خلفية استقالة تركي الفيصل

الصراع الداخلي على سياسة خارجية

فريد أيهم

الاستقالة المفاجئة للسفير السعودي في واشنطن الأمير تركي الفيصل في ديسمبر الماضي بحاجة الى مزيد من التأمل، خارج مجال تأثير التفسيرات التي يقدّمها فريق تركي حول الأحداث والتي تنطوي على اختزال ونزوع تبريري يضفى غمامة على الحقائق الأخرى، حيث أن الأحداث التي تحيط بالاستقالة تفقد تلك التفسيرات صدقيتها، وتضع المراقب أمام سؤال آخر يتجاوز ما قدّمه فريق تركي. فليس ما قاله هذا الفريق كافياً لحسم القضية، سيما وأن هناك من اعتبر تلك التفسيرات هو بالضبط ما أراده تركي للمراقبين أن يصدّقوه، بصرف النظر عن قربه وبعده من الحقيقة. ولا ننسى أن أول رسالة قدّمتها المقالة التي نشرتها صحيفة واشنطن بوست في ديسمبر الماضي، كانت تفيد بأن الملك عبد الله قد طلب من تركي العودة كي يخلف أخاه في منصب وزير الخارجية.

تركي: ما هي المهمّة الجديد؟!

هل كانت تلك الرسالة النسخة الخاصة بتركي؟ ربما، فهي تقدّم تحليلاً سهلاً بمعطيات معروفة، ولربما أراد الأمير تركي أن يقتفي التقاليد السائدة في الأسرة المالكة في التعاطي مع الأسرار الخاصة. فالتجارب السابقة ترشد الى أن العائلة المالكة تحجم عن فتح أية كوة تقود الى رفع الغطاء عن صندوق الأسرار، ولذلك تميل الى تقديم المقتضب المخّل من الأخبار والقلة المبهمة من التفسيرات.

الامير تركي، شأنه شأن بقية الأمراء الكبار والصغار، يمقت نشر الغسيل، ولذلك لن يفصح عن الأسباب التي أدّت الى إستقالته، ومهما بلغت درجة الخصومة مع بندر فلن نجد في فريق الأمير تركي من سيدلي بتصريح يميط اللثام عن جزء من الحقيقة، أو يقدّم خيطاً يقود اليها. ولذلك ليس مستغرباً أن يلوذ الجميع بالتكتم على ما يجري.

على أية حال، فقد تجاوزت إستقالة السفير السعودي في واشنطن الامير تركي الفيصل حدودها التقنية والادارية، على أساس رواية النقص الحاد في ميزانية السفارة، الامر الذي أدى الى عدم صرف الرواتب لموظفي السفارة مدة ثمان شهور، شملت المستشار الأمني للسفير نواف عبيد الذي أقيل على خلفية مقالة مثيرة نشرها في واشنطن بوست الشهر الفائت.

وفي السياق نفسه، ذكرت صحيفة واشنطن بوست في الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي أن السفير السعودي الأسبق في واشنطن الأمير بندر بن سلطان عاد إليها ليلعب دوراً محورياً كمحرك للجهود السعودية ـ الأميركية ضد إيران، في الوقت الذي غادر فيه سلفه الأمير تركي الفيصل مخلفاً وراءه الديون والصراعات بين العائلة السعودية المالكة.

وأشارت الصحيفة إلى أنه منذ أكثر من سنة قام السفير السعودي تركي الفيصل في أميركا بالعديد من الجولات على الجامعات وغرف التجارة ودور البلديات ومجالس الشؤون العالمية في طول الولايات المتحدة وعرضها، في حملة طموحة لتحسين صورة بلاده.

ولكنها قالت إن رحلة الأمير تركي الودية ذات النوايا الحسنة أنتجت في المقابل فواتير غير مدفوعة بملايين الدولارات. ولم تعلق السفارة السعودية على موضوع الفواتير غير المدفوعة أو على السياسة الداخلية للمملكة.

ورأت الصحيفة أن الخلافات داخل العائلة المالكة تعكس صراعاً عنيفاً حول كيفية إدارة السياسة الخارجية، فيما أنهى الأمير بندر بن سلطان قبل 18 شهراً مهمة أسطورية إستمرت لـ22 عاماً كسفير لبلاده في واشنطن بحجة (الملل).

لكن حسب الصحيفة فقد اعتاد الأمير بندر زيارة واشنطن كل شهر تقريباً وبشكل سري خلال السنة الماضية، مرجحة أن دوره اليوم ما يزال محورياً ومؤثراً في السياسة الأميركية، على الأقل كما كان عليه الأمر حين كان سفيراً.

في المقابل، تحدثت عن استقالة خليفته، الأمير تركي، من منصبه ونقلت عن مصادر مقربة من العائلة السعودية المالكة أن ذلك حصل إلى حد ما بسبب رحلات بندر التي كان يقوم بها في محاولة لفتح قناة خلفية للقاء المسؤولين الأميركيين بمن فيهم نائب الرئيس ديك تشيني ومستشار الأمن القومي ستيفن هادلي.

وأضاف المصدر أن تركي بقي بعيداً عن دائرة نشاط بندر الذي لم يكن يخبره بوجوده في واشنطن في غالبية الأحيان. وفي حالتين علمت السفارة من مصدر خارجي بوصول بندر وأرسلت إلى المطار من يهتم بوصوله.

وأشار أحد المصادر المقربة من العائلة المالكة (أن بروز بندر الذي يحتل الآن منصب مستشار الأمن القومي، ربما يعكس تضاؤل تأثير أبناء الملك فيصل الراحل الذين سيطروا على الدبلوماسية والاستخبارات السعودية لعقود).

وعزا ذلك إلى أن تركي، الذي كان رئيس الاستخبارات قبل أن يصبح سفيراً في لندن ثم واشنطن، (ليس على ود تام مع الملك عبدالله). إضافة إلى ذلك فإن أخاه الأمير سعود الفيصل، الذي يشغل منصب وزارة الخارجية منذ عصر هنري كيسنجر، (مريض).

وبحسب ما صرح به متعهدون ومصادر قريبة من العائلة المالكة، فإنه مع اهتراء العلاقات بين الأمراء في العائلة المالكة خلال السنة الماضية، لم تزود المملكة تركي بالملايين التي يحتاجها لدفع الفواتير السعودية.. فإن أحد المتعهدين وهي شركة كورفيس كوميونيكاشن ل.ل.سي. التي تشرف على تحسين صورة السعودية في الولايات لم تقبض مستحقاتها البالغة 10 ملايين دولار هذه السنة، مع العلم أن العقد السنوي لهذا الشركة يضم أيضاً شريكها مايكل بيتروزيللو. كما عهدت كورفيس ببعض الخدمات إلى متعهدين صغار، ولذلك فإن عدم دفع هذه الفواتير السعودية أدى إلى حرمان معظم النخب الأميركية البارزة في مجموعات الضغط من مستحقاتها. وعلى الرغم من إن بيتروزيللو قال إن تأخر الدفعات هو أمر عادي بالنسبة إلى السعوديين كما غيرهم، فإنه كان أثار هذا الأمر أكثر من مرة مع تركي. ورجحت الصحيفة أن يكون قطع التمويلات (هو واحد من مظاهر الانشقاق الملكي الأخرى) حول كيفية مجابهة التأثير المتصاعد لإيران في الشرق الأوسط من بين مسائل أخرى.

بندر الأقرب الى عائلة بوش وسياستها

وقالت مصادر مقربة من العائلة المالكة أن بندر أصر في زياراته السرية على إدارة بوش كي على عدم التعامل مع إيران، وأن تنظم بدلاً من ذلك توحيداً للجهود من أجل مواجهة التأثير الإيراني المتصاعد في الشرق الأوسط كما يحصل في لبنان. وستكون ثمرة هذا التعاون السعودي الأميركي ما يشبه النموذج الجديد للتعاون الذي ساعد القوى المناوئة للاتحاد السوفياتي إبان احتلاله أفغانستان عام 1979.

وأوضحت هذه المصادر أن (المملكة السنية) تنظر بعين الريبة إلى تزايد النفوذ الإيراني والبرنامج النووي المزعوم، وتخشى تغيير ميزان القوى بين الأقلية الشيعية والأكثرية السنية التي حكمت المنطقة لأكثر من 14 قرناً.

وقالت الصحيفة إن قلق المملكة تزايد بعد تقرير بيكرـ هاميلتون الذي أوصى المسؤولين الأميركيين بفتح باب التفاوض مع إيران وسورية. ذلك أنه قبل التقرير كان الملك السعودي عبدالله حذر تشيني من خطر إيران عارضاً المساعدة السعودية في هذا المجال. وعلى العكس من ذلك، (فإن الأخوين تركي وسعود الفيصل حضا بثبات على الحوار مع طهران وحذرا من الجهود الأميركية ـ السعودية ضدها).

ونقلت (واشنطن بوست) عن مصادر سعودية أنه بعد سنة من التجاذبات الداخلية وعدم دفع الفواتير، لم يدع تركي إلى الرياض ليكون في استقبال نائب الرئيس الأميركي. في المقابل عاد بندر إلى واشنطن مباشرة بعد الاجتماع لبحث تفاصيل الجهود المشتركة، واستقال تركي بعد ذلك بأسبوعين. أشارت المصادر السعودية إلى وجود بعد داخلي للاستقالة المفاجئة للأمير تركي الفيصل سفير السعودية لدى واشنطن يتمثل في صراع السلطة الدائر في الرياض له علاقة بالمكائد داخل العائلة المالكة السعودية.

وقالت المصادر أن تركي الفيصل يلقى معارضة من الأمير بندر بن سلطان الذي يرأس مجلس الأمن القومي والذي يبدو أنه يتطلع إلى وزارة الخارجية، معتبراً أن كل هذه المناورات ترتبط بحسابات كل فريق داخل عائلة آل سعود الحاكمة ورغبته في السيطرة على قرار العائلة.

رأى كاتب أميركي أن استقالة الأمير تركي الفيصل من منصبه كسفير في واشنطن سببها الظاهري خلاف بين نهجين في السعودية تجاه التعامل مع إيران، مشيراً إلى أن رئيس الحرس الوطني الأمير بندر بن سلطان يلعب ورقة الصراع الشيعي السني في المنطقة ويحاول توريط أميركا في هذه السياسة ليلهي الإسلاميين عن هدفهم المتمثل بقلب النظام السعودي وليحفظ هذا النظام من خلال سياسة الإلهاء.

الا أن ثمة أبعاداً جديدة لاستقالة الأمير تركي بدأت تطفو على السطح، منها التوتر المتصاعد بين الامير بندر بن سلطان مستشار الأمن الوطني السعودي، الذي بات يلعب أدواراً متعددة، بما فيها الافتئات على وظيفة السفير السعودي في واشنطن وامتدت الى وزير الخارجية الذي يرقب بندر بعين حمراء عقب تجاوزه المقرر العائلي والاداري. مقرّبون من الأمير تركي الفيصل نقلوا انطباعاتهم بأن الأمير بندر صادر دور السفارة وتجاوز وظيفته الى حد أنه بات يتصرف كوزير خارجية. يضيف المقرّبون بأن الخلاف بين بندر والأمير تركي ليس سوى البداية، وأن ثمة خلافات أخرى كامنة داخل العائلة المالكة بخصوص الدور المتضخّم للأمير بندر ما يجعل إمكانية تفجّر صراع داخل العائلة في وقت قريب.

يعكس المناصرون للجناح السديري وجهة نظر داعمة لموقف بندر، ويرون في استقالة الامير تركي إزالة عقبة أمام السياسة الخارجية الجديدة التي يجب على السعودية المضي فيها دون عوائق. يقول هؤلاء بأن ثمة جناحاً داخل العائلة المالكة بات على قناعة بأن بقاء الأمير تركي في موقعه سيجعل الأمور على درجة كبيرة من التعقيد. في المقابل ذكر بعض المراقبين بأن عدم تدخّل الملك عبد الله في وضع حد للتوتر في علاقة بندر وتركي، بالرغم من معرفته التامة بالتجاوزات المتكررة للأمير بندر، هي التي أكرهت الأمير تركي على الاستقالة، ولم يكن ذلك القرار بطلب من الملك شخصياً. لقد بات واضحاً بأن الأخير يميل الى تحقيق توافق داخل العائلة المالكة عن طريق عدم الدخول بصورة مباشرة في الخلافات الداخلية، تاركاً المجال للمتخاصمين أن يسوّوا خلافاتهم بأنفسهم، وهو ما يفسّره بعض الأمراء المعارضين لهيمنة الجناح السديري بضعف الملك وافتقاره لقدرة الحسم.

والسؤال هنا: هل كان قرار استقالة الامير تركي يهدف الى تعليق الجرس من أجل تنبيه الملك الى خطورة تجاهل الخلافات داخل العائلة المالكة عقب محاولة بعض الأمراء المحسوبين على الجناح السديري التغلغل في المراكز السيادية للدولة؟

يرى البعض بأن الملك قد يلجأ الى إعادة تركي الى السلطة من أجل وضع حد للطموحات المنفلتة لبندر، ولكن ذلك ليس على سبيل القطع، للسبب المذكور آنفاً، خصوصاً وأن بندر يحظى بدعم أميركي كبير.

الحوار لا المواجهة مع إيران

تقلل مصادر في الخارجية السعودية من عدد الاطراف الضالعة في العلاقة المتوّترة بين بندر وتركي، وترى بأن رحاب محمد ابراهيم مسعود، المقرّب من الامير بندر، والذي كان يتولى منصب القائم بأعمال السفارة السعودية في واشنطن حين كان بندر سفيراً، وأنه غادر السفارة ليعمل كرجل ثانٍ في مكتب بندر يمثل من وجهة نظر البعض (صانع فتنة)، وقد لعب دوراً فاعلاً في إذكاء نار الخصومة بين بندر وتركي، ويعد مسعود ذراعاً طويلة لبندر، وهو الذي بشّر الأميركيين في الأيام الأولى لولاية الملك عبد الله، بأن العلاقات بين البلدين ستكون قوية، وكان مقرّباً للغاية من فريق نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني.

مصادر الامير تركي تفضّل الحديث عن قرار الاستقالة على قاعدة مهنية محض، حيث تذكر بأن الأمير تركي قرر الاستقالة بسبب رفضه لعدم حرفية الامير بندر ومسعود، في إشارة الى أن الأخيرين قدّما تطمينات الى تشيني وديفيد أدينتغتون وآخرين في طاقم تشيني للأمن القومي بأن السعودية ستقبل ولن تتدخل في أي عمل عسكري أميركي ضد ايران. لقد فهم البعض من ذلك التبرير لقرار الاستقالة بأنه يعكس الى حد كبير التفاوت داخل العائلة المالكة بشأن رغبة تشيني في القيام بعمل عسكري، فيما تلوّح تقارير خاصة الى أن بندر قد طمأن نائب الرئيس الأميركي بأن السعودية قد تمضي في قبول وربما دعم العمل العسكري الاميركي ضد ايران. مصادر أخرى ذكرت بأن بندر قد يدعم شخصياً وبقوة وجهات نظر تشيني حيال رد الفعل العسكري على ايران.

تقول هذه المصادر بأن هذا هو جوهر الخلاف العميق بين الامير تركي وبندر وهو ذات الخلاف بين وزير الخارجية سعود الفيصل وبندر أيضاً.

فالخلاف إذن حول ما يجب فعله تجاه إيران وكيف يمكن احتوائها. فبينما يساند بندر ورحاب مسعود وجهات نظر تشيني والتي هي وجهات نظر إدارة بوش، فإن تركي كان ينزع الى تبني وجهة نظر أكثر واقعية من أجل الحفاظ على المصالح السعودية ناصحاً البيت الأبيض بتطوير استراتيجيات جادة وبناءة حيال المنطقة من أجل تحقيق الاستقرار وليس شق درب خطير للإرهاب يمتد من ايران عبر العراق ويندفع عبر سوريا والاردن الى حدود اسرائيل.

وفيما ينظر بعض الأميركيين بريبة الى دور تشيني الذي بات يقود مشاريع الحروب في المنطقة فيما يتحلق حوله بعض القوى والاجنحة السياسية في الشرق الاوسط، فإن ثمة شكوكاً متزايدة من أن اندفاع تشيني نحو اشعال حروب اقليمية برعاية أميركية قد يحيله في نهاية المطاف الى كبش فداء في ادارة بوش، وهناك من يرى في تشيني صانع حروب في خط المحافظين الجدد.

يصغي بعض الساسة الاميركيين بإهتمام الى رؤية الامير تركي الفيصل حيث يميلون الى أن خيار الحوار مع ايران هو كفيل بتحقيق نتائج مثمرة، وقد جاء ذلك متطابقاً مع تقرير بيكر هاملتون الذي أوصى ادارة بوش بفتح باب الحوار مع دمشق وطهران.

بندر الذي لا يخفي رغبته الجامحة بأن يصبح يوماً ملكاً للسعودية وقد أفشى ذلك لمقربين منه في نهاية السبعينيات، ها هو يحقق تلك الرغبة من خلال السير بطموحاته نحو ذلك الهدف، مع أن طموحه لأن يحتل منصب وزير الخارجية لم يتزحزح. في المقارنة بين تركي وبندر يرى المراقبون بأن كليهما متفقان على تعزيز سلطة العائلة المالكة ولكنهما يختلفان في نقطة واحدة: ان تركي يتمسّك بالوسائل التقليدية التي تسهم في ترسيخ سلطة العائلة المالكة فيما يجنح بندر الى أن تكون العملية أميركية مئة بالمئة. الجدير بالاشارة أن ميول بندر ليست منفردة، فهو يستند الى قاعدة صلبة داخل العائلة المالكة، وقد كشفت بعض المصادر بأن وزارة الداخلية بإدارة الامير نايف على استعداد لدعم وجهات نظر بندر حيال الحرب على ايران.

ثمة انتقادات تروج بين طبقة من السياسيين الأميركيين في الحزب الديمقراطي تعارض الغريزة الجانحة لدى بندر والتي تدفع إدارة بوش لمزيد من تبني سياسات راديكالية طائشة ومجهولة النتائج إن لم تكن كارثية، فقد اعتبروا دفعه تشيني الى السير في خيار المواجهة العسكرية مع ايران عملاً شيطانياً في ضوء الورطة الخطيرة التي وقعت فيها القوات الاميركية في العراق.

ولكن هذا التحليل يبقى أسير سؤال كبير: هل من الانصاف القول بأن قرار الامير تركي بالاستقالة عائد الى معارضة خطة تشيني بضرب إيران؟ فالتحليل المنطقي يملي رؤية مختلفة، حين تجتمع عناصر متنافرة في معادلة واحدة تفضي الى نتائج ذات علاقة بعيدة بمكوّنات تلك العناصر. وعموماً، فإن الامير تركي لن يستقيل لمجرد رد فعل على خيار محتمل بعيد المدى مازال خاضعاً للنقاش، ما لم يكن تركي منخرطاً بصورة شبه كاملة في النقاش الجاري حول هذا الخيار وأنه فشل في محاولاته بإقناع الحليف الأميركي بإحداث تغييرات جوهرية في الخطة، هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار فرضية أن الادارة الاميركية قد وضعت بالفعل خططاً لمهاجمة ايران. وهذه الفرضية تملي أيضاً بأن تركي استقال لأن بندر أصبح الرجل المناسب في هذه المرحلة كونه يحمل نظرات متطابقة مع عائلة بوش حيال الهجوم على ايران.

وكشفت مصادر صحافية عن وجود علاقات مشدودة بين الأميرين تركي الفيصل السفير السعودي السابق لدى واشنطن وبندر بن سلطان رئيس مجلس الأمن القومي السعودي الذي اتبع أسلوباً هجومياً في السياسة الخارجية السعودية مناقضاً للسياسة الهادئة المدروسة التي يتبعها الأمير تركي وشقيقه وزير الخارجية الأمير سعود، مما دفع بتركي إلى تقديم استقالته.

وتوضح المصادر بأن الأمير بندر سعى إلى مبادرات بشكل مستقل عن وزير الخارجية الأمير سعود، بما في ذلك زيارته الأخيرة غير المعلنة إلى واشنطن حيث شجع صقور الرئيس الأميركي جورج بوش على مقاومة الدعوات إلى التواصل مع إيران وسورية، في حين اعتبر الأمير تركي رفض أميركا التحدث مع إيران خطأ، موضحة بأن مثل هذه الاختلافات ربما تعكس انقساماً غير قابل للحل في التوجهات السعودية تجاه الحرب في العراق.

(الخيخة) بلا موقف فيما يتعلق باستراتيجية بوش!

وأشارت المصادر إلى أن العلاقات القبلية والدينية التي تجمع بين آل سعود والأقلية السنية في العراق، بالإضافة إلى التنافس التاريخي مع إيران الشيعية والشك في الأقلية الشيعية نفسها في السعودية يثير المخاوف من مخططات للجمهورية الإيرانية للهيمنة على المنطقة، موضحة بأن هذه المخاوف تفاقمت بسبب احتمال تطوير إيران أسلحة نووية، وتخلي أميركا عن العراق لسيطرة حكومة شيعية مدعومة من إيران، وانزلاق لبنان ثانية إلى فلك سورية.

وأعربت مصادر سعودية عن اعتقادها بأن الخلافات لها علاقة بالسياسة الداخلية للعائلة المالكة، وكذلك بالسياسة الخارجية، لافتة إلى أنه رغم حرص آل سعود على التصرف بناء على إجماع العائلة إلا أن احتمال الصدامات بين مجموعتين رئيسيتين فيها لا يزال قائماً، مجموعة تربط الملك عبدالله إلى شخصيات عملية مثل ابني الملك فيصل، فيما الأخرى يقودها ولي العهد الأمير سلطان الذي يترأس فرع السديريين القوي والذي ينتمي إليه وزير الداخلية الأمير نايف وحاكم منطقة الرياض الأمير سلمان، مُذكِّرة بأن الملك عبدالله والأمير سلطان كلاهما في الثمانينيات من عمرهما، وأنه رغم تغيير قوانين ولاية العهد لتذويب النفوذ السديري يستمر القلق من أن الملك عبدالله قد أصبح أضعف من أن يتمكن من اعتراض وصول السديريين إلى السلطة.

مجلة (تايم) الأميركية نشرت في عددها الصادر في الحادي وعشر من ديسمبر الماضي مقالاً بعنوان (لماذا استقال السفير السعودي) لروبرت بيير، الذي عمل في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) لمدة 21 عاماً، وأمضى وقتاً طويلاً في الشرق الاوسط. وبيير الذي نشر مؤخراً كتاباً بعنوان (See No Evil) من الاشخاص الذين يؤمنون بأن العلاقة الوثيقة بين عائلة بوش والنخبة السعودية أفضت الى فشل استخباراتي بلغ ذروته في هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

يرى بيير أن استقالة تركي تعود الى حاجة بلاده اليه في ظل التحضيرات الاميركية للحرب المحتملة مع ايران. وبصرف النظر عن الزخم الدعائي المصاحب لمقالات كهذه، خصوصاً حينما يراد منها أن تكون في سياق شحن الأجواء بكمية تحليلات ذات طابع خصامي، فإن مقالة بيير قد تعكس النوايا الأميركية العدوانية والتواطؤ السعودي.

يقول بيير أن السفير السعودي الأمير تركي الفيصل وصل الى واشنطن وغادرها دونما إحداث أدنى رجفة في الاجواء السياسية، بل كان مهملاً الى حد ما من قبل إدارة بوش، على العكس من سلفه الأمير بندر الذي كان موفداً ناشطاً في واشنطن الذي أمضى 22 عاماً في منصبه. فبالرغم من الزلزال العنيف الذي ضرب الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر والذي كشفت التحقيقات القضائية الأميركية عن تورّط 15 سعودياً من أصل 19 انتحارياً شاركوا في العملية، فإن بندر كان بعد يومين من الهجمات يجلس في باحة ترومان مع بوش للتباحث في تقرير مصير العالم.

وبحسب بيير فإن تركي لم يفتقر الى وجاهة في واشنطن، فحين كان رئيساً للاستخبارات السعودية أدار قوات المجاهدين في حرب أفغانستان، واضعاً المسمار الأخير في نعش الامبراطورية السوفييتية. وحين أوقف الكونغرس تمويل الكونترا، كان تركي وراء قرار التدخل للمساعدة في دفع فواتير إدارة ريغان.

تفسيرات المغادرة المفاجئة لتركي تتباين ويمكن اختصارها على هذا النحو: الاولى أنه سيحل مكان أخيه المريض وزير الخارجية، الثانية أن تركي كان غاضباً لأنه لم يكن على اطلاع بما دار في لقاء تشيني والملك عبد الله في الرياض في نوفمبر الماضي، الثالثة أن تركي شعر بالمهانة لأن بندر كان يدمّره بصورة فاعلة في واشنطن، الرابعة أن تركي كان يخوض معركة الخلافة مع سلطان، ولي العهد ووزير الدفاع، ووالد بندر، الخامسة: أن بندر لم يستطع الحصول على مؤيدين داخل المحافظين الجدد، السادسة: افتضاح اللقاءات السرية بين تركي والاسرائيليين.

يضيف بيير أن شخصاً ما قابل تركي قبل أن يغادر واشنطن أخبره بأن يضع تفسيراً آخر في الاعتبار وهو: أنه قد تم استدعاء الامير تركي للاستعداد من أجل احتمالية نشوب حرب مع ايران. وهذا التفسير يبدو مريباً، خصوصاً حين يتعلق الأمر بإعلان حرب، فضلاً عن التصريح غير المباشر بنية التورّط فيها.

يذكر بيير بأن المقالة التي كتبها نواف عبيد، المستشار الأمني لتركي قبل استقالة الاخير والتي ذكر فيها بأن السعودية ستحارب من أجل حماية العراقيين السنة في حال سحبت الولايات المتحدة قواتها من البلاد، قد تمت بإذن من الملك عبد الله. يضيف بيير: حين سألت هذا الشخص لماذا أنكر السعوديون مباشرة أن عبيد تحدّث بإسم المملكة، وتم طرده من وظيفته الرسمية، قال: (إنها مجرد شاشة دخان. إن السعوديين يريدون إيصال رسالة، ولكنهم أيضاً بحاجة الى نفي مقبول للحفاظ على خياراتهم). ويضيف هذا الشخص بأن عبيد هو مخلوق الأمير تركي، وموظفه. وأن عبيد لا يعمل بصورة مستقلة (فري لانس). وكذلك الحال بالنسبة لتركي، فالأمر قد تم تقريره في الرياض. إن هذه المقابلة تتساوى مع تصريح سعودي بالحرب على إيران، وعليه فإن تركي قد تمت ترقيته ولم يتم فصله من وظيفته، بحسب بيير.

ويرى بيير أيضاً بأن ثمة منطقاً خلف هذا التفسير، فالملك عبد الله الذي يواجه تنامي النفوذ الايراني في العراق ولبنان بحاجة الى تركي كيما يكون بالقرب منه. فتركي يعرف ايران أفضل من أي أمير سعودي آخر. فهو الذي فتح أول قناة خلفية رسمية مع ايران بعد الحرب العراقية الايرانية. ومذذاك، حافظ تركي على حوار مفتوح مع ايران. في الوقت ذاته، يدرك تركي بأن طهران هي مصدر تهديد. فإيران قادرة على إغلاق مضيق هرمز، وقطع 20 بالمئة من الانتاج النفطي العالمي اليومي، في حال تعرّضها للاستفزاز. وعليه، فإذا قوبلت نصيحة تركي بآذان صمّاء في واشنطن، فلماذا لا يتم إعادته الى البلاد حيث باستطاعته أن يقوم بعمل ما أفضل؟

نشير هنا الى رد الفعل السعودي على تقرير بيكر ـ هاملتون، حيث الانقسامات داخل العائلة المالكة إزدادت حدة إثر صدور التقرير حول التواصل مع إيران وسورية بخصوص الشأن العراقي، حيث تعمَّق قلق فريق من آل سعود من احتمال حصول تقارب بين واشنطن وطهران قد يكون على حسابها.

وأضافت المصادر أن هذا الموقف هو ما أبلغه الملك عبدالله إلى نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني لدى زيارته الأخيرة إلى الرياض، مشيرة إلى أن الأميرين تركي وسعود الفيصل يتخذان موقفاً أكثر حذراً يتناقض مع موقف الملك عبدالله والأمير بندر. ورأت المصادر أن النظام السعودي الحالي يدرك أنه إذا خذل الميليشيات السنية في العراق فهو يخاطر بتفجر معارضة فرقٍ من العائلة المالكة داخل السعودية.

الصفحة السابقة