العلاقات السعودية الإيرانية

فشل في المنافسة والمعوّل على دور (عسكري) أميركي

محمد قستي

زار علي لاريجاني مسؤول الأمن القومي الإيراني الرياض والتقى بالمسؤولين السعوديين وفي مقدمهم الملك، وأوصل رسائل من خامنئي ونجاد اليه.

هل يستطيعان التفاهم على حلّ للمشكل اللبناني؟

قال السعوديون أنهم سيبحثون معه وضع لبنان وملفات أخرى.

ماذا سيطلبون من الزائر؟

الشيء المؤكد أن الملف السعودي الإيراني شائك، ومن المؤكد أيضاً أن القدر الأكبر منه هو شكوك وسوء ظن أكثر منه مشاكل حقيقية تستعصي على الحل. ومن المؤكد ثالثاً، أن ايران مستميتة في إقناع السعوديين بأنها لا تسعى الى الإضرار بهم، وأنها تريد تطوير العلاقات معهم، وتقاسم النفوذ ـ أو الأدوار معهم ـ خاصة في الموضوعين العراقي واللبناني، وهذا ما ظهر مثلاً من لقاء نجاد مع مراسل تلفزيون العربية.

قد يكون الملف اللبناني الأكثر حضوراً في الوقت الحاضر، بالرغم من سخونة الملف العراقي، لكن هذا الملف العراقي لا يمتلك السعوديون فيه أوراقاً حقيقية وقد سلّموها كاملة للأميركيين هناك. ومع هذا، لم تهدأ الرسائل الإيرانية والوفود الإيرانية الى السعودية، ولم نشهد حركة مماثلة مقابلة، الأمر الذي يظهر وكأن ايران تحاول تهدئة المخاوف السعودية، وتحاول أن لا تسعى الأخيرة الى تصعيد الموقف (طائفياً).

ايران والسعودية والعراق متنافسون أشدّاء في منطقة الخليج.

موقع نفوذ العراق الوحيد ـ من الناحية التاريخية ـ يقع جنوباً، فالكويت هي نقطة الضعف في منظومة التأثير السعودي. كما أنه يقع غرباً، والأردن هي نقطة الضعف الأخرى التي يمكن للعراق ان يكون له نفوذ فيها. سنجد تاريخ العراق يؤكد على أن التمدد السياسي يشمل هذين البلدين فحسب.

وموقع نفوذ السعودية يقع في جبهتين: شرقية وتشمل دول الخليج، وجنوبية وتشمل اليمن، مع أن هذا الأخير أكبر من أن تبتلعه السعودية، وهو يبحث له عن دور، في القرن الأفريقي ولدى بعض دول الخليج: سلطنة عمان والإمارات بوجه خاص.

إيران تستطيع ـ بعد سقوط الإتحاد السوفياتي ـ ان تستعرض عضلاتها في كل الإتجاهات تقريباً: شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. في الغرب ـ وهذا هو المهم ـ هناك الدولة العراقية التي كانت يوماً ما قوية، ومخيفة ومهددة، وهذا ما أثبتته حرب الثمان سنوات. ولكن العراق اليوم صار هو بذاته ميدان نفوذ، بعد انقسامه، وسقوط نظامه البعثي واحتلاله من قبل الأميركيين، شأنه في ذلك شأن كل الدول الضعيفة أو التي استضعفت. يدلك على ذلك انه حتى الأردن والكويت اللتان شكلتا مسرحاً للسياسة العراقية على مدى عقود طويلة، صارتا تبحثان عن مواطئ قدم لهما في العراق (المبعثر)!

ايران ومنذ الشاه (اقرأ مقالة محمد الهليل في هذا العدد) سعت لتنافس السعودية في النفوذ على دول الخليج، ولكن الأخيرة كبحته في إيران الخمينية وبسلاح عراقي. واليوم ضعف نفوذ السعودية في الخليج لاعتبارات سياسية واستراتيجية كثيرة، ولتطورات سعودية داخلية مثيرة أيضاً. واحتدم ميدان صراع جديد بين السعودية وايران، لكن هذه المرّة على (النفوذ في العراق).. كل يبحث عن مبررات سياسية واستراتيجية وأيديولوجية لتبرير تدخله في الشأن العراقي، وفي الحالة السعودية يتهم الآخر بما يقوم هو به!

مالذي جعل العلاقات السعودية الإيرانية تتراجع خلال العامين الماضيين (1904-1906)؟

لقد كان شهر عسل سعودي ايراني لم يعمر طويلاً ابتدأ بهاشمي رفسنجاني في 1997 ويكاد ينتهي بعد عقد من ذلك التاريخ. فما عدا مما بدا؟

الإيرانيون يقولون أنهم كلما بعثوا برسائل التطمين ووجهوا برسائل الشك والريبة من السعوديين.

وكلما بعثوا وفودهم لشرح وجهات نظرهم، ظهرت تصريحات السعودية تفيد بأن شكوكهم لم تبدد.

وكلما ظهر التوتر في التصريحات السعودية، قابلها صمت إيراني شبه مطبق، فلا رد فعل، ولا تشكيك مماثل، ولا تنديد بالرسائل الإعلامية الموجهة.

إذن.. مالذي يجعل السعودية تشعر بالغصّة والألم، وتجأر بالشكوى، وتثير النزعة الطائفية، والعنصرية ضد الفرس المجوس!، وكأنها قاب قوسين أو أدنى من الحرب مع إيران (هذا ما يُفهم من تهديدات السعودية عبر مقالة نواف عبيد في الواشنطن بوست).

الذي طرأ بين بداية العلاقات ونهايتها أربعة أمور، تسبب الإزعاج الشديد، ولكنها ـ برأي الإيرانيين ـ لا تستدعي القطيعة:

الأول ـ سقوط الطالبان

الفيصل: هل هو مع مواجهة إيران؟

وقد أدى ذلك السقوط الى تراجع النفوذ السعودي، وصعود النفوذ الإيراني في أفغانستان. فالسعودية ـ ولا داعي للتذكير هنا ـ هي إحدى ثلاث دول اعترفت بطالبان، أو هي حتى أحد أهم صناع الطالبان. ولكن، ومهما قيل عن دور ايراني في اسقاط الطالبان، فالدور السعودي يفوق الدور الإيراني، كون الحرب التي شنّت على الطالبان أُديرت من القاعدة الأميركية في الرياض، وكون السعودية شرعنتها بصورة أو بأخرى بالقول أن تلك الحرب لا تعني حرباً على المسلمين. ايران راهنت على المعارضة الأفغانية من حكمتيار ورباني وشاه مسعود والحزب الإسلامي وكل القيادات غير الطالبانية، في حين راهنت السعودية على الطالبان وحدها، فكانت النتيجة وصول أصدقاء ايران وحلفاؤها الى الحكم في افغانستان. ولكن مما يخفف ألم (الربح الإيراني) على المعدة السعودية، ولا نقول خسارة الأخيرة، هو أن لإيران حدوداً مع أفغانستان، التي هي بعيدة كل البعد عن السعودية، وهي أي افغانستان لا أهمية كبيرة لها في محيطها الإقليمي والإسلامي.

الثاني ـ سقوط صدام حسين

وقد أُسقط بنفس الأداة الأميركية والموالاة والدعم السعوديين، وهذا لم يزعج السعوديين كثيراً، ولكن ما أزعجهم أن العراق وبدل أن يتحول الوجود الأميركي فيه الى تهديد لإيران، صار مسرحاً لنفوذها. ولأن العراق أرضٌ بكر للنفوذ، فالسعوديون انزعجوا لأن منافساً ـ يمكن أن يتحول في المستقبل الى عدو ربما أشرس من صدام نفسه ـ حقق ما فشلوا فيه.

ذات المبررات التي تعطى للسعودية للتدخل في العراق يمكن اعتمادها بالمنطق السياسي لإيران. فالدولتان مجاورتان للعراق، وكلاهما تعرض لتهديد نظام صدام، وإن كان الأخير خصّ إيران بشيء أكبر وبسبب ذلك شنّت حرب السنوات الثمان. وكلا الدولتين لهما حقّ مشروع في الدفاع عن النفس من جهة (المنتج الأميركي في العراق) فوجود القوات الأميركية يهدد السعودية ـ على الأقل كان ينظر له هكذا في البداية ـ كما إيران، وبالتالي لعب الطرفان بصور مختلفة لتخريب اللعبة الأميركية في العراق وجعل الأخير مستنقعاً للأميركيين حتى لا يفكروا في حرب أخرى. أيضاً كلا الطرفين السعودي والإيراني لا يرغبان في رؤية عراق قوي، أياً تكن القيادة شيعية أو سنيّة، بالنظر للحسابات الإستراتيجية لكليهما.

إذن لماذا يغضب السعوديون من إيران؟!

الغضب يعود الى أن ما جرى في العراق، حقق أمرين: نفوذاً غير متوازن للطرفين السعودي والإيراني، وحتى العربي الإيراني، حيث حصل الأخير على حصة الأسد. والثاني: وصول أكثرية شيعية للحكم، بحكم الديمغرافيا، وهذا اعتبر لصالح ايران آنياً وخطراً ربما مستقبلياً على السعودية (او هكذا نظرت اليه السعودية).

رغم نقاط التوافق التي ذكرناها بين السعودية وإيران، وأنهما ساهمتا في تخريب الوجود الأميركي هناك، فإن رؤيتهما لمستقبل العراق (من جهة من يحكم، وكيف يحكم) اختلفتا. ايران وبحكم استثمارها لمدة طويلة في المعارضة العراقية (كردية وشيعية) وجدت حلفاءها في قمة السلطة، والسعوديون لم يكونوا يوماً يحبذون لا الشيعة ولا الأكراد، لهذا اتجهوا الى تخريب اللعبة عليهم وعلى الأميركيين عبر غض النظر عن إرسال المتطوعين السعوديين ليشعلوا النيران هناك في قتال طائفي نجح في تقسيم المجتمع وقيادته باتجاه الحرب الأهلية، كما أرسلوا الأموال مثل الإيرانيين، لا ليوطّد لحلفائهم أقدامهم ويبنوا مؤسساتهم وتنظيماتهم، وهو ما فعلته ايران، ولكن لكي يستخدمونه عنفاً ضد الآخر المختلف سياسياً.

جزء من المشكلة السعودية ـ الإيرانية في الموضوع العراقي هو أن السعودية ـ كما مصر والأردن ـ اعتمدت رهانات خاطئة، وشعرت بالغيرة من النجاح الإيراني في التمدد. وبدل أن تعيد النظر في سياستها، وتعيد تشكيل خارطة تحالفاتها مع القوى العراقية الفاعلة، اختارت الإصطفاف الطائفي، والتحريض الطائفي، وراهنت على القوى العربية السنيّة، أو بعضها، واعتمدت مشروعها، وهو ليس مشروع حكم، بقدر ما هو مشروع (تخريب) اللعبة وقلب الطاولة على الآخرين، وهذا ينجح لفترة مؤقتة فقط، ولكن ليس له أفق من النجاح في المستقبل، بحكم أن القوى العربية السنيّة ومهما بلغ الدعم الذي تحصل عليه سياسياً ومالياً وبشرياً كمقاتلين هي قوى (أقليّة) لا تستطيع ولا يسمح لها أن تحكم العراق بوضعه الحالي اليوم.

إذا قال السعوديون لإيران: كفوا عن التدخّل في العراق! فإن المسؤولين الإيرانيين، مع أنهم لم يجيبوا! يقولون في سريرتهم: ومن أنتم؟ وما شأنكم؟ ولماذا لا تطلبون إيقاف التدخل الأميركي المحتل وتقولون لأميركا اخرجي من العراق؟ ثم إنكم أنتم أيضاً تتدخلون بشكل صارخ في الشأن العراقي، وما هو حلال لكم حلال لنا!!

مثل هذا المنطق يتداول حتى بين المسؤولين العراقيين. فمعاناتهم بدأت بالنفوذ السعودي (العربي بشكل عام) الذي صدّر لأسواقهم ومساجدهم وشوارعهم المفخخات والإنتحاريين المؤدلجين وهاّبياً. ولكن تلك المعاناة لم تتوقف، بعد أن دخل الشيعة طرفاً في القتل أياً تكن الحجة والمبررات، فصار القاتل والمقتول سواء، في دائرة من الدم لم تتوقف حتى الآن. وبعد هذا القتل المتبادل، جأر البعض بالألم، وتحدث عن حماية السنّة العرب. والحقيقة أن من قدّم السنّة العرب قرابين للمحرقة هم: الوهابيون بدرجة أولى، ومن ورائهم الدعم المالي السعودي، وفتح الحدود السورية والأردنية والسعودية لهم بالدخول. مشكلة السنّة العرب كما هي واضحة اليوم أنهم بلا قيادة مركزية، وأن قرارهم قد تم اختطافه بيد القادمين من الخارج الذين يميلون الى الجهاد الطائفي أكثر من جهاد المحتلّ، فعمى الألوان جعلهم يغامرون بمحاربة الأكثرية الكردية ـ الشيعية، وهذا انتحار بدأت ملامحه تتحدّد وتتوضح يوماً بعد آخر.

نجاد وعبدالله: الوصول للإطمئنان

النفوذ الإيراني في العراق حقيقة واقعة. ولكنه نفوذ ذكي، بل بارع الذكاء، كان يجب على العرب أن يتعلموا منه إن فاتهم الدرس الإيراني في أفغانستان!

السعوديون ـ الوهابيون عموماً ـ يميلون الى التنميط والتعميم والتهويل، ويتعامون عن حقائق الأرض، وهذا ما يجعل الحكومة السعودية غير قادرة على رسم سياسة متماسكة مبنيّة على فهم يقترب من تلك الحقائق. من بين ما يروج هو وجود عسكري ايراني، بل أحياناً يجري الحديث عن (جمهور بشري ايراني) شارك في الإنتخابات ومنح الجنسية وما أشبه!!، وأن كل الشيعة في العراق لا ولاء لهم إلا ايران: بالطريقة التي تحدث عنها مبارك او ككتلة صماء تشكل مرغمة جزءً من الهلال الشيعي، كما يقول ملك الأردن. مثل هذه التصورات يأخذها المسؤولون السعوديون بجد، وفي ذلك فشلهم.

النفوذ الإيراني في العراق ابتني منذ ربع قرن وليس ما جرى إلا ثمرة لذلك البناء!!

منذ ربع قرن، كانت إيران تستثمر في المعارضة العراقية، بشتى أصنافها، في حين كان المعارضون العراقيون عند الدول العربية يسلمون الى صدام ليشنقهم. وكان استثمارهم في صدام، وليس في البديل. ويوم حاول السعوديون ايجاد البديل، في بداية التسعينيات الميلادية، انقطع نفسهم بسرعة، وتركوا الحبل على الغارب، ومن ثمّ ـ والى أن سقط صدام ـ كان السعوديون غير مرحبين لا بالكرد ولا بالشيعة العرب، وكل ما لديهم بعض الضباط السنة القدماء (70 سنة فما فوق!!) يريدونهم أن يكونوا رؤساء وعبر المال فقط!

كان من الطبيعي ان تربح ايران. فهي فتحت مدارس ومستشفيات في كردستان. أعطت أموالاً للشيوعي والقومي واليميني واليساري، وأتت بهم الى صفها خاصة في السنوات (1991-2003) في حين أن السعودية وبعد سقوط صدام أرسلت بعض المال لتبني بضعة مساجد لتنشر الوهابية!!

الإيرانيون لا يحتاجون الى إرسال قوات، ولا الى مخبرين ايرانيين، ولا الى زرع أحد في القيادة. فمعظم القيادة العراقية كانت حليفة لإيران قبل سقوط صدام، وكل تلك القيادة كانت تبحث عن ثقب إبرة عربي (سعودي أو مصري) فلم تجده ولم تعط فرصة حتى للتفاهم!

السعودية تستطيع أن تبعث بالمال، وكذلك ايران تستطيع. ودائرة توسيع المال الإيراني في العراق أوسع من دائرة السعوديين. ومن لا يصدق فلينظر الى حلفاء السعودية ـ إن وجدوا ـ هناك!

ايران اعترفت ـ بذكاء ـ بالعملية السياسية في العراق، فبعثوا ممثليهم منذ اليوم الأول الى هناك، وافتتحوا سفارتهم وقنصلياتهم، بل أن القنصلية الإيرانية في اربيل مفتوحة منذ وجود صدام في الحكم قبل أكثر من عشر سنوات. في حين أن العرب رفضوا العملية السياسية كل بطريقته، وشجعوا السنّة العرب على رفضها (عدا القليل منهم) كما رفضوا فتح سفاراتهم بحجة الوضع الأمني.

ما نريد قوله هنا أن ايران لم تحصل على هذا النفوذ لولا أن خياراتها الأستراتيجية كانت واضحة، وبنت عليها منذ ربع قرن. في حين لا استراتيجية للسعودية ومصر. والإنزعاج من ايران اليوم هو انزعاج الفاشل والجاهل الذي لا يريد أن يتعلّم من خصمه، بل يسعى لشتمه والتنديد به وتخريب (المائدة العراقية) بدل أن يحصلوا على حصة منها!!

الثالث ـ النفوذ الإيراني في لبنان

وهو نفوذ كان موجوداً ولكن تحت الرقابة السورية، وضمن استراتيجيتها. وكانت للسعودية صولات هي الأخرى في لبنان، ولها من الحلفاء الكثيرين، وأنجزت اتفاق الطائف، بقبول سوري. أي ان الوجود السوري كان عاملاً حاسماً في التحكم بحجم النفوذ الإيراني، وكان أيضاً داعماً في أكثر الأحيان للنفوذ السعودي هناك في لبنان.

استمرّ الحال على وضعه: السعودية حصرت دعمها للسنّة في لبنان، وإيران أخذت تدعم الشيعة وبعضاً من السنّة والمسيحيين وحتى الدروز! الفلسفة الإيرانية كانت مختلفة وأبعد من التشرنق الطائفي، هذا لا يعني أنها لا تهتم بالموضوع الطائفي، ولكن طريقة معالجتها مختلفة: بالإنفتاح على الآخر واستقطابه، في حين ان الفلسفة السعودية قائمة على الفئوية والعزل. وهذا ما سهّل عليها فيما بعد خسارة الكثير من نفوذها في لبنان وحافظ الإيرانيون على وجودهم.

السعوديون اليوم منزعجون من النفوذ الإيراني في لبنان، وهو نفوذ قديم شأنه شأن نفوذ السعودية وكل الدول الكبرى: فرنسا وأميركا فضلاً عن سوريا، وأحياناً بعض الدول العربية عراق صدام الى ما قبل 1990. يوم حدثت النقلة النوعية في العلاقات السعودية الإيرانية عام 1997، لم يكن السعوديون يبدون انزعاجهم من الوجود الإيراني هناك. كان حزب الله يواجه اسرائيل في الجنوب، وكانت سوريا هي المايسترو، وكان الحريري رجل السعودية حاكماً.

عام 2000 نجح حزب الله في طرد اسرائيل، فتضخمت مكانته السياسية داخل لبنان وعبر الحدود. لم يجعل ذلك السعودية تفكر في فتح علاقة معه، فهي مصرّة على أنه مجرد أداة، وأنه أصولي وهي تكره الأصولية منذ وقفت ضدها في مسألة استقدام القوات الأميركية لإخراج صدام من الكويت، وهو فوق هذا شيعي، والشيعة في السياسة الخارجية السعودية قوى غير موجودة على أجندتها.

حرب صيف يوليو 2006، كانت حاسمة في الإنزعاج السعودي من ايران.

قبل تلك الحرب حدث اغتيال رفيق الحريري، وانخرطت السعودية مع فرنسا وأميركا في مشروع إخراج سوريا من لبنان، ليس هذا فحسب، بل وإسقاط النظام السوري، قبل أن تتبيّن ملابسات الحادث، وهي حتى الآن غامضة، وفي كل يوم تزداد احتمالات مقتله على يد المخابرات الغربية ـ الإسرائيلية.

تصورت السعودية أن إسقاط النظام السوري يعدّ مكافأة لها وإعادة للتوازن، فقد أُسقط نظام أقلوي سنّي في العراق، ولا يكافؤه سوى إسقاط نظام علوي/ أقلوي في سورياً. هذه بتلك!

وتصورت أيضاً أن إخراج سوريا من لبنان تعني ضربة قاصمة للوجود الإيراني ولحلفائه المتعددين وفي مقدمتهم الشيعة وحزب الله.

الحريري: أذنه في باريس لا الرياض

الذي حدث غير ذلك تماماً. فالوجود السوري كان كابحاً بصورة كبيرة لقوة حزب الله، وحين خرج ظهر أن الحزب يستمدّ قوته ليس من الوجود السوري، بل العكس، فإن الوجود السوري قزّم المكانة السياسية لحزب الله. بخروج سوريا، صار حزب الله القوة السياسية الحزبية الأولى في لبنان! يا لها من نتيجة كارثية على السعودية!

والأرباح التي توقعتها بتعاظم نفوذها في لبنان ذهبت الى موقع آخر، أي ازدياد النفوذ الأميركي والفرنسي ليس فقط على حساب السوري ولكن على حساب السعودي بالتحديد. لقد خسرت السعودية الكثير من نفوذها بخروج سوريا من لبنان، وصار حلفاؤها يسمعون واشنطن وباريس أكثر مما يسمعونها، حتى الحريري نفسه، فضلاً عن جنبلاط الحليف الجديد للسعودية!

أيضاً وتبعاً لذلك، لم يتأثر الوجود الإيراني في لبنان، أو هكذا بدا، بل يبدو وكأنه ورث بعضاً من النفوذ السوري الذي هو لم ينته، بل موجود في قمة السلطة الى قدمها!

خرجت السعودية من لعبة مقتل الحريري، خاسرة بكل المقاييس.

وحين جاءت حرب تموز، عزّزت السعودية خسارتها بغباء منقطع النظير.

وقفت السعودية مع اسرائيل لأول مرة في تاريخ العرب، وأصدرت بيانات أهدرت سمعتها، ونجح حزب الله في الحرب ليخرج على السعوديين بطلاً قومياً عربياً (بعمامة) في ظاهرة لم تحدث منذ الإنشقاقات الأولى في تاريخ الإسلام!

كانت كارثة تلك النهاية، ولاتزال السعودية تواصلها ولكن بقليل من الأوراق.

انكفاء حزب الله للمعركة الداخلية مع فريق السعودية/ اميركا/ فرنسا/ اسرائيل، كلفه كثيراً، فقد نجحت السعودية في جعل المعركة وكأنها طائفية بامتياز. لكن الحزب وحلفاءه لم يخسروها تماماً. وصار واضحاً ان السعودية ليست قادرة على تغيير موازين القوى، وأن قرار 14 آذار ليس في السعودية وإنما في واشنطن وباريس فقط.

السعوديون اليوم لاعب ملحق لتلك العاصمتين.

ليس من المنتظر أن ينجح اللقاء السعودي ـ الإيراني في الوصول الى حل بين المتخاصمين هناك في بيروت، حتى لو وافق عليه الطرفان المتنازعان، اللهم إلا إذا كان الإتفاق مرضي عنه في واشنطن وباريس، وهو غير متوقع الحدوث. فسياسة واشنطن اليوم معنية بفتح ملفات الأزمات وليس حلها.

وبالنسبة للنفوذ الإيراني على حزب الله، فإنه تضاءل أيضاً، فالأخير نضج وكبر واستقوى على الأرض وأصبح يتحرك بأكثر مما مضى مستقلاً، ثم إنه بتحالفاته المتنوعة صار حزباً عابراً للمذهبيات، وصار أكثر حرصاً على (لغته الوطنية) ومن المتوقع أن لا يقبل أية املاءات سورية أو إيرانية، بعكس ما تعتقده السعودية!

الرابع ـ الملف النووي الإيراني

ملف ايران النووي يزعج السعودية لا من جهة تحوله الى سلاح نووي، فهذا على الأرجح لن يتم إلا في ظروف حرب أميركية ـ إيرانية، أي مواجهة شاملة بين الطرفين، تدفع ايران لاختصار الوقت من أجل امتلاك ذلك السلاح. في حال وصل الطرفان الغربي/ الإيراني الى تفاهم سياسي (موسع) يشمل كل الموضوعات في المنطقة، وهذا ما لا تتمناه السعودية ومصر، فإن موضوع السلاح النووي لن يكون في متناول اليد في المدى المنظور.

يبدو ان السعودية ليست قلقة من تحول المشروع الإيراني النووي من سلمي الى حربي، ولا نظن قلقها إلا مفتعلاً ذاك الذي يقول بالخشية من تسرّب نووي ايراني يلوّث الخليج، فمشكلة السعودية أو نظرتها للموضوع النووي الإيراني تكمن في جزئية أخرى مختلفة.

السعودية، مثلها مثل اميركا واسرائيل، لا تريد لإيران النجاح علمياً في الموضوع النووي. فهذا الإنجاز له انعكاسات ايضاً على صعيد النفوذ والتنافس.. لهذا الغرب لا يريد أي مشروع ايراني نووي سلمي.. نقطة أول السطر! لأنه بالضرورة مشروع يقفز بمكانة إيران وبقدراتها العلمية حدّاً لا يراد لها أن تصل اليه. لا يراد لإيران ولا لكثير من الدول غيرها ممن لها نهج سياسي مستقل، أن تمتلك أسباب القوة العلمية الحقيقية. والسعوديون، لا يتمنون للمشروع الإيراني أن يرى النور، مع أن المفاعل الإيراني الأول في بوشهر كان قد بدئ به في زمن شاه ايران، وبمعونات غربية، ولم يكن حينها يسبب انزعاجاً سعودياً!!

هذا النظام الإيراني، غير مقبول، وممنوع عليه أن ينجح، وان يكون نموذجاً لدول أخرى. والسعوديين لا يريدون لهذا النظام المنافس أيديولوجيا وسياسياً أن يمتلك قوة العلم. تجدر الإشارة هنا الى أن الغربيين يدركون اكثر مما تدركه السعودية من حقيقة التقدم العلمي الإيراني، الذي هو أوسع بكثير من موضوع صناعة الأسلحة والتقنية النووية، فإيران نصف دول صناعية، وما نشهده مجرد قمة جبل كبير.

لكن السعودية لا تستطيع أن تقول للإيرانيين أن لكم الحق في مشروع نووي سلمي، وبالتالي لا خيار لها إلا بالحديث تهويلاً عن مشروع نووي عسكري مرة، ومرة عن مخاطر المشاريع النووية على البيئة وهي مخاوف مفتعلة كما قلنا، والحقيقة تكمن في زاوية أخرى.

هل تريد السعودية حربا أميركية ضد ايران

هناك طريقان للتعامل مع إيران.

جربّت السعودية الأول بدعمها حرب صدام، لكبح جماح الثورة المنطلقة أو ما يسمى (تصدير الثورة). وقد تناسى الفريقان ـ ولو الى حين ـ تلك الأزمة بعد احتلال الكويت، وحاولت ايران ـ بمبادرة منها وليس من السعودية ـ تطبيع العلاقات بين البلدين.

السعوديون تلكأوا، ووضعوا شروطاً تتعلق بالتعاون الأمني.

ولكن ظهر فريق من الأمراء الشباب يحبّذ إقامة علاقة مع ايران، وبينهم تركي وسعود الفيصل إضافة الى بندر بن سلطان، بعكس بعض المحافظين كالأمير نايف وزير الداخلية. كان السعوديون يومها يبررون العلاقة بالقول: إيران حقيقة جغرافية لا نستطيع تجاهلها، أما أميركا التي تريدنا أن نخوض حروباً فهي اليوم هنا وغداً راحلة. وفعلاً قرر ولي العهد حينها، الملك الحالي عبدالله، كسر الجليد وفتح الباب لإقامة العلاقة. والفلسفة السياسية تقول إن خير وسيلة لدرء الشرّ القادم من إيران هو التعامل معها وعدم استعدائها. وهذا المنطق لازال سائداً في كل دول الخليج بلا استثناء ـ غير السعودية.

اليوم، تجد السعودية نفسها غير قادرة على كبح الطموح الإيراني، بغض النظر عن مشروعيته من عدمه، فكان لا بدّ من استخدام وسائل أخرى، وهي لا تعدو وسيلتين: الأولى، تسخين الجبهة الطائفية والعنصرية لاحتواء النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، ولكن هذا يعني في حقيقة الأمر إعلان حرب بصورة أو بأخرى، فلا يمكن أن تشعل الحرب الطائفية دون أن تدخل في معركة مع إيران، مثلما هو الحال بالنسبة لهذه الأخيرة لا تستطيع أن تهاجم (الوهابية) دون أن تصطدم مع السعودية وتدمر الأسس التي تقوم عليها العلاقات بين البلدين. الثانية، تشجيع الولايات المتحدة لاتخاذ مواقف متشددة من إيران الى حدّ أن بعض الأمراء يرى الدفع باتجاه الحرب مع إيران، وهو ما دفع بمرشد ايران الى أن يبعث برسالة تهديد مبطنة لدول الخليج، محذراً اياها من تسهيل الهجوم على ايران.

في إطار النقطة الثانية، هناك رأيان في القيادة السعودية، وهما في طور مراجعة الموقف السعودي من إيران. رأي الصقور الذي يقف على رأسه الأمير بندر، وهو رأي يتناغم مع مواقف اسرائيل والصقور من المحافظين الجدد في واشنطن، وهو يرى أن قوة إيران تضخمت ولا بدّ من وضع حدّ لها بالقوة العسكرية، والعقوبات الإقتصادية، بل وحتى الحصار والتخريب الإقتصادي، فالوسائل الدبلوماسية غير مجدية. والسعوديون أعلنوا شيئاً من نياتهم من خلال الرسالة التي أرادوا توجيهها عبر مقالة نواف عبيد في الواشنطن بوست، والتي تحدثنا عنها في أعداد سابقة. وأصحاب هذا الرأي يرون أن أي حرب ستخوضها واشنطن، لا يسع المملكة إلا الدخول فيها عبر قواعدها العسكرية وحتى استخدام جيشها لتعضيد الهجوم الأميركي، وعليها أن تتحمّل ما يصيبها من تبعات وخسائر، خاصة الصواريخ الإيرانية التي قد تقصف كرد فعل المنشآت النفطية السعودية، ولهذا لا غرابة أن تأتي واشنطن بصواريخ باتريوت في الخليج لغرض الحماية، وكأن هناك نيّة أميركية لتوسيع رقعة الحرب لتمتد الى ايران، وهذا ما فهمه بريجنسكي، مستشار كارتر للأمن القومي، أي تبني سياسة سابقة اتبعت في فيتنام حين اقحمت كمبوديا ولاوس وغيرهما في الحرب فيما سمي بـ (الفتنمة)!

الرأي الثاني يقول بمحدودية الإنخراط والتشجيع على الحرب الأميركية ضد إيران، وأصحابه يحصرونها في حدود (التأديب) وليس الحرب المفتوحة. وهم ضد الحرب المفتوحة، لأنها ستجرّ عليهم رداً إيرانياً حتى لو لم تدخل السعودية طرفاً في الحرب، باعتبارها مجال للنفوذ والمصالح الأميركية.. لهذا، يرى هذا الفريق المحافظ، والملك بينهم فيما يبدو، أن حدود المواجهة مع ايران يجب أن تكون محدودة.

أيضاً، من بين أصحاب هذا الرأي الثاني، من يعتقد بأن من الممكن إعادة (صيانة) العلاقات السعودية الإيرانية بالإنخراط في عمل جدي مشترك، إن على صعيد العراق أو لبنان، فإذا ما قدّم الإيرانيون بعض التنازلات في استراتيجيتهم يتقدم السعوديون باتجاه اصلاح العلاقات. لكن المشكلة الحقيقية هي أن السعوديين لا يعرفون ما يريدون من إيران على وجه التحديد، وإذا عرفوا لا يستطيعون تبرير مطالبهم، وإذا ما برروها لم يوضحوا المشترك في المصالح بين الطرفين.

ولهذا فإن الصورة ضبابية حتى الآن، ولكن مما لا شك فيه أن العام الفائت شهد تغيراً في العلاقات السعودية الإيرانية، كما شهد ولادة فريق من القيادة الحاكمة في الرياض يريد خوض الحرب ضد ايران. وهذه تبدو أول ظاهرة في تاريخ السعودية التي اعتادت الحروب بالوكالة ولم يصبها من أحداث المنطقة العاصفة على مدى ثمانية عقود إلا القليل من الضرر، وقد تؤدي المغامرة السعودية القادمة الى الإضرار بالسعودية كدولة بشكل لم يحدث ابداً في تاريخها الحديث.



الصفحة السابقة