قالها أكثر من ملك وأكثر من أمير بأن مالكم لنا ومالنا هو لنا وحدنا، وقالها آخر: بأنك وما تملك هو لنا وما نعطيه فهو منّة منا.

حين يدخلون المجالس لا يجلس من حضر الا بعد أن يجلس الملك أو الأمير، ويعمد أحدهم للبقاء واقفاً زمناً طويلاً لا لشيء سوى للتلذذ بإهانة من في المجلس، كذا يفعلون حتى في المطارات حين يرحلون وحين يقدمون من سفرهم فلا يصعدون ولا يهبطون الا بعد أن أشبعوا من قدم لاستقبالهم ووداعهم جرعات ذل مكثفة..تغمرهم نشوة عارمة بالسعادة حين يسخرون من زوّارهم ويذكّرونهم بأنهم أسراء نعمة يغدقها عليهم هذا الأمير وذاك.

يسلك بهم النزوع العنصري مسالك المهالك فيقترفون منكرات عظام، من قتل وسلب ومصادر ممتلكات ثم يعقدون مجلساً للنسك والتعبّد عشاءً ليخفون به ما اقترفته أيديهم في النهار عبر الخويا ـ العبيد الذين يحمِّلونهم وصمة الخضوع على جباههم!!

بلغوا أقصى طموحهم، فأصبحوا طبقة تأتمر بأمرها الرعية (ولكم أن تتصوروا دلالة الرعية ومشتقاتها)، ليؤكدوا تابعية المحكومين وقصورهم عن أن يبلغوا رشداً إنسياً يمكّنهم من أن يتكافأوا مع من يشتركون معهم في الانسانية أسوة بالاسوياء. هم يؤكدون ذاتهم بالتشديد على تميزهم العنصري، وهو الحافز على إبقائه فعلاً وسلوكاً مهيمناً على كل العائلة المالكة، فلا يجوز لهم أن ينظروا الى عامة الناس بأنهم سواسية كأسنان المشط، فثمة قصور ذاتي وتكويني يحول دون أن يكونوا كذلك، أي أسوياء لهم ما لهم وعليهم ما عليهم كما أفراد العائلة المالكة. فالاخيرة على استعداد لأن تنتهج طريق الشر كوسيلة لتحقيق وتأكيد ذاتها العنصرية المتفوّقة، وهو نهج يحكم الرؤية كما يحدد علاقة العائلة المالكة بالدولة والمجتمع.

الصفحة السابقة