لقاء الملك بوفد حزب الله

الهروب من الطائفية الى الهدنة المشروطة

هاشم عبد الساتر

نعيم قاسم: لقاء إيجابي

جاء اللقاء المنتظر منذ فترة طويلة بين الملك عبد الله وقيادة حزب الله الممثل في نائب الامين العام الشيخ نعيم قاسم ووزير الكهرباء المستقيل محمد فنيش لأداء القدر المتيسر من الفرض السياسي والاخلاقي والديني. كانت القيادة السعودية قد وجّهت دعوة الى الامين العام لحزب الله السيد نصر الله بزيارة المملكة، ولكن لأسباب أمنية وربما سياسية لم تتم الزيارة، وكان تفسير القيادة السسعودية بأن ثمة سبباً آخر، غير أمني، يحول دون تلك الزيارة وقد أفصح عنها نصر الله نفسه ولكن في سياق الرد، وهو أن طهران ودمشق لم تسمحا بتلك الزيارة، وهو أمر أنكره نصر الله في أكثر من مناسبة، مؤكداً على استعداده لزيارة الرياض في أقرب فرصة سانحة، ولذلك فهو على استعداد لأن يوفد من يمثّله في قيادة الحزب.

وفيما يبدو فإن اللقاء الذي جرى في جدة في ديسمبر الماضي لم يرد له أن يكون علنياً، فلم تعلن عنه الحكومة السعودية في وسائل إعلامها، ولم يصدر بيان عن حزب الله بعد الزيارة مباشرة، بالرغم مما تخلل عودة الوفد واعلان البيان ظهور اعلامي للشيخ نعيم قاسم الذي كان على رأس الوفد القيادي من حزب الله. غير أن تصريح رئيس مجلس النواب نبيه بري بأنه (ما إن علمت قوى 14 آذار بخبر زيارة وفد حزب الله الى المملكة حتى أعلنوا الاستنفار ووزعت المهمات) في إشارة الى تصعيد وليد جنبلاط ضد قيادة حزب الله واتهامه بأنه يقف وراء أغلب الاغتيالات في لبنان إن لم يكن جميعها بحسب ما قاله في مقابلة مع قناة العربية المموّلة سعودياً اضطر حزب الله للبوح بسر الزيارة وشرح أبعادها بقدر من التعميم، بما يحفظ سرية محتويات اللقاء مع الملك.

وبحسب السفير السعودي في بيروت عبد العزيز خوجه، فإن ترتيبات زيارة نائب الامين العام لـ (حزب الله) الشيخ نعيم قاسم وعضو قيادة الحزب الوزير محمد فنيش الى المملكة قد بدأت منذ أسابيع عدة، وقد تولاها عن الجانب السعودي رئيس الاستخبارات العامة نائب أمر منطقة مكة المكرمة الأمير مقرن بن عبد العزيز بالتنسيق مع الملك عبد الله. اللقاء حضره من الجانب السعودي، الملك عبد الله والامير مقرن ووزير الخارجية سعود الفيصل والسفير عبد العزيز خوجة ودام ثلاث ساعات، اتسم بالصراحة والحرارة المرتفعة أحياناً فكان يتطلب تدخّل الامير مقرن للتهدئة وايصال اللقاء الى نقاط مشتركة من اجل استئناف النقاش، والتاكيد على الموضوعات ذات الاهتمام المتبادل.

لقاء استئثنائي كهذا تطلب مداولة في موضوعات الساعة وقضايا الامة بما فيها ذات الحساسية البالغة لدى الطرفين مثل العراق وفلسطين وايران الى جانب لبنان، بما استدعى إفصاحاً عن المواقف لجهة البدء من نقاط الاشتراك. حاول الملك أن يدرء تهمة الاصطفاف الى جانب فريق السلطة في لبنان من خلال التأكيد على الدور الحيادي في الملف اللبناني. ربما كان تفاؤل وفد حزب الله كبيراً في كسر حدّة الموقف السعودي من نشاطات المعارضة، عقب تصريح الملك عبد الله الذي اعتبر النزول للشارع (خرقاً أمنياً)!! مستأنسين لرؤية السفير خوجه بأن الملك عبد الله منفتح ومرن وطيب القلب. لم يكن ملفتاً غياب مستشار الأمن الوطني الامير بندر بن سلطان المهتم بالموضوع اللبناني، والعضد الرئيسي لقوى 14 آذار في الحكومة السعودية، وهو الذي أعدّ بيان (المصدر السؤول) خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان وأجرى لقاءات مع المسؤولين الاسرائليين بشأن لبنان وغيره، فهو مشغول بقضايا أخرى على النقيض من أي صيغة توافقية داخلية.

كان حزب الله خلال اللقاء مع الملك عبد الله يسرد روايته حول مجريات الأحداث منذ اغتيال الرئيس الحريري، اعتقاداً منه بأن الفريق الحكومي في لبنان قد عمد الى تشويه دوره وصورته لدى القيادة السعودية، ما اضطره لأن يفيض في تقديم شرح وافٍ لما جرى بعد إغتيال الحريري مروراً بتطورات لاحقة منها نشوء الحلف الرباعي وحرب تموز وصولاً الى النشاطات الاحتجاجية السلمية على الحكومة، مشفوعة بفاتورة المؤاخذات على سياسة الفريق الحاكم برئاسة فؤاد السنيورة.

على أية حال، فإن زيارة وفد حزب الله الى المملكة تبدو على درجة كبيرة من الأهمية كونها تأتي في سياق تصاعد الموجة الطائفية التي غمرت الخطاب الاعلامي العربي، الأمر الذي أدى الى اتساع الفجوة وزيادة التوتر في العلاقات بين المسلمين، الى جانب تصدّع قواعد الثقة بين كثير من الحكومات العربية والاسلامية وعكست آثارها على العلاقات بين القوى السياسية والاجتماعية بما يهدد بتفجّر العنف الطائفي.

اللقاء مع الملك عبد الله في مدينة جدة بحسب بيان لحزب الله صادر في الرابع من يناير تركّز على الوضع اللبناني الداخلي وأهمية الخروج من المأزق الحالي، وارتباط هذا الوضع بالتطورات المحيطة في المنطقة. وقال البيان بأن حزب الله عرض رؤيته حول الواقع اللبناني ومطالب المعارضة الوطنية. وكان من الطبيعي أن يفتح وفد حزب الله ملف العدوان الاسرائيلي على لبنان، الذي أبدت خلاله الحكومة السعودية موقفاً مثيراً للجدل، حيث وصفت عملية أسر الجنديين من قبل حزب الله بأنها مغامرة، فيما برر البيان السعودي ما لحق بلبنان من تدمير همجي اسرائيلي.

إن قرار قيادة حزب الله بوضع ملف العدوان الاسرائيلي على لبنان على أجندة اللقاء مع الملك عبد الله يأتي في سياق اغلاق هذا الملف بعد إلقاء العتب والاستماع لوجهة نظر الملك، على أساس أن البيان الصادر في اليوم الأول للعدوان الاسرائيلي لم يكن يعكس وجهة نظر القيادة السياسية العليا، بقدر ما يعكس موقف ما داخل العائلة المالكة.

بالنسبة لحزب الله، فإن ثمة إصراراً على إشراك الدور السعودي في المعادلة اللبنانية، ولكن ليس على قاعدة الانحياز لطرف على حساب آخر. لا يخفى أن قيادة حزب الله سعت الى إعادة تأهيل الدور السعودي بحيث يكون على مسافة واحدة من الفرقاء السياسيين كافة. وقد لا يكون هذا الطموح وحده الدافع وراء اللقاء، خصوصاً بعد أن أطلّت الفتنة الطائفية برأسها في التجاذبات السياسية الداخلية، وبعد أن أصبح التلويح بالسلاح المذهبي خياراً سياسياً. السعودية التي يريدها بعض الأطراف اللبنانية أن توفّر غطاءً مذهبياً لمعركته السياسية، وهو أمر أثار هلع قيادة حزب الله، الذي يبدي حساسية مفرطة من الموضوع الطائفي، وربما تستدعي هذه الحساسية خلفية التحالف الرباعي بين حزب الله وتيار المستقبل الى جانب حركة أمل واللقاء الديمقراطي بقيادة جنبلاط، حيث كان حزب الله مدفوعاً برغبة لجم الفتنة الطائفية بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري.

محمد فنيش: تنقية العلاقات

كان واضحاً في بيان حزب الله وتصريحات قياداته قبل زيارة السعودية وبعدها أن ثمة هاجساً رئيسياً يحيط به، ولربما هو ما تنبّه له فريق 14 آذار في مرحلة مبكرة، الا هو الهاجس الطائفي، الذي يمثل نقطة ضعف كبرى لديه. فقد سعى حزب الله الى إخراج نفسه من شرنقة التمذهب والانفتاح على الطيف العربي والاسلامي بأنواعه، لادراكه بأن التصنيف المذهبي يفضي الى تمزيق التلاحم اللبناني والعربي والاسلامي، كيف به وهو يدرك تماماً بأن انتصاره في حرب تموز ـ يوليو 2006 كان يعود الى قدرته على المحافظة على الوحدة الداخلية وتأكيد عمقه العربي والاسلامي عموماً. لقد برزت إشارات منذ الايام الاولى للحرب على البعد المذهبي من قبل الدولة العبرية وبعض المسؤولين الاميركيين، الا أنها لم تنجح بسبب شراسة المعارك والصمود البطولي للمقاومة، بالرغم من أن الساحة السسلفية السعودية تحديداً كانت بطبيعتها متمذهبة ولم تكن بحاجة الى مزيد من الوقود الطائفي من أجل تشغيل محركاتها، فضلاً عن أن الموقف الرسمي السعودي كان كافياً لأن يضفي زخماً إضافياً على الحملة الطائفية السلفية خلال فترة العدوان وما بعدها كما هو شأن كتابات عدد من الصحافيين السعوديين من منطلقات علمانية وليبرالية لا تقل طائفية عن الخطاب السلفي المتشدد.

قيادة حزب الله أرادت في زيارة السعودية أن توصل رسالة الى الملك بصورة خاصة، بأن التجاذب في لبنان هو سياسي وليس مذهبياً، فليست حكومة السنيورة سنيّة كما ليست المعارضة شيعية، ففي كل جبهة منهما خليط مذهبي وطائفي وأيديولوجي، وأن المعيار المذهبي يصبح قاصراً في تصنيف ما يجري على الساحة اللبنانية. الحال يختلف بالنسبة لفريق 14 آذار، فهو يمسك بورقة يحسبها حاسمة، ويعتقد عن طريقها يكون قادراً على استقطاب مزيد من الزخم والقوة بجانبه، فهو حين يضفي طابعاً مذهبياً على صراعه مع المعارضة يكون قد فلق الساحة اللبنانية الى معسكرين، سني وشيعي، وهو انفلاق قابل للتمدد خارج الحدود ويصل الى مراكز الاستقطاب الطائفي التي هي مهيئة إن لم تكن شريكة في اللعبة الداخلية. ويمكن القول، بأن استعمال الورقة الطائفية قد حقق نجاحاً نسبياً لفريق السلطة الممثل في قوى الرابع عشر من آذار، وظهر ذلك في إنكفاء المعارضة وبالخصوص حزب الله عن التصعيد السياسي، خشية أن تمعن السلطة في تصعيد خطابها الطائفي.

من هنا جاءت زيارة وفد قيادي من حزب الله الى السعودية في ظل شحن طائفي يدرك الجميع من وحي تجربة الثمانينات بأنه بالغ الخطورة، في ظل تحديات اسرائيلية وأميركية مباشرة. تصريحات الوفد القيادي من حزب الله حول لقاء الملك عبد الله أكّدت على (أهمية درء الفتنة السنية الشيعية والفتنة الاسلامية المسيحية). ولأن ثمة ذيولاً خارجية للفتنة الداخلية في لبنان، فإن التأكيد على ضرورة وصول القوى اللبنانية حكومة ومعارضة الى توافق داخلي بعيداً عن تأثيرات الخارج يستهدف إشاعة جو من الاطمئنان المتبادل، لدى حزب الله الذي يشعر بأن هناك قوى اقليمية ودولية تلعب دوراً رئيسياً في تأجيج الصراع الطائفي والسياسي، ونقرأ في تصريح الوزير محمد فنيش (أن المملكة تستطيع ان تساهم بما لها من تأثير وامتداد بقطع الطريق على اي فتنة مذهبية وأنها بإمكانها أن تكون وسيطا بين اللبنانيين) في إشارة واضحة الى أن السعودية تمثل جزءً من لعبة الطائفية في لبنان، وهي تمسك بأوراق هذه اللعبة الخطرة. في المقابل، هناك هواجس لدى السعودية التي ما فتأت تنظر بريبة الى دور ايران وسوريا في المعادلة السياسية اللبنانية. يقول بيان حزب الله بأن اللقاء مع القيادة السعودية اتسم بـ (الكثير من الصراحة والايجابية والرغبة في التعاون لما فيه مصلحة وحدة لبنان واستقلاله)، وهي عبارات تحمل إيحاءات جمّة، بالنظر الى ما انطوت عليه العلاقة بين الطرفين منذ عودة المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله الحاج حسين الخليل من الرياض قبل العدوان الاسرائيلي على لبنان وفشل الوساطة السعودية على يد بعض أطراف في قوى السلطة، بالرغم من الاتفاق شبه المكتوب بين حزب الله وتيار المستقبل وحركة أمل في الرياض برعاية سعودية، وما اعقبها من تطوّرات خطيرة على الساحة اللبنانية حيث عمدت قوى الرابع عشر من آذار الى السير في خيار المناكفة السياسية حتى النهاية وصولاً الى اندلاع الحرب الاسرائيلية على لبنان في تموز من العام الماضي وما رافقها وأعقبها من مواقف متشنّجة، بالرغم من محاولات التبريد. لقد نقل عن الوزير محمد فنيش بأن الزيارة كانت لتنقية العلاقة بين المملكة وحزب الله وتصحيح الالتباس الذي وقع خلال الحرب الاسرائيلية على لبنان في إشارة واضحة الى الموقف السعودي السلبي من المقاومة.

القيادة السعودية لم تكن مسرورة بنتائج الحرب، قياساً على الموقف المفاجىء الذي أعلنت عنه في أول يوم للعدوان الاسرائيلي على لبنان. وقد شعرت بأن الاصطفاف العربي والاسلامي خلف المقاومة اللبنانية خلال أربع وثلاثين يوماً للحرب قد أفقدها جزءً جوهرياً من صدقيتها، ولذلك سعت الى تصحيح الخطأ بأي ثمن. نتذكر كيف نشرت صحيفة الجزيرة خبراً عن لقاء صحافي مع أمين عام حزب الله يشيد فيه بدور المملكة وقيادتها بالوقوف الى جانب لبنان، وهو ما نفاه مكتب السيد نصر الله لاحقاً، وعاد السفير خوجه بإستئناف لقاءاته مع قيادات حزب الله وتجديد الدعوة الى الامين العام بزيارة المملكة.

في هذه الزيارة، جدد الملك عبد الله كلاماً كان قد قاله لوليد جنبلاط سابقاً ولرئيس تيار المستقبل سعد الحريري حول السيد نصر الله بأنه (إبننا، ونحن نراهن عليه)، وكانت زيارة الوفد القيادي من حزب الله مناسبة لتكرار الكلام، حيث أشاد بالمقاومة اللبنانية وقيادتها وعن مودة كبيرة تجاه الأمين العام لحزب الله. في المقابل، كرر الوفد تعهدات حزب الله بالموافقة على مبدأ المحكمة الدولية، مع إبداء التحفظ على الابعاد السياسية التي قد تستغل أميركياً، وهو هاجس تحمله القيادة السعودية، على الاقل الملك، وقد أبدى تفهّماً لرؤية حزب الله، ولذلك شاركت السعودية الموقف التركي في ضرورة اجراء تعديلات على مسودة المحكمة الدولية.

ومهما يكن، فإن هذه الزيارة التي كانت كافية لكسر الجليد في علاقة الطرفين، لا تبدو أنها قادرة منفردة على تجاوز ضغوطات محلية وعربية ودولية، في ظل تسارع حركة التجاذبات السياسية وتزايد حدة الاستقطاب الاقليمي، ولكنها بالتأكيد فتحت نافذة جديدة في رؤية الطرفين وإمكانية تطوير فهم مشترك لمشكلات إقليمية ودولية.

الصفحة السابقة