السعودية لا تحمي نفسها فكيف تحمي (سنّة) العراق؟

محاولة بعث الدور السعودي على قاعدة الصراع الطائفي

كشفت مقالة نواف عبيد، الموظف في جهاز الإستخبارات السعودية كمستشار أمني، والمنشورة في الواشنطن بوست في 29/11/2006، والمعنونة بـ (السعودية ستحمي سنّة العراق).. كشفت رأس خيط السياسة السعودية الشرق أوسطية القادمة.

لقد تنبّأ كثير من الأكاديميين، بأن (الطائفية) ستكون (مادّة الصراع والحرب في الشرق الأوسط) خلال السنوات القادمة. وأشاروا بالتحديد الى ان المملكة هي صاحبة اليد الطولى في الصراع، لاعتبارات دينية تتعلق بوجود الأماكن المقدسة واعتبار السعودية لذاتها زعيمة العالم الإسلامي، وكذلك لاعتبارات موضوعية تتعلق بالأيديولوجيا الوهابية، التي تمثّل النقيض الصارخ للشيعة، وفي حال نجح السعوديون في جرّ العالم السنّي، فستكون حرباً سنيّة ـ شيعيّة شاملة، وليس وهابية ـ شيعية فحسب، تدور على أكثر من أرض وفي أكثر من دولة عربية وإسلامية. واعتبرت هذه الحروب (المقترحة أميركياً) البديل الموضوعي لما تعارف على تسميته (الصراع العربي ـ الإسرائيلي).. والبديل عن بروز خطر (أصولي) من أنظمة أو جماعات تهدد المصالح الغربية، كما أنها البديل عن (زرع الديمقراطية الغربية) بالقوة العسكرية أو بالضغط والإكراه، فضلاً عن كونها البديل للتدخل العسكري، فعبر الحروب الطائفية يمكن إنهاك كل المنطقة ومعظم الخصوم.

لقد كشف مارتن أنديك علناً قبل مدّة عن سياسة فرق تسد على أُسس طائفية في حال فشلت السياسة الأميركية في العراق. وذات النغمة تكررت بعبارات مختلفة من قادة صهاينة أثناء وبعد الحرب الإسرائيلية السادسة على لبنان، حين صرح أولمرت وبيريز وليفني حول (الخطر الشيعي) وضرورة تحالف الدول العربية المعتدلة مع الدولة العبرية لمواجهة ما سماه أولئك الخطر المشترك (الإيراني ـ الشيعي).

النغمة تلك سبقتها بالطبع تصريحات ملك الأردن عن (الهلال الشيعي) وتصريحات الرئيس المصري حول عدم ولاء الشيعة العرب لأوطانهم وإنما لإيران، ولقاءات بندر بن سلطان في عمّان مع أولمرت ورئيس الموساد، والتي نشرت تفاصيلها في الصحافة العربية والأجنبية، وأعدنا تحليلها وتسليط الضوء عليها في هذه المجلة في الأعداد الماضية.

مشكلة السعودية

بعيداً عن أسباب الضعف في السياسة الخارجية السعودية، فإن جذر القضية هو أن السعودية بشكل خاص تعتمد في نفوذها السياسي في المنطقة على (المؤشر الأميركي). فهي ملحق للسياسة الأميركية، وتابع منفذ لها بشكل عام، سواء تلك المتعلقة بفلسطين أو أفغانستان أو العراق أو السودان أو غيرها. حتى لو كان للسعودية وجهة نظر أخرى، فإنها ترضخ في النهاية للرؤية الأميركية. معنى هذا، أن السعودية ربطت مصير نفوذها بمصير النفوذ الأميركي. ولم يكن النفوذ الأميركي موضع تحدّ وضعف في آن مثلما هو عليه الحال اليوم، حيث الخسائر الفادحة تمتد من أفغانستان ولا تتوقف إلا عند فلسطين مروراً بإيران والعراق ولبنان وسوريا.

بسهولة بالغة يمكن القول، إذا ضعف النفوذ الأميركي في المنطقة أو تضعضعت استراتيجية واشنطن، فإن الرياض بلا شك يصيبها العطب مثلما يصيب واشنطن. خسائر أميركا في العراق هي خسارة للسعودية، وخسارة أميركا واسرائيل والغرب في لبنان وفلسطين هي خسارة للسعودية أيضاً كما هو واضح الآن. فالإنحياز السعودي لخط السياسة الأميركية الفاضح يجعل السياسة والنفوذ السعوديين عرضة لغضب الشارع العربي والإسلامي، وعرضة للقوى المناهضة للمشروع الأميركي، وعرضة أيضاً لغضب القوى المتضررة من السياسة الأميركية ـ الأوروبية.

هذا باختصار جذر مشكلة السعودية. وقد كانت السعودية في الثمانينيات الميلادية الماضية تمتلك هامشاً واسعاً من الحرية (يميّزها) عن الموقف الأميركي وإن لم (يتعارض) معه بالضرورة، ولكنها منذ حرب تحرير الكويت، وزاد الأمر بالخصوص بعد أحداث 11/9، لم يعد بإمكان السعودية القيام بأي عمل مستقل يحمل أدنى تميّزاً أو تعارضاً مع التوجّه الأميركي، حتى في الموضوع الفلسطيني، حيث قامت السعودية بمحاصرة حكومة حماس والشعب الفلسطيني مالياً وسياسياً، ودخلت في معركة كسر عظم للإطاحة بالنظام السوري، كما ودخلت في معركة ضد حزب الله وهو يخوض معركته دفاعاً عن جنوب لبنان.

هزيمة المشروع الأميركي في العراق واضحة ولا تحتاج الى توضيح. والسعودية لا بدّ وأنها فرحت بتلك الهزيمة وشجعت عليها بصورة من الصور (دفع المال والمقاتلين السلفيين الى العراق) حيث أمن نظام الحكم في المملكة أن أميركا لن تكون قادرة على تغيير نظام الحكم السعودي لو أرادت. لكن خطأ السعودية، وربما بسبب عجزها، أنها لم تلعب دوراً فاعلاً (ومستقلاً) في عراق ما بعد صدام حسين، واكتفت بالتفرّج، فلما تضخم الدور الإيراني أبدت غضبها وانزعاجها، في حين خسرت هي أوراقها القديمة وعلاقاتها المديدة مع بعض أطياف الحكم في العراق (سنة وشيعة) وبالتالي خسرت معظم أوراقها، ومن الجهل بمكان الإعتقاد بأن السعودية تمتلك أوراقاً قويّة في العراق. وهنا تكمن الخسارة، فقد أمنت هزيمة أميركا إبقاء النظام السعودي كما هو بدون تغيير وبدون ضغوط أميركية من أجل (دمقرطته) ولكن الهزيمة أوقظت الحكومة السعودية على حقيقة أن نفوذها ضئيل بشكل لا يتناسب مع نفوذ منافسها الإيراني، بعد أن كانت تعتقد بأن الوجود الأميركي المباشر والمكثف في العراق لن يسمح بتمدد النفوذ السياسي الإيراني، وفي هذا كان السعوديون على جهل وخطأ كبيرين.

الهزيمة الأميركية الإسرائيلية في لبنان أضعفت السعودية أيضاً، ويكفي ان نعرف ما حلّ بالفريق الحاكم الموالي للسعودية (فريق 14 آذار) فهو في حالة دفاع عن النفس، ويحتمل أن يسقط قريباً من كرسي الحكم. ذات الأمر يمكن قوله بالنسبة لفلسطين، فتجويع الشعب الفلسطيني وضرب حماس ومحاصرتها، أديا الى إضعاف الدور السعودي ومصداقيته، الأمر الذي يجعلنا نتستنج حقيقة واضحة للعيان أن الهزيمة الأميركية في المنطقة لن تشمل اسرائيل ودول الإتحاد الأوروبي فحسب، بل ستشمل كل القائمة (وفي رأسها) دول الإعتدال (مصر والسعودية والأردن).

ماذا ستفعل السعودية؟

بديهي أن التراجع الأميركي سيكون على حساب حلفائها، بل ان الحرب الإسرائيلية على لبنان ما كانت لتتوقف لولا ضغط الأوروبيين على واشنطن بأن مصير حلفاء الغرب في المنطقة يتآكل بصورة كبيرة بسبب مواقفها في تلك الحرب. وها نحن نشهد أول انعكاسات نتائج تلك الحرب على الحكومة اللبنانية نفسها، حيث خرجت ضعيفة بهزيمة اسرائيل وحلفائها.

السعودية ـ حسب مقال نواف عبيد في الواشنطن بوست ـ تريد من الولايات المتحدة الصمود في العراق وعدم الإنسحاب، لأنه يعني إعلان للهزيمة وانتصار للقوى المعارضة لأميركا والسعودية. وتحاول السعودية أن تقنع واشنطن هذه المرة بأن تأخذ برأيها في التريّث وعدم التراجع، لا أن تخالف رأيها مثلما فعلت ودخلت الحرب وأسقطت صدام، خلافاً لرغبة السعودية نفسها.

ولكن من الواضح أن قرارات أميركا لا تصنعها السعودية. ومن الواضح أكثر ان ما تطلبه السعودية أكبر من أن تتقبله واشنطن في ظل ظروف الهزيمة متعددة الوجوه، خاصة بعد هزيمة الجمهوريين في الإنتخابات، وتصاعد الضغوط في الساحة الأميركية على بوش للتعجيل بالإنسحاب. ان ما تريده السعودية سيكون صوتاً ضعيفاً قد لا يسمع بالمرّة أمام وقع الخسائر المستمرة في الحرب الأميركية.

وماذا اذا لم تسمع واشنطن وجهة نظر السعودية في هذا الشأن وقررت الإنسحاب؟

إنها تهدد بلعب دور منفرد عن واشنطن!

ولكن السعودية الضعيفة بدعم واشنطن، هل ستكون قوية بدون ذلك الدعم؟!

وهل تستطيع السعودية الفكاك من أسر الهزيمة الأميركية وهي التي ربطت مصير نفوذها بالنفوذ الأميركي، وربما الإسرائيلي أيضاً، فقد أعلن قبل أيام عن لقاء مزمع بين مسؤولين سعوديين وأيهود أولمرت؟

ولنفترض جدلاً ان السعودية ستقوم بدور منفصل، فما هي ملامح ذلك الدور؟

هنا يجب أن ننتبه الى حقيقة ان السعودية ستبدأ عملها أو حملتها أو سياستها من منطقة قريبة من الصفر من حيث تكتيل الأصدقاء وصناعة أدوات الفعل السياسي.. فقد فرطت السعودية على مدار السنوات الماضية بكل علاقاتها مع الأطراف الفاعلة في اللعبة السياسية العراقية سواء كانوا شيعة أو سنّة أو أكراداً، وهي على كل حال علاقات لم ترقَ يوماً لمستوى التحالف الاستراتيجي. وهنا لا يبدو أن لديها أحداً مستعداً للتحالف معها إلا القاعدة ونظرائها (ولكن على قاعدة طائفية) وهذا يتطلب من السعودية خوض حملتها السياسية في العراق على قاعدة الصراع الطائفي الشيعي السنّي الذي جربته السعودية وعملت من أجله ونجحت أطرافها السلفية في إشعال فتيله الى أن أصبح اليوم ما يشبه قيام حرب طائفية مفتوحة.

تلخص مقالة نواف عبيد الخطوط العامّة للسياسة السعودية، بعد انسحاب القوات الأميركية على النحو التالي:

ـ (تزويد القادة العسكريين السُّنّة ـ وهم بشكل رئيسي أعضاء سابقون في الجيش العراقي البعثي السابق، الذي يشكل القاعدة الأساسية للتمرد ـ بأنواع الأسلحة والدعم اللوجيستي).

- (تشكيل ألوية سُنّية جديدة لمحاربة الميليشيات المدعومة من إيران).

ـ (أن يقرر العاهل السعودي، الملك عبدالله، أن يحاصر الدعم الإيراني للميليشيات الشيعية من خلال سياسة نفطية، فإذا عمدت السعودية إلى رفع الإنتاج وتخفيض سعر النفط إلى النصف، فإن المملكة تبقى قادرة على تغطية مصروفاتها، بينما إيران التي تعاني صعوبات اقتصادية حتى في ظل ارتفاع أسعار النفط، ستجعلها تلك السياسة النفطية غير قادرة على دعم الميليشيات بمئات الملايين من الدولارات سنوياً).

ما بين الأقواس هو نصوص من المقالة التي أشرنا اليها، ومثل ذلك النصوص التالية التي تتعلق بتبرير اتخاذ مثل هذه السياسة حسب الكاتب السعودي:

ـ داخلياً: (أن هناك ضغطاً داخلياً قوياً للتدخل. طالبت جوقة أصوات من السعودية بحماية السُّنّة في العراق) (كما وتطالب العشائر السعودية الرئيسية، التي ترتبط بعلاقات تاريخية واجتماعية وطيدة مع نظيراتها في العراق، باتخاذ إجراء. وتحظى هذه العشائر بدعم جيل جديد من أعضاء العائلة المالكة السعودية، الذين يحتلون مناصب حكومية استراتيجية ويتوقون لرؤية المملكة تلعب دوراً أكثر قوة في المنطقة). والمقصود بالسنّة هنا هم السنّة العرب، ولا يشمل السنّة الأكراد.

ـ عراقياً وعربياً: (طلبت شخصيات عراقية عشائرية ودينية بارزة، إلى جانب قادة مصر والأردن ودول عربية وإسلامية أخرى، من القيادة السعودية تزويد العراقيين السُّنّة بالأسلحة والدعم المالي).

ـ إسلامياً: حيث تقع على السعودية مسؤولية خاصة باعتبارها زعيمة العالم السنّي، وحسب نواف عبيد: (بما أن السعودية هي موقع القوة الاقتصادية في الشرق الأوسط، ومهد الإسلام، والقائد الفعلي للعالم المسلم السُّنّي ـ الذي يضم 85% من مسلمي العالم ـ فإن لديها الوسائل والمسؤولية للتدخل).

ـ على صعيد النظام، فإن تدخل السعودية مهم لتعزيز شرعية النظام السياسي السعودي، كما هو مهم على الصعيد الإستراتيجي: (إن البقاء في وضع المتفرج لن يكون مقبولاً للسعودية، وسيعني غض الطرف عن مذابح العراقيين السُّنّة التخلي عن المبادئ التي قامت عليها المملكة، وسيؤدي ذلك إلى تقويض مصداقية السعودية في العالم السُّنّي، وسيمثل استسلاماً لأعمال العسكرة الإيرانية في المنطقة).

السعودية: فلتكن حرباً إقليمية، ولكن ضد إيران

تركي الفيصل

يعترف الموظف الأمني السعودي نواف عبيد، بأن هذه الإستراتيجية السعودية التي رسمها شارحاً مبراراتها، تعني قيام حرب إقليمة، وأنها محبّذة: (وللحقيقة فإن التدخل السعودي في المنطقة ينطوي على مخاطر كثيرة، فقد يؤدي إلى إشعال حرب إقليمية. فلتكن: لأن نتائج الوقوف جانباً أسوأ بكثير).

من الواضح أن كل المقالة التي لم تُنشر بالقطع إلا بعد أخذ الإذن من (تركي الفيصل) السفير السعودي في واشنطن، تدور حول موضوع (الحرب الطائفية) التي لا مانع لدى السعودية من توسعتها، اذا ما فشل الجهد الأميركي في العراق من ايقافها واعادة خارطة العراق السياسية الى ما قبل الغزو الأميركي، وهو أمرٌ مستحيل التفكير فيه، فضلاً عن إمكانية تطبيقه، ولو جزئياً.

المعركة من منظار السعودية طائفية، وهي تتواصل من ايران الى غزة. من المشروع النووي الإيراني، مروراً بالتوترات في العراق، ومحاولات اسقاط حكومة السنيورة، الى ضرب حماس في الأرض المحتلة. وفي كل المعارك فإن السعودية خاسرة، وتعتبر ايران رأس الحربة مثلما هي سوريا التي فتحت السعودية لها باباً واسعاً يستهدف تغيير النظام في دمشق، وهنا ايضاً اختارت السعودية الطريق الخطأ والزمان الخطأ. فلا هي ولا حلفاءها الأميركيين قادرون على شنّ هجوم جديد او افتعال حرب جديدة، وما لم تستطع اميركا فعله مع النظامين السوري والإيراني فضلاً عن حزب الله وحماس، لا تستطيع السعودية بمفردها القيام به.

ومن المضحك حقاً، أن تهدد السعودية بإشعال حرب إقليمية، ضد إيران، فالسعودية التي لم تستطع الوقوف امام قوات (اليمن الجنوبي) سابقاً، وخسرت معارك حدودية في الثمانينيات الميلادية الماضية، هل يمكنها ـ عقلاً ـ أن تواجه ايران؟!

بالطبع لا.. من الناحية العسكرية والسياسية.

ولكن نعم تستطيع السعودية صناعة (شرق أوسط جديد) إذا ما أشعلتها فتنة مذهبية. ولكن هذا لا يعني أنها ستكون الرابحة، بل قد تكون الضحية أيضاً.

السعودية ما انفكّت في اشعال الفتنة الطائفية في العراق. هذا ما قامت به القاعدة. والقاعدة وان اختلفت سياسياً مع آل سعود فإنها لم تختلف معها في الشأن العراقي بالتحديد. القاعدة نتاج فكر سعودي ـ وهابي كما هو واضح. والوهابيون ذهبوا للقتال في العراق وكانوا عماد الإنتحاريين في الأسواق والتجمعات الدينية. والأموال السعودية لمن هو مطلع على الشأن العراقي لم تتوقف أيضاً، ولكن بصورة التفافية. يبرر نواف عبيد عدم دعم السعودية العلني للحرب الطائفية في العراق على النحو التالي: أولاً: لأن الملك عبد الله (وعد الرئيس بوش بعدم التدخل في العراق) وثانياً: (لأنه سيكون من المستحيل التأكد من أن ميليشيات تمولها السعودية لن تهاجم القوات الأميركية). ولهذا لم تستجب السعودية للإنخراط في الحرب، فرفضت طلبات التدخل (ولكن ـ يضيف عبيد ـ ستتم الاستجابة لها إذا بدأت القوات الأميركية انسحابها التدريجي من العراق)!

فهل هو تهديد لأميركا، أم لإيران، أم للشيعة، أم لسوريا. أم لهم كلهم؟!

ما تريد السعودية إشعاله طائفياً يمثل لعباً بالنار. فهي تريد تكرار تجربة الحربة العراقية ـ الإيرانية. وتريد تدمير الإقتصاد الإيراني واقتصاد دول الأوبك بالعمل على تخفيض أسعار النفط عبر اغراق السوق بالنفط من أجل كبح جماح النفوذ الإيراني، تماماً مثلما فعلت من قبل في منتصف الثمانينيات الماضي لإجبار إيران على الإستسلام في الحرب، وهو ما حدث في النهاية.

لكن في هذه المرة، على السعودية أن تعيد حساباتها، فقد تأتيها الصورايخ الإيرانية كرد فعل إن انتهجت تلك السياسة، فتدمر منشآتها النفطية على الخليج، وتعيد الى الذاكرة سياسة (حرب الناقلات) الأمر الذي سيتبعه ارتفاع اسعار النفط بدل انخفاضه. هذا اذا سلّمنا جدلاً بأن لا تداعيات خطيرة ستنعكس على الإقتصاد السعودي في حال أُطيح بسعر برميل النفط، وهو امر جد مشكوك فيه، خاصة وأن فورة سعر النفط الحالية انقلبت وبالاً على المواطنين الذين خسروا معظم مدخراتهم في انهيار (سوق الأسهم السعودي).

لماذا تريد السعودية إشعال المنطقة بحرب طائفية

يمكن تعداد الأسباب على النحو التالي:

أولاً ـ السعودية تتمترس وراء الولايات المتحدة الأميركية، فإذا ما فشلت الأخيرة في مشاريعها في المنطقة، وعجزت عن مواجهة (الهلال الشيعي) الممتد من طهران الى غزة كما يقولون، وانسحبت أميركا بقواتها، فإن السعودية ستبقى مكشوفة لوحدها ولا بدّ أن تقوم بعمل (دفاعي ما) عن نفوذها. ولأن قدرتها التسليحية لا تستطيع مواجهة ايران بالطبع، فإن الحلول الأخرى تقوم على منازلة النفوذ المعارض في الساحات الأخرى: العراق، لبنان وسوريا وفلسطين، بوسائل التآمر والفتنة.

ثانياً ـ إن الموضوع الطائفي سلاح (مصنّع) بمعنى أنه متوفّر، والنفوس في المنطقة متهيأة له، ولا يحتاج إلا الى الشرارة فقط ليتوسع ويشمل المنطقة كلها، أو على الأقل المنطقة التي يتواجد فيها الطرفان. والسعودية تستطيع أن تعيد لذاتها الإعتبار من خلال حشد الشارع السنّي وراءها في تلك المعركة، رغم أنها خُذلت في حرب لبنان الأخيرة وفشلت فيه. ولكنها قد تستطيع فعله في العراق، حيث الوضع السياسي مختلف تماماً.

ثالثاً ـ ليس لدى السعودية أوراقاً كثيرة تلعبها، فهي ليست الوحيدة التي تمسك بالمال، وليست الوحيدة التي تعرف استخدامه. ولا بدّ أن تفعّل الجزء الأيديولوجي في المعركة كما كانت تفعل دائماً.

رابعاً ـ إن انغماس السعودية في العراق يبقي الداخل السعودي (السلفي/ الأقلوي) ملتصقاً بالعائلة المالكة ويصرف عموم المواطنين السعوديين عن مشاكلهم الإقتصادية الداخلية، وكذلك مشاكلهم السياسية مع نظام الحكم الديكتاتوري نفسه. اي ان افتعال حرب مذهبية في الخارج ترص الصفوف السلفية في الداخل خلف الحكومة وإن كانت هناك مشاكل متوقعة الحدوث سواء في المناطق الشيعية في الشرق والجنوب وحتى في المنطقة الغربية (الحجاز).

خامساً ـ ان اشعال الحرب الطائفية يجعل العراق وربما لبنان مكاناً لتصفية معارك المتخاصمين، بعيداً عن ديارهم. أي ان السعودية تريد نقل المشاكل الى الخارج وتصديرها بدل معالجتها محليّاً.

سادساً ـ ينبغي التأكيد أن السعودية ومن ورائها كل الدول العربية الممثلين في الجامعة العربية فشلوا في موازنة الجهد الدبلوماسي الإيراني على الساحة العربية، فضلاً عن غيرها من الساحات. الغيرة من ايران ومن نفوذها، والعجز عن تقديم أداء سياسي رصين، أو انجاز علمي مهم، يحفظ للحكام السعوديين مكانتهم في أعين شعبهم، سيؤدي بهم ـ حتماً ـ الى تشويه الآخر طائفياً، وافتعال الحروب معه، ونقل المعركة من اسرائيل الى إيران والشيعة عموماً، على مساحة كامل المنطقة العربية والإسلامية.

حتى الآن لا توجد مبررات حقيقية لأن تشعل السعودية المنطقة طائفياً وبشكل علني، وهي تفعل ذلك دائماً بصورة من الصور عبر مذهبها المتشدد. فمعركة ايران ليست مع السعودية بقدر ما هي مع واشنطن واسرائيل وعلى أساس موضوع المشروع النووي. وهذا المشروع كان نتيجة للتهديد المباشر الذي يتعرض له النظام الإيراني الخائف على وجوده على الأقل قبل ان يتبين أن أميركا قد خسرت ورقتها في العراق. ومعركة حزب الله ليست مع السعودية وكذلك حماس بل مع اسرائيل. ومعركة الحكومة العراقية بغض النظر عن شكلها وسياستها ليست مع السعودية بالرغم من ان الأخيرة توفر المبررات لمهاجمتها: (ارسال المقاتلين وتمويل المسلحين). حتى سوريا فلا يعتقد أن لديها معركة مع السعودية، بقدر ما لديها قضية تبحث لها عن حل بثمن سهل تستطيع أن تسترد به الجولان (ربما بدون قتال!).

لكن السعودية تشعر أن معركتها مع كل هؤلاء، وهي بهذا تضع لنفسها أهدافاً أكبر من حجمها، وأكبر من طاقتها عسكرياً وسياسياً وحتى مالياً. فالمال لوحده لا يصنع المعجزات في أوضاع الشرق الأوسط. ومن البديهي ان مجابهة حلف (مفترض) كهذا، يتطلب قيام حلف آخر يؤمن بـ(تطييف) المعركة في الشرق الأوسط، بدلاً من (تديينها) في مواجهة اسرائيل. وهنا يأتي الإندهاش من مقالة الواشنطن بوست، ومن سياسة السعودية التي أخذت بالفعل منحى (المغامرة) التي لم تكن تفعلها فيما مضى، والذي قد يودي بها على الصعيد المحلي والدولي.

المستغربون من السياسة (الطائشة) السعودية كثيرون، وبينهم ـ يا للعجب ـ دبلوماسيون سعوديون. ولو كان هذا الطيش مما تتحمله الدول لهان الأمر. في حين نجد أن طيش وصلف وغرور واشنطن أوقعها في المأزق، شأنها في ذلك شأن إسرائيل نفسها. ولكن السعودية وبعد انكشاف كل هذا، وهي ذات البيت الزجاجي، تريد تحقيق إنجاز كبير بعضلات واهية وبمشاغبات بعيدة عن التفكير والتخطيط الإستراتيجيين.

الحرب دفاعاً عن السنّة

نواف عبيد: بالون اختبار

المؤكد والمحسوم ان جولة السعودية القادمة هو إعلان الحرب المذهبية الطائفية بين الشيعة والسنّة.

ما فتئت أن كانت هذه السياسة السعودية مستقرة في وجدان صانع القرار السياسي السعودي، ولكنه يخففه حيناً ويزيد جرعاته حيناً آخر، حسب الحاجة. وما فتئت السعودية تسلط نيرانها الطائفية على من يخالفها حتى في محيطها السنّي، أي ضد خصومها كما عبدالناصر والقذافي وصدام حسين وحتى عمر البشير!

السعودية لا يهمها أمر السنّة في العراق ولا غير العراق.

لو كان الأمر كذلك، لما وقفت مع حصار الشعب العراقي طيلة عقد راح ضحيته مئات الآلاف من المواطنين، ولما سكتت عن مذابح الأكراد بالأسلحة الكيمياوية، ولما شجعت الحرب على أفغانستان وعلى العراق مرتين متتاليتين. ما تقوم به السعودية هو دفاع عن مصالحها فحسب. وقد تتلبس المصلحة بالمذهب، وهو أمرٌ شائع في السياسة السعودية.

يتحدث نواف عبيد ومن ورائه رؤساؤه مخططو السياسة السعودية (ان كان هناك من يخطط فعلاً) عن مراجعة (جوهرية) لسياستها في العراق، تزعم أنها تستهدف الدفاع عن السنّة، وليس كل السنّة، وإنّما السنّة العرب، وهذا يعطي الدليل القاطع على أن الموضوع ليس طائفياً، وهو وإن بدا وكأنه عنصري فالسني الكردي غير السنّي العربي، إلا أنه ليس عنصرياً أيضاً، بل هو مسألة مصالح لا أقل ولا أكثر. بالرغم من أن نواف عبيد يشير الى قضيتين أساسيتين في موضوع (حماية السنّة) المزعوم. الأول: أن عبيد يقول التالي: (إن كلاً من التمرد السُّنّي وفرق الموت الشيعية يشتركان في التسبب في حمَّام الدم في العراق حالياً، إلا أن خطر الحرب الأهلية، في حال اندلاعها، على سُنّة العراق أكثر من خطرها على الشيعة، وذلك في ضوء أن الشيعة يشكلون 65% من سكان العراق، بينما تتراوح نسبة السُّنّة ما بين 15% إلى 20% فقط، وبذلك فإنهم سيعانون تطهيراً عرقياً في حال اندلاع حرب أهلية). وهنا تبدو المسألة صحيحة وهي أن الحرب الأهلية تحتاج الى طرفين لتقوم. والثاني: ما يقوله عبيد بأن الحكومة العراقية لا تستطيع حماية السنّة.

في هذه الحالة تعرض السعودية حلّها لحماية السنّة. كيف؟

ـ انه ليس المساعدة على القبول بالخطوط العامة لتقاسم السلطة والمصالح.

ـ إنه ليس التخفيف من الدعاوى الطائفية.

ـ إنه ليس التخفيف من فتاوى الطائفية التي تأتي من السعودية، ولا إيقاف سيل المقاتلين الإنتحاريين الوهابيين الذين لا يستهدفون الأميركيين بقدر ما يستهدفون المدنيين المخالفين لهم في المذهب.

ـ إنه ليس إقامة جسر من العلاقة الراقية مع كل الأطراف لتستطيع السعودية بتدخلها إنجاز الحوار والهدوء.

لا ليس كل هذا.. الحل أن تزيد النار التهاباً عبر الخيارات التي عرضها العبيد، من تزويد المقاتلين السنّة بالأسلحة وتشكيل ألوية تقاتل الميليشيات الشيعية، وكأن السنّة لا يمتلكون المنظمات والألوية التي تقاتل. وزيادة على ذلك لا تريد السعودية حصر المعركة في العراق، بل تريد تدمير الإقتصاد الإيراني، ومعه العراقي وحتى السعودي والخليجي عبر تخفيض اسعار النفط والإطاحة بها الى الحضيض كما فعلت من قبل في الثمانينيات. إنها تريد فتح معركة مع إيران أيضاً وبشكل مباشر، متناسين أن صدام حسين ومن خلال مبررات احتلال الكويت فإنه استند على تخفيض أسعار النفط.

هذه هي الوصفة السعودية لحماية السنّة!

إنها فعلاً سياسة زجّهم (في المحرقة) كخط دفاعي أول عن آل سعود، وليس للدفاع عن أنفسهم.

ما هكذا تحلّ المشاكل، ولا عهدنا السعوديين يمارسون هكذا نوع مفتوح من المعارك.. لا في أفغانستان ولا لبنان (سابقاً) ولكنها الآن تريد حرباً طائفية مفتوحة، وفي ظننا فإن الجمهور السلفي ـ الوهابي مهيّأ لها تماماً.

ماذا تعني هذه السياسة؟

يمكن استشفاف المنحى السياسي السعودي القادم على النحو التالي:

ابتداءاً، سنشهد لغة طائفية شديدة الحدّة تنبعث من المملكة العربية السعودية. ولعلّ أية مطالعة للصحافة السعودية المحليّة أو الخارجية: خاصة إيلاف والشرق الأوسط، تجعل القارئ يدرك حجم الشحن الطائفي السعودي وما يعوّل عليه في تحقيق منجزات سياسية محلية وخارجية للسلطات السعودية. ويمكن أيضاً متابعة التصريحات السعودية الرسمية، التي تنشرها وكالة الأنباء السعودية الرسمية، خاصة تلك التي تعقب جلسات مجلس الوزراء السعودي الأسبوعية، حيث سيرى المرء اللغة الطائفية المشبعة ـ وأحيانا المتوارية ـ التي أخذت السعودية تحرق المراحل باتجاه تصعيدها الى الذروة. أيضاً يمكن متابعة التصريحات السعودية الخارجية، خاصة تلك التي تنطلق من الولايات المتحدة الأميركية، وعلى لسان السفير السعودي تركي الفيصل والتي ينشرها على الملأ في الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤتمرات، فضلاً عما يقوله الفريق المرافق له والذي يشمل فيمن يشمل (نواف عبيد) الذي قدّم مؤخراً ورقة في مؤتمر بإيطاليا حول الشيعة وآفاق الصراع السعودي ـ الإيراني نشرتها النهار اللبنانية في 5/12/2006 تحت عنوان : (هلال شيعي وانبعاث الشيعة: الأساطير والحقائق).

وبالقطع فنحن في (أول الغيث) الطائفي السعودي.

لكن ما علاقة ذلك بالسياسة الخارجية السعودية؟

ما ينبئ عنه السلوك السعودي الآني هو أن السعودية بصدد التالي:

1 ـ إعادة تأكيد التحالف مع الجناح الوهابي المتطرف وبالخصوص مع تيار القاعدة. وهذا يتمّ على قاعدة (العدو المذهبي المشترك) الذي ـ حسب المعتقدات الوهابية المدوّنة ـ أكثر خطراً من المستعمر نفسه. هذا الأمر يعني فيما يعنيه أن الحكومة السعودية تبنّت فكر القاعدة (بنسخته الزرقاوية) وليس العكس. فاستراتيجية الزرقاوي في اشعال فتنة طائفية، وقد نجح في ذلك عبر المكفراتية السلفيين السعوديين، هي ما تتبناه الحكومة السعودية، على الأقل حسب نواف عبيد، بغض النظر عن الشواهد التي تؤيد ذلك من خلال مواقف السعودية ومسؤوليها أنفسهم.

هنا يمكن القول بأن القاعدة في الداخل السعودي لديها الإستعداد الكامل والأيديولوجية المناسبة لإيقاف حملة العنف ضد نظام الحكم السعودي، في حال استعيض عن ذلك بفتح معركة طائفية على المستوى الداخلي أو الخارجي (العراق ولبنان بالتحديد). والحقيقة فإن المنتديات السلفية السعودية (خاصة الساحات) كثيراً ما دعت الى تحالف بين القاعدة ونظام الحكم السعودي على قاعدة مواجهة محاولات تغيير نظام الحكم من قبل أميركا والعلمانيين والشيعة كما يقولون، وعلى قاعدة مواجهة ما يسمى بالإنبعاث الشيعي وتعزيز دور المملكة في مناطق التوتر العربية خاصة العراق، والإسلامية وخاصة أفغانستان، مقابل النفوذ الإيراني.

لهذا، فإن من المتوقع من مكاسب لنظام الحكم في المملكة، في حال لعب الورقة الطائفية وبشكل مكشوف، أن ينخفض حجم التوتر بين التيار السلفي (الجهادي) وبين الحكومة السعودية، وبالتالي فإن قاعدة جديدة للإلتقاء على قاعدة الخصومة الطائفية ستكون الأساس في التعاطي مع الأحداث المستقبلية محلياً وإقليمياً.

2 ـ إعادة التوتر الداخلي على قاعدة طائفية، وهذا لن يشمل الشيعة في المنطقة الشرقية فحسب، ولا الإسماعيليين في نجران والذين يمثلون حسب الإحصاءات الرسمية بين 5-6% من السكان، ولكن ليشمل أيضاً الحجاز بتياراته الدينية المختلفة. فإعادة انتاج التحالف الوهابي ـ السعودي على قاعدة طائفية صارخة سيعزز دور السلطات السلفية في المملكة ويرفد التيار السلفي بقوة الدولة من جديد كيما تمارس حروبها الطائفية. ومن البديهي أن أحداً لا يمكنه إشعال فتنة طائفية في الخارج دون أن يتوقع امتداد المعركة في الداخل، مثلما حدث في الثمانينيات الميلادية أثناء الحرب العراقية الإيرانية.

نواف عبيد في مقالته عن الهلال الشيعي قال: (صحيح أنّ الشيعة واجهوا تمييزاً في المنطقة بأسرها، لكن حقوقهم تتعزّز أكثر من خلال الإصلاح السلمي). حتى الآن ليس هناك إصلاح سلمي يمكنه نزع فتيل التطرف الوهابي الطائفي داخلياً تجاه كل الأطياف الفكرية والمذهبية، ولا يتوقع أن يكون هناك مشروع اصلاح سلمي في المملكة بسبب العامل الوهابي المتطرف، ولا يمكن إيجاد حلول سلمية لمشكلة السلطة داخلياً في حال تعززت قدرات السلفيين وهم أقلية أكثر وأكثر في جهاز الدولة.

كما حدث بعد جهيمان، وسقوط الشاه، واحتلال افغانستان، زادت قوة السلفيين بقرار سياسي لمواجهة تحديات خارجية بالأساس، والآن نحن على أعتاب تكرار التجربة مرّة أخرى، ووجهتها ليس محاربة الشيوعية ولا اسرائيل ولا أميركا المحتلة بل محاربة إيران والشيعة فحسب. الأمر الذي يترك المملكة ساحة مفتوحة لكل التوقعات الخطيرة. ومن المرجح أن الحروب الطائفية ستنتقل بالذات الى المنطقة الشرقية السعودية ذات الأغلبية الشيعية، وبالتالي فإن وقع المحظور فستنمو اللغة الإنفصالية وتتعزّز القناعة بخيارات راديكالية قد تستدعي تدخلاً أجنبياً أميركياً أو إيرانياً أو الإثنين معاً.

3 ـ انبعاث الدور الإقليمي على قاعدة طائفية، فالسعودية التي لا ترى الأمور السياسية إلا بمنظار طائفي لا تستطيع الإستجابة للتحديات السياسية إلا من خلال تلك الرؤية، أي ان استجابتها والحلول التي تعرضها والذخائر التي بحوزتها كلها تقع في خانة الحلول الطائفية. الرؤية الطائفية تتطلب استجابة طائفية. فإذا أضفنا الى مكانة السعودية الدينية باعتبارها حاضناً للأماكن المقدسة فإن السعودية لن تجد منافساً في قيادة الصراع السياسي على قاعدة طائفية من الدول العربية الأخرى، وخاصة من حلفائها مصر والسعودية.

إذا ما قبلت مصر والأردن العمل مع السعودية كحلف مذهبي إقليمي، فإن السعودية ستكون القائدة (لمكانتها الطائفية ووجود المقدسات فيها) و (لخبرتها وتمرسها في هذا النهج) و (لوجود الذخيرة الأيديولوجية المجرّبة في السعودية وفي أراض بعيدة عن الديار) وأيضاً (لوجود دعم لوجيستي مالي قوي وتفرعات دينية قريبة من السعودية ستشكل أدوات الحرب القادمة).

هل تقبل مصر (دعك من الأردن فهي تقبل) خوض صراع طائفي مكشوف وعلى مستوى عالٍ من القبح، تكون فيه تابعاً ملحقاً للنهج السعودي، وغير مطابق بالضرورة مع رؤيتها؟ ربما إذا لم تجد مصر هي الأخرى مخرجاً لمشاكلها الداخلية، وحلاً لعقد توسّع نفوذها في دول الخليج على الأقل. ولكن حتى مع خضوع مصر والأردن لمنطق حروب المحاور الطائفية، فإن هذا لن يصنع من السعودية (قطباً أوحداً) في السياسة الإقليمية، ولن يعيد زمان (الحقبة السعودية)، فقد ولّت تلك الحقبة الى غير رجعة، على الأقل في المستقبل المنظور.

صالح: الدخول في المحور المذهبي

4 ـ تأهيل اليمن كعضو في مجلس التعاون، فحتى وقت قريب كانت السعودية الرافض العنيد لدخول اليمن في مجلس التعاون الخليجي، وكانت الحجّة أن اليمن بحاجة الى تأهيل لدخول المجلس، بالخصوص في الميدان الإقتصادي، لأن اليمن متطور سياسياً على دول الخليج كافة تقريباً. اليمن بثقله السكاني نُظر اليه سعودياً على أنه يمثل البديل للنفوذ السعودي بين دول الخليج، أي أن دخول اليمن للمجلس سيجعل أكثريته تقترب اليه خاصة الإمارات وعمان وقطر فيكون هو الرقم الصعب في صناعة سياسة المجلس، في مجالها الأمني والعسكري والى حدّ ما السياسي. وبسبب التعنت السعودي، سُمح لليمن أن تتأهّل (رياضياً!!) بحيث تشارك في مباريات مجلس التعاون!

لكن مع تطور الأوضاع في العراق ولبنان، شعر الغرب بالحاجة الى دور يمني يساعد في مواجه النفوذ الإيراني القادم من الشمال، خاصة مع احتمالات خروج اميركا من العراق. بناء على ذلك، عقد في لندن الشهر الماضي مؤتمراً دولياً لدعم اليمن اقتصاديا ومالياً. وحسب أوساط مطلعة، فإن دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أصرت على أن تدخل اليمن مجلس التعاون بأي ثمن، وتعهدت هذه الدول بأن تعمل على تهيئة البنية التحتية اليمنية اقتصادياً بمليارات الدولارات لتكون جاهزة في عضويتها للمجلس بحلول عام 2010م.

ما أدهش المشاركين في المؤتمر هو أن السعودية كانت في مقدمة الدول المتشددة في دعم اليمن هذه المرة والأكثر حماسة لدخولها مجلس التعاون الخليجي. فما عدا مما بدا؟!

السعودية ليس لها استراتيجية واضحة وبعيدة المدى، وكل ما تمتلكه ردود أفعال، ولذا تكون المفاجآت واضحة والتغييرات سريعة وحادّة. السعودية التقطت البعد المذهبي في الصراع القادم، ورأت أن اليمن (ذي الأغلبية الزيدية الشيعية) قد يكون مرشحاً لتطويقها من الجنوب أيضاً، كيف يكون ذلك واليمن كان على الدوام الحديقة الخلفية للسعودية؟

بان ذلك القلق مبكراً منذ اندلاع أزمة الحوثي والتي لاتزال لها قليل أو كثير من التداعيات. ومع تطور الأوضاع في ايران والعراق وسوريا ولبنان (الهلال الشيعي بتعبير ملك الأردن) رأت السعودية ممارسة سياسة الهجوم هذه المرّة، ولكن بجحفل طائفي، عبر دعم جهات وجامعات دينية معروفة. وخلال الأسابيع الماضية ولأول مرة في تاريخ اليمن، دعت صحيفة موالية للحكومة وبعلنية بأن تلتحق الحكومة اليمنية بترتيبات أمنية مع السعودية للتعاطي مع (الزيود الشيعة) في شمال اليمن، وهذا يعني بالضرورة وجود مشاورات مسبقة بين البلدين، ولربما نرى خلال الشهور القادمة الكثير من الدم يراق هناك. تجدر الإشارة الى أن الحوثيين اتهموا السعودية مراراً بأنها تموّل الحرب الحكومية ضدّهم. وعلى الصعيد نفسه، تشير الأنباء الواردة من اليمن، أن السعودية زادت من تمويلها لجماعاتها الموالية لها مذهبياً هناك، وان احتكاكات ومصادرة أراض لعوائل زيدية معروفة قد وقعت.

نواف عبيد: بالون تضحية

نواف عبيد وبغض النظر عمّا يقوله، هو في واقع الأمر يعمل مع الحكومة السعودية، وبالتحديد مع الأمير تركي الفيصل. وهو شاب يبحث عن دور، يحلم أن يكون وزيراً، أو حتى موظفاً مرموقاً في جهاز الأمن أو المباحث (الأمن الداخلي).. حاول فيما مضى ولفترة قصيرة جداً أن يثير الإنتباه حوله من خلال بعض الكتابات الناقدة، ولكنه فجأة صار يعرّف نفسه بعدّة أوصاف. فهو (مدير مشروع تقييم الأمن القومي السعودي) وهو مشروع وهمي لا يعدو الطاولة والكرسي الذي يجلس عليه الرجل. ويعرف نفسه أحياناً كـ (مستشار أمني للحكومة السعودية) أو (المستشار الأمني السعودي) أو (محلل أمني سعودي) وأحياناً يختزل الأمر الى (مستشار الحكومة السعودية) أو (مستشار حكومي) أو (المحلل السعودي). لكن مواهب الشاب هذا كثيرة فهو يعرف نفسه حسب الموضوع الذي يتطرق اليه، كأن يكون مثلاً (المستشار النفطي السعودي) مبتعداً عن الأمن.

وبرغم هذه الأوصاف فإن الرجل محدود الإمكانيات والقدرات، ولكنه يلعب ضمن الجوقة التابعة لتركي الفيصل. وبالقطع فإن الرجل لا يمكنه أن ينشر شيئاً بدون إذن واطلاع مسبق، ولهذا لا يمكن نسبة الكلام الذي نشره في الواشنطن بوست لنفسه، بقدر ما يعبر عن توجهات سيّده في السفارة السعودية بواشنطن. ولكن مشكلة الرجل الحقيقية هي أنه يعتبر نفسه (مستشاراً في كل شيء) ولا يستطيع أن يقف عند تعريف واحدٍ لنفسه، فهو مدافع عن كل سياسات حكومته وفي أي مجال كانت.

أغلب ما ذكره في الواشنطن بوست يمثل أفكار تركي الفيصل، بل أن الأخير قال عبارة واضحة في نفس اليوم الذي بعث فيه نواف بمقالته للصحيفة (أي قبل يوم من نشرها وهو يوم 28/11) وردت نصاً في مقالته، والتي تفيد بالتالي: (مادامت الولايات المتحدة دخلت العراق بدون دعوة، فإنها لا يجب أن تغادر العراق بدون دعوة). هذه العبارة وردت في مؤتمر تركي الفيصل الصحافي قبل القاء كلمة له في جامعة سكرانتن. ومعظم اشارات عبيد حول السياسة السعودية وتوجهاتها في العراق، هي ليست من بنات أفكاره، فلا أحد يجرؤ أن يقول مثلها، وإن كانت صحيحة، ونحسب أن تركي الفيصل نفسه لا يستطيع الجهر بها علناً. ولكن تركي يستطيع التنصل منها، مثلما تنصلت الحكومة نفسها إذا ما جُبهت بردة فعل قوية. المهم أن تصل الرسالة الى واشنطن أولاً والتي تفيد بأن أميركا أخطأت حينما لم تأخذ برأي السعودية في موضوع غزو العراق، وتخطئ مرة أخرى بدون استشارتها إذا ما انسحبت منه.. لأنها تترك حلفاءها في المنطقة متحملين آثار ما فعلته واشنطن لهم. الرسالة الأخرى هي لإيران وتفيد بأنها ستواجهها وتوسع الحرب ضدها لتشمل حقولاً أخرى غير الأرض العراقية. والرسالة الثالثة موجهة للرأي العام العربي من أجل تجييشه طائفياً وللدفاع عن موقف الحكومة السعودية المتخاذل في القضية العراقية منذ أكثر من 16 سنة، وهي تبشرهم أنها اقتربت من ممارسة دورها (الطائفي). والرسالة الأخيرة هي للحكومة العراقية لتخبرها بأنها لا تعترف بها ولا بالعملية السياسية القائمة إذا ما تمّ تجاهل مصالح السعودية ورؤاها (العقدية والسياسية).

المالكي، رئيس الوزراء العراقي، كما سياسيون عراقيون آخرون، أبدوا استغرابهم مما نشر في الواشنطن بوست، ولكنهم لم يشأوا فتح معركة مع السعودية التي تضخم ملفها (العنفي) في العراق، وكل ما قاله المالكي هو أنه مدرك بأن المقال لا يعبر عن السياسات السعودية، مضيفا أنه على اتصال بالحكومة السعودية وهي تدرك ضرورة حماية العملية الديمقراطية.

لكن كثيراً من الكتاب العراقيين انفجروا من الموقف السعودي، فهو يعني جعل العراق مسرح حرب بالوكالة، حتى القيادات السنيّة وبينها القيادات التي حملت السلاح، تحفظت على الموقف السعودي، نظراً لحدّته، كما اندهشوا من بساطة الرؤية السعودية لمعالجة الموقف الداخلي والعنف الذي وصل الى حرب أهلية مفتوحة. واستقطبت مقالة نواف عبيد تعليقات ساخرة من كتاب وصحافيين، واعتبروها مجرد (كلام فاضي) فالسعودية حسب رأيهم لا تمتلك الإمكانية لتزعم صراع عسكري مفتوح سواء مع الحكومة العراقية أو مع إيران، وأن المقالة لا تعدو حسب رأي بعضهم مجرد الفات نظر واشنطن الى ضرورة الإعتناء بالرأي السعودي تجاه القضية، وأنها وسيلة استباقية لما يمكن أن تتخذه واشنطن قبل صدور تقرير بيكر بشأن الاستراتيجية الأميركية القادمة في العراق.

ردود الفعل السياسية الممتعضة بسبب اللحن الطائفي الصارخ، دفعت الحكومة السعودية لتعلن ومن خلال وكالة الأنباء السعودية يوم 30 نوفمبر الماضي وعلى لسان (مصدر مسؤول) التالي: (ما نشرته جريدة واشنطن بوست الأمريكية في عددها الصادر يوم الأربعاء 29 نوفمبر 2006 م منسوبا للكاتب نواف عبيد ليس له أساس من الصحة، كما أن الكاتب لا يمثل أي جهة رسمية في المملكة العربية السعودية ، وأن ما نشره لا يمثل سوى وجهة نظره الشخصية، ولا يعبر بأي حال من الأحوال عن سياسة ومواقف المملكة التي تؤكد دائما على دعم أمن ووحدة واستقرار العراق بجميع طوائفه ومذاهبه).

جاء هذا النفي فيما كان نواف عبيد نفسه يحضر مؤتمراً في إيطاليا، والى جانبه أنتوني كوردسمان، يديران ندوة دافع فيها عن السعودية المتحفّزة لمواجهة إيران والهلال الشيعي. القائم بأعمال السفارة العراقية في الرياض محمد رضا عبيد جاسم أبدى ترحيبه بالتوضيح السعودي وقال: (ان رفض السعودية رسميا الأفكار التي طرحها الكاتب السعودي نواف عبيد في مقالته يؤكد موقف السعودية المعروف والحريص على أمن واستقرار ووحدة العراق بمختلف طوائفه وتياراته السياسية والمذهبية والعرقية). ووصف مقالة نواف عبيد بأنها (تشويش إعلامي للموقف السعودي الرسمي الحقيقي من العراق). فيما قال دبلوماسي غربي في الرياض بأن المقالة في معظمها ربما كانت (تحذيراً).

لكن التوضيح السعودي ربما لم يرق الى المستوى المتوقع، وهنا جاءت التضحية بنواف عبيد بالرغم من القول بأنه لا يمثل (الموقف الرسمي) السعودي. فقد أبلغ تركي الفيصل وولف بليتزر ( من الـ NNC) بأن عقد استشارات نواف عبيد للسفارة السعودية في واشنطن قد أُنهي وأنه تمّ الإستغناء عن خدماته، بسبب مقالته في الواشنطن البوست. وأكد كرستوفر بلانشارد بأن تركي الفيصل قال بأن نواف عبيد يعمل مستشاراً في السفارة السعودية بواشنطن الى حين كتابته مقالته في الواشنطن بوست. وقال كريستوفر أنه (بالرغم من أن عبيد يزعم بأنه إنما كان يعبر عن آرائه الشخصية، إلا أن المراقبين يعتقدون بأنه أخذ موافقة الحكومة السعودية لتسريب المعلومات كتحذير لما تقوم به الميليشيات الشيعية من هجمات ضد السنّة، وكذلك كتحذير للحكومة الإيرانية التي تدعم تلك الميليشيات).

ما قاله تركي الفيصل في تلك المقابلة التلفزيونية بالتحديد هو التالي: (السيد عبيد قام ببعض العمل الإستشاري لصالح السفارة. ولكي نوضح، كما ذكر هو في مقالته، بأنه كان يعبر عن آرائه الشخصية، ولكي لا يساء فهم مواقف السعودية والسفارة السعودية فيما يتعلق بتلك القضية ـ العراقية ـ قررنا انهاء الأعمال الإستشارية معه).

الضحية نواف لا يعلم قراره حتى الآن. لكن المقربين من السفارة السعودية في واشنطن يعتقدون بأنه استخدم كبالون اختبار (noollab lairt) وأن من عادة تركي الفيصل هي (الفصل) ومن ثم (إعادة التوظيف) من جديد. وهو ما يتوقع أن يحدث بالنسبة لنواف. لكن هذا الأخير قد استهلك وبسرعة فائقة سمعته بين الطبقة الإعلامية والأكاديمية الأميركية، والأفضل أن يوظفه تركي في ساحة أخرى، ويفضل أن تكون غير ناطقة بالإنجليزية!



الصفحة السابقة