السعودية تلتحق بمشروع أميركي وليست مؤهلة للقيام بدور مستقل

هل هناك مشروع سعودي في العراق؟

هناك حديث متزايد عن دور سعودي مختلف في العراق.

حارث الضاري: تمويل خليجي، وميول مصرية

وهناك دعوة أميركية لتدخل سعودي مباشر لدى السنّة العرب في العراق من أجل وقف مسلسل العنف الطائفي، ومنع تقسيم العراق الى دويلات ثلاث.

السؤال: هل السعودية قادرة على أن تلعب دوراً مهماً في العراق؟

ما حجم هذا الدور؟ وما هي الأوراق التي تمتلكها السعودية؟ ولماذا السعودية وليس مصر مثلاً؟

السعودية بشكل عام طارئة على العراق.

هذه مسألة تاريخية. فالعراق لم يكن ينظر الى جارته الجنوبية إلا باستعلاء، وعلى قاعدة المنافسة في الزعامة للمشرق العربي، وإلا على أساس الإختلاف المذهبي، الذي هو أوسع من كونه شيعياً ـ سنيّاً، ليصبح على قاعدة سنيّة مقابل وهّابيّة.

المسألة التاريخية حكمت العلاقات السعودية العراقية، منذ تشكل العراق الحديث على يد العائلة الهاشمية المطرودة من موطنها الأصلي في الحجاز. وكان قادة الجيش العثماني من العرب، والذين انضوى بعضهم تحت لواء (الثورة العربية) التي قادها الهاشميون، كان هؤلاء بحكم تكوينهم العسكري والأيديولوجي معادين للوهابية، فالسنّة العرب كانوا (عثمانيين) في الولاء، وأحناف في المذهب، وقد أثرت العلاقة المتوترة بين الدولة العثمانية والسعوديين الوهابيين على علاقة السنة العرب في العراق مع آل سعود والوهابية، ليس في فترة الوجود العثماني فحسب، ولكن أيضاً بعد تشكل الدولة العراقية الحديثة، التي حكمها الهاشميون، والعكسر المتخرجون من كليات اسطنبول، كنوري السعيد وأمثاله.

والعراق كان تاريخياً ملاذاً للفارين من جحيم الحكم الوهابي، سواء كان الفارون من الشرق أم من نجد نفسها، الأمر الذي جعل القاعدة العامة في العراق لا تميل الى نجد، اللهم إلا بعض الميل الى شمالها والتواصل معه، ونعني بذلك (حائل) غريمة آل سعود، حيث شمّر، القبيلة القوية التي حكمت وسط الجزيرة العربية لأكثر من نصف قرن.

يضاف الى هذا، أن الأغلبية الشيعية في الجنوب العراقي، لا تكنّ ودّاً للوهابية وحكم آل سعود، بحكم التجربة التاريخية أيضاً، حيث تسللت قوات سعودية في بدايات القرن التاسع عشر وهاجمت المواقع المقدسة للشيعة في النجف، وقتلت الآلاف من الأبرياء في الأسواق، كما هو معروف في التاريخ.

اين وصلت العلاقات؟

هذه مقدّمة أوليّة تفيد باختصار شديد، أن العراق في عهده الهاشمي الأول كان منافساً للسعوديين، وهو في الحقيقة يمتلك مقومات الزعامة من الناحية الإستراتيجية البشرية والعسكرية والإقتصادية. وبقي العراق على علاقة متوترة مع السعوديين الى الوقت الحالي، رغم تبدّل الظروف السياسية، وتبدل الحكومات والأنظمة. نعم يمكن القول أن فترة ودّ قصيرة تمت بين البلدين وامتدت خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) حيث مولت السعودية العراق، ووفرت له خط تصدير نفطه عبر السعودية ليصب في البحر الأحمر (توقف بعد احتلال الكويت)، ومنحته ما يزيد على الخمسين مليار دولار، كما وفرت له مظلة إعلامية ودينية وسياسية في حربه تلك، والتي انعكست على تقارب بين العراق مع أميركا، باعتبار أن المواجهة كانت مع خطر (إيراني مشترك).

تحوّل الوضع بعد احتلال الكويت، ووقفت السعودية ضد انتفاضة الشيعة بعيد تلك الحرب الأولى، وأقنعت أميركا بأن تسمح لصدام باستخدام الطيران في قصف مواطنيه، الأمر الذي ساعد صدام على اخماد الإنتفاضة في الجنوب ومن ثم في الشمال الكردي، الأمر الذي ادّى الى تهجير مئات الألوف الأكراد الى ايران وتركيا، وأيضاً عشرات الألوف من الشيعة باتجاه السعودية، حيث حوصروا فيما يشبه معسكرات اعتقال سيئة الصيت في (رفحا) المدينة السعودية الشمالية.

أثناء الحصار الأميركي على العراق، والذي أدّى الى مقتل مئات الألوف من المواطنين العراقيين، حاول النظام العراقي آنئذ التخفيف من الأزمة باستخدام الحسّ الديني، وتبنّى صدام سياسة سماها (الحملة الإيمانية) ودار بخلد القيادة العراقية آنئذ بأن العودة الى الله، تعزز شرعية النظام البعثي من جهة، وتقوي العزائم الشعبية على مواجهة الحصار، وترقّع النقص في جدران نظام بدأت الشروخ تتعاظم فيه. هنا دخل السعوديون على الخط. فالحملة الإيمانية ـ وحسب قراءات عراقية ـ وفّرت مناخاً لتمدّد التيار الوهابي ـ ولأول مرة ـ في العراق بين السنّة العرب.

النظام العراقي لم يكن يأبه لما جرى، فهو وبحسابات طائفية ربما كان يريد إبقاء النظام قريباً من النبض العشائري والديني، كقاعدة للنظام وعنصر استراتيجي في بنيانه. ولهذا، وخلال السنوات الأخيرة من عمر نظام البعث في العراق، تضخمت العشائرية والمذهبية، فإذا ما سقط كانت الظروف مهيئة لاشتعال فتنة طائفية عشائرية قومية مزدوجة.

الإلتحاق بالمشروع بالأميركي

السنّة العرب اتهموا السعودية وقيادات عربية سنيّة أخرى بتسليم العراق للأميركان، وأنهم وفروا المظلة السياسية والعسكرية لذلك. ما بعد سقوط النظام البعثي، كانت السياسة السعودية تميل ـ وحسب تصريحات سعود الفيصل ـ الى أن أميركا ستلاقي صعوبات جمّة في العراق. لقد قدّرت السعودية في فترة ما بعد تحرير الكويت أن بإمكانها بالتفاهم مع دمشق وطهران (وبتخطيط من تركي الفيصل مسؤول الإستخبارات السعودية حينها) أن تشكل تحالفاً من القوى العراقية المختلفة لتشكل البديل، ولكنها اصطدمت بعمق الخلافات بين التيارات المعارضة، ووجدت نفسها غير قادرة على فرض نموذجها الذي ترتأيه لما بعد صدام، فنفضت يدها في منتصف التسعينيات الميلادية وطلقت المعارضة والمعارضين. وبقيت السعودية بلا مشروع.

حين تأكد أن أميركا ستغزو العراق، حاولت السعودية أن تقنع أميركا بالتريّث ريثما يتم تدبير انقلاب عسكري داخلي، يحفظ المؤسسة السياسية والعسكرية العراقية، بحيث تبقى مراكز القوى المحلية على حالها. كانت السعودية حينها مدفوعة بقناعة بأن إسقاط صدام سيأتي بالأكثرية الشيعية الى الحكم، الأمر الذي سيقلب موازين القوى الطائفي في منطقة الخليج، وسيعطي صوتاً أعلى لإيران ولنفوذها في العراق. لكن واشنطن ـ المهووسة بجبروتها وبتعالي حسّ الإنتقام لديها من احداث 9/11 ـ لم تكن تقبل بتأجيل مشاريعها ريثما يتم تدبير انقلاب على صدام، خاصة وأنها حاولت قبل ذلك مراراً وفشلت، ولم تكن السعودية تمتلك أوراقاً تساعدها على تنفيذ ما تريده، اللهم إلا سوى بعض الضباط المتقاعدين الذين اتخذوا من السعودية مقراً سكنياً مريحاً.

اما وقد سقط صدام، فالسعودية التي كانت تواجه خطر تهديد واشنطن لنظامها السياسي، بدت حريصة على أن لا تقحم نفسها في الموضوع العراقي. لكن أدوات السعودية المحلية فعلت عكس ذلك. لقد تم إرسال الآلاف من المواطنين من التيار السلفي للقتال في العراق، ضد الأميركان والشيعة والأكراد معاً. والسعودية التي ابتليت بالعنف القاعدي، أرادت أن تلقي بنفاياتها في العراق، وتتحلّل من المسؤولية في نفس الوقت. وقد قامت الأطراف الدينية السلفية المقربة من الحكم بتلك المهمة، دون أن تحمّل الحكومة المسؤولية المباشرة.

نوري السعيد: كان مكروهاً من قبل آل سعود

منذ سقوط صدام، توترت علاقات السعودية مع الشيعة وقياداتهم، حتى أولئك الذين كانوا يحسبون أصدقاء لها، وتوترت مع الأكراد بسبب الهجمة الإعلامية والسياسية السعودية ضدهم، وتوترت مع بعض الأطراف السنيّة التي لم تنس دور السعودية السابق في إسقاط البعث. وإذا كانت القاعدة في العراق ـ جماعة الزرقاوي ـ على عداء علني مع الحكومة السعودية ومشايخها الرسميين، فإن الأخيرة كانت ترى في عمل القاعدة في العراق فرصة لتخريب المشروع الأميركي، ولهذا واصلت تغاضيها عن التحاق العناصر السعودية الوهابية المناهضة لمشروع الدولة العراقية.

الإختراق الذي نجحت فيه السعودية وهو ضئيل على أية حال، هو أنها أقامت جسر علاقة قوي مع الشيخ حارث الضاري وهيئة علماء المسلمين، ومن ورائهما أجنحتهما العسكرية المتعددة خاصة (الجيش الإسلامي). لكن ميول الضاري (مصريّة) أكثر منها سعودية. وخليجية أكثر منها سعودية. فهو يميل الى الدعم القطري والإماراتي، ولا يميل الى السعودية (فكراً). ولكن السعودية عملت بموازاة هذا الى دعم الشيخ عبد الله الجنابي في الفلوجة يومئذ قبل أن يدهمها الأميركيون بدموية مرتين على الأقل ويقتلوا الآلاف فيها. كما أنهم أقاموا علاقات مع جهات سلفية مشاركة في العملية السياسية الآن.

ما نود الإشارة اليه هنا هو أن السعودية لا رجال لها في العراق يمكنوها من بناء مشروع سياسي يسمح لها بلعب دور متميز في الملف العراقي الدموي اليوم. فهي قد استعدت الشرائح السياسية العراقية جميعاً. والأهم من هذا، فإن السعودية ـ بطبيعة سياستها الخارجية ـ لا تستطيع وبسبب الإيديولوجية الدينية الرسمية ـ أن تتعاطى بمسافة متوازية مع مختلف الأطراف في أي دولة تريد التحرك فيها وممارسة دور متميز لمساعدتها. وأمامنا نموذجين واضحين في العراق ولبنان، هما غنيان عن التعريف. فالميول السعودية الطائفية الصارخة، تجعلها غير قادرة على لعب دور الوسيط والمرجع. نعم، استطاعت السعودية التغلب على معضلة ثنائية المسيحي والمسلم، ولكنها لم تتغلب على ثنائية المسلم ـ المسلم (سواء كان شيعياً أو اسماعيلياً أو أباضياً أو غيره).

الآن تريد أميركا من السعودية لعب دور قوي في العراق. هناك وهم بأن السعودية يمكنها أن تتبنّى مشروعاً من هذا النوع إذا لم تتخلّص من عقدها الطائفية، وإذا لم تتخذ خطوات حقيقية لإقناع الشيعة بأن فلول الوهابيين الذين تسللوا الى العراق لم يوجهوا من قبلها لقتلهم في الأسواق والمساجد. لكن المسألة تبقى أبعد من هذا، فالسعودية تستطيع أن تلتحق بمشروع أميركي قائم، ولكنها لا تستطيع أن تختلق مشروعاً لنفسها بعيداً عن الخطوط العامّة لواشنطن.

الآن السعودية تعمل على جبهات متعددة.. الأولى تتعلق بقناعتها بأن العنف الطائفي الذي حصد ما يقرب من مائة الف مواطن عراقي لن يؤدي الى عودة النظام السابق، ولا أن يخلفه نظام شبيه به من حيث القاعدة الإجتماعية والطائفية. جلّ ما يمكن أن يؤديه هو (تقسيم العراق) وهو ما لا تريده السعودية، ولا دول الجوار العراقي جميعاً، خشية تداعيات ذلك عليها. وحتى لو لم يؤد مشروع الفتنة الأميركي الى التقسيم، فإن الحرب الطائفية لن تخرج أحداً من اللاعبين سليماً معافى. فالجميع سيخسر، هذا فضلاً عما تعنيه مضاعفات الحرب الطائفية على الساحة السعودية نفسها. وفق هذه القناعة، تريد السعودية، أو يراد لها أميركياً، أن تثمّر ما استثمرته من علاقات مع بعض الجهات السنيّة العربية، أولاً لإقناع القيادات السنية العربية بدخول المعترك السياسي، وتشكيل قيادة حقيقية لهم، وهو الأمر الذي أدى غيابه الى مضاعفات سلبية على الحالة العراقية عامة. ومن جهة ثانية، تحاول مع مصر بالتحديد، الضغط على هيئة علماء المسلمين للتنازل للقيادات السياسية السنية القائمة، وإيقاف التفجيرات التي تصيب المدنيين والتي يستتبعها أعمال عدوانية مقابلة. والسؤال هل يتم ذلك؟ ربما إذا ما دخلت مصر بالتحديد على هذا الخط.

هل يعود رجاله الى السعودية؟

والسعودية التي لم تتقدم بمشروع سياسي منذ سقوط نظام البعث، أبدت مؤخراً تأييدها لما تقوم به منظمة المؤتمر الإسلامي عبر جمع قيادات سنية وشيعية عراقية في مكة تحرّم الدم العراقي. وهذا الغطاء السعودي ليس مهما كثيراً، فالمهم الحضور الإسلامي الآخر، من اتحاد علماء المسلمين والأزهر والقيادات الإسلامية الأخرى. والمسألة الثالثة التي تحاولها السعودية، هي أنها تدرك بأن تهدئة الوضع في العراق يعني ارتداد المقاتلين السعوديين الى اراضيها، وهو ما تتخوف منه، ولهذا عملت على خطين استباقاً لما يمكن أن يحدث: اولاً ما أعلنه أحد المشايخ الوهابيين الكبار بأن من يعود من العراق سيحترم إذا ما توقف عن القتال الدائر وسلم نفسه للسلطات السعودية. وثانياً عبر ما أعلن عنه من تشكيل سياج على طول الحدود العراقية السعودية، وهذا السياج يبدو أنه لا قيمة كبيرة له في الوقت الحالي من وجهة النظر العراقية، فهو أداة حمائية للسعودية، وليس للعراق الذي جاءه من جاءه من المقاتلين الوهابيين. ولو كانت السعودية قد سيجت حدودها قبل هذا بعامين مثلاً لكان ذا فائدة مشتركة.

السعودية ستمضي في خطواتها ضمن المشروع الأميركي، وضمن ما يضمن لها بعض المصالح المتعلقة بوضع السدود أمام العدوى العراقية من الإنتقال الى اراضيها، وأيضاً ضمن الحدود التي تسمح بها السياسة والسياسيون العراقيون. وفي المجمل فإن السعودية ليست مما هو (متفق) عليه بين العراقيين، شأنها في ذلك شأن (إيران) و (أميركا) وغيرها. والسعودية فوق هذا لم تتخلص من عقدتها الطائفية في رسم سياستها الخارجية والداخلية أيضاً.

الصفحة السابقة