تحولات خارطة التحالفات الإقليمية

أحلاف السعودية بين الماضي والحاضر

محمد الهليل

هناك سبع قوى رئيسية فاعلة في الشرق الأوسط: اثنتان منها لهما وضع خاص وهما: تركيا التي أدارت ظهرها لعمقها العربي والإسلامي، وإن حاولت في العقدين الأخيرين أن توازن بين مصالحها الإقتصادية الإقليمية وبين علاقاتها مع أوروبا، ولكن هذه القوة لم تبد رغبة في لعب دور ذي قيمة في الشرق الأوسط، مع أن هناك بعض المؤشرات تفيد بتغير ما حدث في هذا التوجه بعد وصول الإسلاميين الى السلطة، وبعد الإحتلال الأميركي للعراق وآثاره المباشرة على تركيا. وهناك بالتأكيد رغبة عارمة ـ اليوم ـ لدى قوى دولية وعربية لجذب تركيا كي تلعب دوراً أكبر في قضايا المنطقة. القوة الثانية هي إسرائيل التي تضبط تصرفاتها ومصالحها مع تحالفها بالغرب وخاصة الولايات المتحدة، وهي قوة فاعلة في الشرق الأوسط ولكنها القوة التي يجمع على أنها عدو لكل القوى الأخرى، وإن بنسب متفاوتة، عدا تركيا.

القوى الخمس الرئيسية الأخرى هي: مصر، سوريا، العراق، إيران، والسعودية. وهي قوى منقسمة على نفسها، ونقصد العربية منها بالذات، فهي لم تتفق يوماً على مشروع سياسي واحد، وكان هنالك فريقان على الأقل مختلفان دائماً، وكان هناك شيء ما يحدث بين الفينة والأخرى ويغير خارطة التحالفات بين هذه القوى، وسنأتي لشرح هذه القضية فيما بعد.

لماذا هذه القوى تعدّ رئيسية وذات أثر ملموس في الخارطة السياسية؟ باختصار يمكن الإجابة بالقول أن هذه الدول هي القادرة على إنجاح مشروع سياسي أو تخريبه، وهي الدول التي (تريد) و (تستطيع) أن تمارس نفوذاً في محيطها الجغرافي أو الثقافي أو الدولي، الأمر الذي يجعلها محوراً من محاور النشاط السياسي، ومفتاحاً من مفاتيحه الرئيسية. بالطبع ليس كل دولة تستطيع أو ترغب في ممارسة النفوذ. فقوة هذه الدول مختلفة ولكنها متميزة، ومجموع ما تملكه كل واحدة من أوراق القوة أو عناصرها يمنحها أفضلية في التأثير. الدول تعتمد في قوتها على العنصر البشري، أي عدد السكان، والحجم الإقتصادي، وتأثيرها العلمي والثقافي والفني، والمكانة السياسية المترتبة على تبني قضية ما، والمكانة الدينية، والمخزون التاريخي من تراث وإرث حضاريين، وما تمتلكه دولة ما من تحالفات وأصدقاء في هذا الكون. كل دولة تستطيع أن تراكم القوة وأن تمارسها في السياسة. والدولة العربية الرئيسية تتمتع كل منها ببعض هذه العناصر من القوة.

الحلف السعودي ـ المصري

وهو أول حلف يتشكل في العالم العربي، وتمتد جذوره الى الأربعينيات الميلادية الفائتة، وهو حلف هندسه الملك السعودي المؤسس عبد العزيز آل سعود، أو لنقل كان بمبادرة منه، أملته ظروف سياسية سعودية بالدرجة الأساس. كان الملك السعودي لايزال في صراع مع الهاشميين، حكام الحجاز السابقين، والذين كانوا في الأربعينيات الميلادية يسيطرون على قطرين عربيين هما: العراق والأردن، وكان الهاشميون لازالوا القوة الفاعلة في المشرق العربي رغم خسارة الحجاز الذي كانوا حينها ما يزالون يحلمون ـ وربما يعملون ـ لاستعادته من يد السعوديين.

في تلك السنوات الخوالي، لم تكن هناك سوى أقل من عشر دول عربية مستقلة، ونقول مستقلة تجاوزاً، شكلت فيما بعد جامعة الدول العربية. والملك السعودي وجد أمرين أساسيين في مصر:

الأول ـ أنها أقوى قوة عربية، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وبشرياً. مع أن مصر لم تكن لها اهتمامات خارجية، اللهم إلا في السودان الذي لم يكن يعدو ملحقاً خلفياً لمصر. ومثل هذه القوة يمكن أن توازن النفوذ الهاشمي في المشرق، خاصة في العراق، الذي كان يتمتع بثقل اقتصادي وسكاني أكبر بكثير من المملكة السعودية نفسها، وكان للهاشميين نفوذاً في سوريا ولبنان وفلسطين، وكانت قيادته أكثر تطوراً، والحياة السياسية فيه أكثر انفتاحاً.

الثاني ـ يمكن اعتبار ذلك الحلف في جانب أساس منه (حمائياً). فمصر في المخيال السعودي/ الوهابي هي الدولة الوحيدة (الأجنبية) التي احتلت معاقل الوهابيين في نجد وكسرت شوكتهم بالوسائل العسكرية. ولازال القلق من مصر الى هذا اليوم سائداً في ذهنية عدد من النخب النجدية. والسعوديون بالأمس كما اليوم، يعتقدون بأن التحالف مع مصر ليس فقط يمنع استخدام مصر كقوة عسكرية ضدهم في أية منازعات قد تحدث، بل قد يوفر لهم ـ عكس ذلك ـ فرصة الإستفادة من القوة العسكرية لمشاريع سياسية مشتركة كما حدث في تحرير الكويت.

ينبغي التذكير هنا، أن الملك عبد العزيز، وفي لفتة نادرة غادر السعودية لزيارة مصر، وهي الزيارة الوحيدة للخارج التي قام بها في حياته بعد تأسيس مملكته، تأكيداً منه لأهمية ذلك التحالف، حيث التقى مع الملك فاروق، ومدّ جسور الروابط مع ذلك البلد، بعد أن كان معه في حالة جفاء منذ عهد الملك فؤاد الذي عارض احتلال الوهابيين للحجاز في العشرينيات الميلادية الفائتة، وما تبعها من حدوث قتلى مصريين في واقعة المحمل الشهيرة. وقد تعاون فؤاد مع الهاشميين ـ ولو جزئياً ـ في تمويل حركة قبلية عسكرية (حركة حامد بن رفادة) للقضاء على الحكم السعودي هناك.

من جانبها، لم تكن مصر في الأربعينيات الميلادية، تتطلع الى دور عربي بارز لتلعبه، ولم تكن هناك إغراءات للقيام بمثل ذلك الدور، خاصة وأن عدد الدول العربية المستقلّة قليل، وأن أعباء الزعامة يتطلب استقلالاً سياسياً أكبر لم تكن مصر قد حصلت عليه بعد، وزيادة على ذلك لم تكن القيادة المصرية وفي سبيل لعب دور ريادي مستعدة او قادرة على مواجهة القوى الإستعمارية المحتلة في المنطقة (فرنسا وبريطانيا).

ولهذا بقي التحالف السعودي ـ المصري منحصراً في بذل جهد مشترك يتمحور حول (الجامعة العربية) الوليدة والقضايا التي تشغلها آنئذ وهي تنحصر في موضوعين: البلدان العربية الواقعة تحت الإحتلال والثانية موضوع فلسلطين الذي بدأ مع الجامعة ولن ينتهي ـ ربما ـ إلا بعد أن تنتهي!!

الحلف المصري ـ السعودي شهد تطوراً بقيام الثورة المصرية في يوليو 1952، فمع أن مصر لم ترتح للإنقلاب، إلا أن الإنقلابيين لم تتبلور لديهم بعد رؤية حول الوضع العربي ودور مصر والأيديولوجية السياسية المبتغاة، حيث أن كتاب (فلسفة الثورة) لم يظهر إلا بعد سنوات. لم تتعقد العلاقات السعودية المصرية بسبب الإنقلاب، بل أن عدداً من قادة الثورة في سنيها الأول ذهبوا الى مصر للحج والسياسة، وقد استفادت السعودية في تلك السنوات الأولى من الخبرات المصرية، خاصة في مجال الأمن!

وفي منتصف الخمسينات كان دور مصر العربي قد حسم، وبدا أن السعوديين ـ خاصة بعد حرب السويس ـ قد استبدّ بهم القلق من تزايد نفوذ مصر في العالم العربي وفي الداخل السعودي.. لكن كان هناك أمل في أن (التوافق) المصري السعودي سيتعزز، في حين أن مصر بدأت منحى مختلفاً ووجدت نفسها أبعد ما تكون عن التحالفات الغربية من جهة، وعن من تعتبرهم أزلامها في المنطقة العربية. ومع أن السعودية كانت قد شهدت في الخمسينيات هي الأخرى مواجهة سياسية عاصفة مع بريطانيا حول البريمي، ووقفت مع مصر ضد مشروع الهاشميين فيما عرف بـ (حلف بغداد) إلا أن مصر لم تقدر للسعوديين دورهم، ربما لأن قناعة ما بدأت تراود عبدالناصر بأن الأنظمة الملكية (الرجعية) يجب أن تزال، وأنها لا تعدو أدوات بيد الإستعمار.

شهد عام 1958 قطيعة بين مصر والسعودية، وتبدلاً في خارطة التحالفات العربية، فالهاشميون قد سقطوا في بغداد بانقلاب عبدالكريم قاسم المعادي هو الآخر للسعودية (والرجعية العربية). يومها خرج بعض طلاب المدرسة العسكرية في الطائف وهم يلوحون بقبعاتهم: (باقي اثنين، واحد وحسين). أي لم يبقَ سوى ملكان: واحد غير مُعرّف (ويقصد به الملك سعود) والثاني الملك حسين. لم يعد القلق السعودي منذئذ (هاشمياً). ولم تكن للهاشمين رغبة في مواجهة السعودية بقدر ما كانت تحدوهم رغبة الحفاظ على الملك الهاشمي في الأردن. وهنا تحسنّت العلاقات السعودية الأردنية الى أبعد مدى. وكان في المواجهة عبد الناصر وسوريا.

ففي عام 1958 أيضاً، شهد الشرق الأوسط نقلة نوعية غير مألوفة، وهو الوحدة المصرية السورية وقيام (الجمهورية العربية المتحدة) فأدّى ذلك الى إضعاف السعودية، وزيادة خشية إسرائيل، والى احتمال سقوط الأنظمة الحليفة للغرب وبالذات: الأردن ولبنان اللتان شهدتا إنزالات عسكرية غربية. ولو دخل العراق حينها في حلف أو اتحاد مع تلك الجمهورية الوليدة، لكانت خارطة الشرق الأوسط قد تغيرت للأبد.

السعودية ـ وخوفاً على انحلال النظام السياسي فيها ـ رتّبت علاقاتها مع الغرب خاصة واشنطن، وأعادت علاقاتها المقطوعة مع بريطانيا، وموّلت الصحافة في لبنان لتشتم عبد الناصر، وزادت بأن دبرت محاولة الإغتيال الشهيرة لعبدالناصر والتي كشف عنها عبدالحميد السراج.

لم يكن هناك حلف عربي قوي وفاعل يقف بوجه عبد الناصر، فالعراق كان مشغولاً بذاته، ومشغولاً بمشاكله مع سوريا، وله بعض الطموحات عبر عنها بالدعوة (لاستعادة الكويت) كجزء من (الوطن العراقي)!

إيران الشاه كانت مشغولة هي الأخرى بقضايا مختلفة، بعضها داخلي يمتد الى فترة الإطاحة المؤقتة بالشاه وتأميم النفط على يد محمد مصدّق، قبل أن يعود الشاه مرة اخرى بانقلاب مدبّر. لم يتبلور يومها دور إقليمي/ خليجي للشاه، وكان الغرب يرى فيه حاجزاً من تسلل الشيوعية الى الجنوب، الى المياه الدافئة. لهذا كان حلف بغداد (حلف السنتو) ولهذا أقحمت فيه تركيا والباكستان أيضاً.

العداء السعودي لعبدالناصر استمر الى هزيمة 1967م، بعد سنوات عاصفة من الصراع الأيديولوجي والدعاية السياسية بل والحرب التي كانت اليمن مسرحاً لها (1962-1967) والتي دخلتها السعودية كطرف فاعل لحماية ذاتها من التمددات الثورية الآتية من الجنوب.

كانت مصر هي قطب الرحى السياسية في العالم العربي، كانت الفاعل واللاعب الرئيس، لم ينافسها فيه ـ بجد أحد. ومع أن سقوط دولة الوحدة عام 1961 قد أثر كبيراً على مشاريع عبدالناصر، إلا أنها لم تكن ضربة قاضية. وفي الحقيقة كان اللاعبون الكبار في الشرق الأوسط أكثر تناقضاً من أن يشكلوا محوراً خاصاً بهم، فحتى عداءهم لعبد الناصر لم يجمعهم على خارطة واحدة. البعثان في العراق وسوريا كانا مختلفين مع بعضهما كما مع عبدالناصر، بعضه له صبغة أيديولوجية، وبعضه يمكن وصفه بالمزايدات حول كيفية تحرير فلسطين، وبعضه شخصي للغاية أكثر منه مصلحي (مصلحة للدولة).

مصر تمسكت بجمهورها العربي كرصيد أساس لريادتها وزعامتها، وهي الدولة التي اعتقد بأنها رأس الحربة في مواجهة اسرائيل والإستعمار الذي لم يخرج كاملاً من الدول العربية، إذ لازالت هناك بعض الدول لم تستقل بعد. وميدان مصر السياسي تعدى حدود الجوار (السودان، وليبيا فيما بعد، وفلسطين على الحدود، فضلاً عن الجزائر المحررة) ليمتد الى نفوذ أبعد من حدود العالم العربي.

سوريا كانت تمارس نفوذها أو بعضاً منه في إطارين: فلسطين، ولبنان، وأحياناً تسعى للتحرش بالأردن.

العراق كان بعيداً عن فلسطين ولكنها كانت ورقة من صميم صراعاته السياسية مع نظرائه من الدول الكبيرة والفاعلة، ولم تكن لديه ورقة يستطيع لعبها لا شرقاً حيث ايران ولا شمال حيث تركيا ولا جنوباً حيث النفوذ السعودي.

السعودية هي الأخرى سعت للملمة الإطار المتناثر حولها كيما تحمي نفسها، فهي بعد أن كانت عدواً لنظام الإمامة، صارت الداعم له ولقواته ضد الإنقلابيين الجمهوريين، وكان نفوذها واضحاً في بعض دول الخليج، وربطت بشكل معمق أواصر العلاقة مع الأردن الضائع والقلق بين القوى المتنافسة (سوريا والعراق واسرائيل والسعودية) فضلاً عن أنها وثقت علاقاتها بالشاه كدرع محتمل في منظومة أمنها الإقليمي.

السعودية بحثت عن أيديولوجية لمكافحة عبدالناصر، فوجدت في مقولة (مكافحة الشيوعية) استراتيجيتها المفضلة، وهي الاستراتيجية الشاملة التي كانت قد تبنتها أميركا ودول الغرب لمكافحة كل الدول والحركات المعارضة لها. استثمرت السعودية في هذا السبيل المعارضين المصريين من الإخوان المسلمين في الترويج الدعائي ضد عبدالناصر وفي تصعيد الحسّ الديني لمكافحة الشيوعية، فظهر مشروع (الحلف الإسلامي) وكأنه مقابل لشعار (الوحدة العربية).

بسقوط عبدالناصر في حرب 1967، ومن ثم وفاته في 1970، عادت العلاقات السعودية المصرية الى مجاريها، وبدا أن تحالفاً قوياً قد نشأ بين البلدين، ولعبت الإستخبارات السعودية/ الأميركية دوراً رئيسياً في تحويل مصر عن مسارها السياسي على النحو الذي أوضحته المعلومات التي أوردها هيكل في (خريف الغضب) عن دور كمال أدهم، رئيس الإستخبارات السعودية السابق.

في بداية السبعينيات الميلادية الفائتة، وفي ذات السياق، تحسّنت العلاقات السعودية السورية التي كانت متوترة في عهد صلاح جديد، ولذا ظهر حلف مؤقت قبيل حرب اكتوبر وانتهى بنهايتها، حلف سوري ـ سعودي ـ مصري، خطط للحرب، ثم اختلف على طريقة إنهائها.

عادت سوريا مبتعدة عن مصر، وبقيت السعودية الى جانب مصر، حتى كان ما كان من شأن السادات وزيارته للقدس، وما تبعه من قطع العلاقات بين الدول العربية ومصر، وقد تغير الوضع بعد مقتل السادات، فعادت السعودية والدول العربية الى مصر بدل أن تعود مصر إليهم! ومنذئذ والعلاقات السعودية المصرية في تفاهم وانسجام عدا ما حدث بعيد انتهاء أزمة غزو الكويت، وإلا هناك شبه تفاهم حول معظم القضايا: السلام مع اسرائيل، الموقف من ايران، الموقف من حماس، الموقف من الحرب الإسرائيلية على لبنان ومن حزب الله، الموقف من القضية العراقية منذ بدايتها وحتى الآن، الموقف المشترك من قضايا دمقرطة المنطقة، وغير ذلك من المسائل.

الثورة الإيرانية وتبدّل التحالفات

لم تتوضح طموحات الشاه وإيران كدولة إلاّ في بداية السبعينيات الميلادية، أو قبلها بقليل حين قررت بريطانيا الإنسحاب من البحرين والإمارات الخليجية الأخرى. كان الشاه قبلها عضواً فاعلاً في (مكافحة الشيوعية) وقد أرسل قواته الى سلطنة عمان لضرب ثوار ظفار، ولم تعترض السعودية على ذلك، بل لم تجد فيه ما يدعو للخشية أو الريبة، بل ربما كان الدور الإيراني محبّذا سعودياً كما هو غربياً. وظهرت في تلك الفترة النظرية الأميركية المعروفة بـ (العمودين المتساندين) والعمودان هما: ايران الشاه، والسعودية.

حين قررت بريطانيا الخروج من الخليج، كان لا بدّ من وجود قوة تملأ الفراغ، ولم تكن هناك قوة مهيأة سوى قوّة الشاه، الذي تطورت لديه البارانويا بعيد ارتفاع أسعار النفط وحرب 1973 ليعلن أنه شرطي الخليج.

لم تتغير النظرة السعودية للشاه باعتباره حليفاً بل وشريكاً رغم احتلاله الجزر الإماراتية التي صمت الخليجيون عنها الى أن اشتعلت القضية فيما بعد سقوط الشاه. الحقيقة ان السعودية نسقت مع الشاه مواقفها النفطية، ونسّقت معه سياسياً لضرب العراق، وقد تجلّى ذلك بوضوح بالغ في دعم حركة الملا مصطفى البرزاني، وقد دخلت إسرائيل على الخط حينئذ، وأثمرت القضية اتفاق شط العرب عام 1975م التي وقعها صدام حسين نفسه.

كانت السعودية تنظر الى العراق كقوة مهددة، فقد احتضن المعارضة البعثية السعودية ودعمها، ومن بغداد ظهرت دورية (صوت الطليعة) واليها التجأ المعارضون البعثيون وفي مقدمهم علي غنّام الذي بقي في العراق الى أن سقط صدام حسين من كرسي الحكم. كان إضعاف العراق هدفاً ايرانياً سعودياً مشتركاً، وكان السعوديون يتقبلون زعامة الشاه على الخليج مع قدر من مشاركتهم، ولكنهم كانوا يرفضون أي تسلل عراقي الى الخليج. هذا لا يعني أن دول الخليج كانت تنظر بعين الرضا تماماً للشاه، خاصة في سنيّه الأخيرة والتي بدا معها مهووساً بعظمة القوة والتهديد بها، وكان الى حدّ ما قد وضع عقبات أمام السعودية ونفوذها في دول الخليج، إذ كانت إيران نفسها تسعى الى ذلك النفوذ مع كل دولة على حدة، وقد كان نجاحها بالغاً على الأقل في سلطنة عمان.

حين بدا ان العراق محيّداً محاصراً من كل الإتجاهات تقريباً، من كل القوى الإقليمية الكبرى ولم يكن له قدرة على ممارسة أي نفوذ واضح (ايران الشاه من الشرق، وتركيا من الشمال، وسوريا من الغرب، والسعودية من الجنوب) حينها تفجرت الثورة الإيرانية لتقلب صيغة التحالفات من جديد.

السعوديون ـ وعلى لسان فهد ـ كانوا ضد إسقاط الشاه، وقد امتدحوا حكمته مراراً قبل أن يسقط بأسابيع، واعتبروا ما يجري من ثورة في الشارع مجرد (زوبعة) سيتخطاها جلالة الإمبراطور. وكان لسقوط الشاه وقع الصاعقة على الغرب وعلى السعوديين. ويومها أعلن كارتر مبدأه الشهير: (إن أمن العربية السعودية جزء من الأمن القومي الأميركي). وفي سبيل إظهار الأمر بشكل جاد باعت أميركا عشرات الطائرات الحربية للسعودية (طائرات أف 15) مع مناورات حيّة في سماء السعودية.

مالذي تغير من تحالفات بسبب الزلزال الإيراني؟

مصر الملكية كانت على علاقة جيدة مع الشاه، ومصر الجمهورية جاءت بالنقيض واحتضنت المعارضة الإيرانية وأعلنت أن الخليج (عربي) الى أن جاء السادات فأصلح علاقات مصر مع الشاه وأعادها الى الحياة وعززها بشكل كبير، الى حد استقباله للشاه ودفنه في القاهرة!. ولكن قيام الثورة، وضع مصر ضد ايران الجديدة، ومثله وضع السعودية في ذات الخانة، وبقي الخلاف المصري الإيراني منذ سقوط الشاه وحتى اليوم لأسباب استراتيجية تتعلق بالنفوذين المصري والإيراني في الخليج ثم في المشرق العربي: من العراق الى لبنان الى فلسطين.

لكن التطور الأبرز حصل لوضع العراق وموقعه الإقليمي، فبقدر الخشية على تحول العراق لإيران ثانية، سجلت السعودية اختراقاً (برضا عراقي) لدعم الحكم في العراق، وكذا فعلت مصر التي لازالت يومها مرفوضة مفصولة من الجامعة العربية، ولأول مرة وقف خط (المعتدلين) والذي يضم الأردن والسعودية ومصر الى جانب صدام حسين حين أشعل الحرب. إنه حلف مواجهة إيران.

تضخم الدور العراقي بسبب الحرب، ولما انتهت أراد صدام أن يوسع النفوذ جنوباً وبقوة السلاح كاستحقاق له على ما فعل في سني الحرب، فكان أن احتلّ الكويت ليعود من جديد الى خندقه القديم المعزول ولتحاربه السعودية ومصر إضافة الى سوريا! وكأن حلفاً جديداً قد نشأ.

أثناء الحرب العراقية الإيرانية كانت إيران محاصرة خليجياً وعربياً وإسلامياً. وكانت مادة التحريض (فرس مقابل عرب) و (شيعة مقابل سنّة) وقد نجحت التحالفات التي هندسها السعوديون والعراقيون والمصريون ومن ورائهم الغرب وأميركا في كسر إيران الى أن أعلنت إيقاف الحرب مرغمة.

لكن هناك أمراً لا بد أن نذكره بهذا الصدد، وهو على أهمية كبيرة، فانتصار الثورة في إيران أنتج قوّة إضافية الى سوريا أيضاً وليس الى العراق فحسب، فقد وجدت سوريا لنفسها حليفاً لا يقدر بثمن. فهي بمواقفها السياسية المعروفة والمتعلقة بمسألة الحرب والسلم مع اسرائيل لم تكن تسمع أذنا صاغية من احد من العرب منذ حرب 1973، ولكنها استطاعت ان تمدد نفوذها بشكل كبير في لبنان منذ 1976 وحتى عام 2005 وبغطاء عربي من مصر والسعودية كما هو معلوم، وقد بقيت العلاقات السورية مع هاتين الدولتين يسير باتجاهين، اتجاه الموضوعات العامة التي لا علاقة لها بالموضوع الفلسطيني، وهو اتجاه لم تتنازل فيه سوريا كثيراً ودفعت ثمن ذلك حتى اليوم، واتجاه آخر أبدت فيه مرونة كبيرة ويتعلق بالمواضيع العربية العامة، وسمحت للسعودية أن تمارس دوراً متميزاً في لبنان ولكن تحت سمعها وبصرها.

وهكذا بقيت سوريا ولمدة طويلة لم تجد تفهماً لوجهة نظرها من قبل العرب (اللهم إلا من ذلك المتقلب دائماً في ليبيا) حتى جاءت الثورة في إيران، فاعتبرتها عمقاً سياسياً واستراتيجياً لا يجب التفريط به في كل الأحوال، ولازالت تراه كذلك حتى اليوم. وبهذا يمكن القول بأن العراق وسوريا قد استفادتا بصورة مختلفة من قيام الثورة في إيران. وفي ذات السياق يمكن القول أيضاً بأن السعودية حققت انجازاً تاريخياً (وإن كان لمدة ثمان سنوات فحسب) في تطبيع العلاقات مع العراق الذي كان منذ تأسيسه وحتى اليوم، رغم اختلاف الحكومات وتغير الأنظمة، يميل الى العداء للسعودية ودورها في المنطقة.

بيد أن النجاح العراقي ـ السعودي ـ الغربي في تحييد النفوذ الإيراني في العهد الخميني كان لفترة وجيزة، فبعد عامين من توقف الحرب غزا صدام الكويت في وقت الإنكفاء الإيراني الداخلي، وبعد الحرب لإخراجه من الكويت، بقي العراق خارج المعادلة السياسية الشرق أوسطية حتى اليوم، ومن المتوقع أن يكون العراق خارج اللعبة، فاقداً للوزن لفترة زمنية طويلة في المستقبل. أيضاً تفكك التحالف المؤقت بعد تحرير الكويت بين السعودية ومصر من جهة وبين سوريا من جهة أخرى.

أما إيران التي هُزمت، فإنها بعد انكفائها ـ أو ما بدا أنه انكفاء مؤقت ـ ظهرت بعد أقل من عقد من نكبتها في الحرب وهي أكثر قوّة وصلابة، وبدأت تحقق إنجازات واضحة داخلياً وتوسّع نفوذها خارجياً بأبعد مما كان يحلم الشاه نفسه. لم يكن اهتمام ايران بالخليج فحسب بل بكل المنطقة العربية خاصة فلسطين. في ذات الإتجاه، لم يستفد أحد في الشرق الأوسط من سقوط الإتحاد السوفياتي مثل إيران، فقد وسّعت نفوذها الى دول آسيا الوسطى، وأقامت علاقات متميزة مع الهند وروسيا وأوكرانيا والصين والباكستان فضلاً عن تركيا وماليزيا وأندونيسيا وغيرها. وحاولت إعادة علاقاتها مع كل غرمائها العرب، بمن فيهم السعوديين، ونجحوا في ذلك الى حدّ كبير.

تبددت المخاوف العربية من إيران طيلة عقد التسعينيات الميلادية ، ولم تعط إيران أدلّة على أنها تريد الهيمنة والسيطرة، بل بدا وكأن إيران مشغولة بنسج شبكة تحالفات على المستوى الدولي قوية للغاية تحصّن الوضع السياسي الداخلي، وكان الإهتمام الإيراني بعيداً عن الجوار العربي، بل في محيط إيران غير العربي في الحقيقة.

الأحلاف ومراكز القوى الحالية ما بعد 9/11

الى ما قبل الزلزال الذي أصاب المنطقة بعد أحداث 11/9، ومن ثم احتلال أفغانستان والعراق، والتداعيات للحدث شملت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وقبلها مقتل الحريري وإخراج سوريا من لبنان.. الى ما قبل الزلزال إياه، كان الوضع كالآتي:

إقصاء للعراق كقوة إقليمية بشكل شبه تام وقد كان في حصار استمرّ سنوات طويلة.

إيران الخاتمية تحقق إنجازات وترسم صورة (جميلة) لها في الخارج، وهي قد كانت في أقصى عنفوانها ونشاطها داخلياً وخارجياً، وجاء نجاد ليكمل المشوار بصورة فاقعة أكثر!

كانت سوريا لاتزال سيّدة لبنان، وتمسك بنحو أو آخر بعضاً من الملف الفلسطيني وحتى العراقي، فضلاً عن تحالفها الذي يزداد وثوقاً بطهران وبحزب الله الذي أنجز للتوّ طرد الإسرائيليين من لبنان في مايو عام 2000.

كانت السعودية تعيش جموداً في سياستها الخارجية، وتخسر الكثير من نفوذها خليجياً، وبدت مشغولة بحالها عن أن تمارس دوراً ذا أهمية على الصعيد العربي، ومنه الموضوع الفلسطيني.

مصر، نجحت في مدّ نفوذها لبعض دول الخليج، وصارت ممسكة بالملف الفلسطيني يعضدها في ذلك ملك الأردن.

تركيا كانت لاتزال مشغولة بمشاركتها في الإتحاد الأوروبي، فكلما حلّت عقدة وضعوا لها أخرى، لأن الإتحاد لا يريدها في النهاية!

إسرائيل كانت في قمة غطرستها وقوتها، فقد حيّدت الأخطار الآتية من الخارج، ولكنها تعيش أزمة داخلية مستمرة منذ أوسلو، أي أن معاركها الخارجية صارت في الداخل.

كان هذا هو الحال عشيّة أحداث سبتمبر، لا توجد قوّة عربية فاعلة حقيقية، ولا يوجد اتفاق قوى عربية يقود السفينة، في حين يظهر أن القوتين المؤثرتين هما إسرائيل وإيران، واللتان لهما (منتجات) مادية ملموسة وانتصارات واضحة في ميادين مختلفة.

ما بعد 11/9 أصبحت إيران أكثر قوة أولاً حين تمّ التخلص من طالبان ووصول أصدقائها من مختلف القوميات الى السلطة، وذات الشيء تكرر مرة ثانية بعد إسقاط صدام حسين. بعكس ما كان يتوقع البعض بأن إيران ستصبح محاصرة بالوجود الأميركي شرقاً وغرباً!

أما إسرائيل، فقد تصورت في البداية أنها ستكون أكثر قوة بفضل ماكنة الحرب الأميركية، فالإنجاز الأميركي عادة ما يصب في خانة المصلحة الصهيونية، ولكن تراجع القوة الأميركية في العراق ومن ثمّ في أفغانستان، لم يعد ما يجري بالضرورة مفيداً لإسرائيل، إن لم يكن على عكس ذلك في غير صالحها، خاصة وأنه ترافق مع وصول حماس الى السلطة عبر الإنتخابات. وتأكد تراجع إسرائيل بعد شنّها حرب تموز 2006 وهزيمتها المخجلة ـ ومتعددة الوجوه ـ فيها. بمعنى آخر، فإن القوة الإسرائيلية والنفوذ الإسرائيلي الى أفول حقيقي داخل المنطقة العربية، ومكانتها لدى الغرب تضعضعت أيضاً بنسبة كبيرة.

سوريا بدأت مذعورة مما يجري في العراق، وأخرجت مهانة من لبنان، وخسرت السعودية، أو العكس: خسرتها السعودية. صحيح أنها لم تفقد كل نفوذها في لبنان، لكن حتى الدور السعودي ضعف في لبنان. من بقي له دور قوي هو إيران بكل تأكيد. المهم أن سوريا عوضت خسائرها بانتصار حزب الله صيف 2006، وبانتكاسة الأميركيين في العراق، وأيضاً بانتصار حماس في الإنتخابات، وممانعة إيران القوية بشأن برنامجها النووي، وبدأت سوريا تتحدث عن أن خيارها السياسي هو الصحيح (وإن كان مغامراً)!

السعودية كانت بعد 11/9 خاسرة على كل الجبهات تقريباً: ازدادت المخاوف منها خليجياً، وهي وإن لم تخسر العراق لكنها لم تربح شيئاً فيه، وصار الربح يصب في جيب منافسها الإيراني. وفي لبنان خسرت بموقفها من حزب الله وحلفائه المحليين، وخسرة سمعتها العربية والإسلامية حين حاصرت حماس بالتعاون مع مصر، وبالتالي لم يعد لديها حليف قوي اللهم إلا مصر والأردن، اللتان تبيعان المواقف وتستلمان الأثمان مقدماً.

مصر هي الأخرى تقلص نفوذها (المأمول) شرقاً سواء في العراق أو لبنان وربما فلسطين، للأسباب التي ذكرت آنفاً.

امام كل هذا، بدا أننا بين محورين قويين هما: سوريا وإيران، وأما القوى الثلاث الأخرى العربية، فواحدة منها معطلة وهي (العراق) ومصر والسعودية في محور لم ينجز شيئاً على صعيد قضايا العرب ولا على الصعيد الداخلي في بلدانهم كنموذج يمكن أن يحتذى به سواء في الديمقراطية أو في تحقيق العدالة الاجتماعية والرفاه الإقتصادي. السعودية والعراق وتوابعهما كانوا حلفاً من نوع ما واضحاً له توجهاته ورؤاه الخاصة به، ولم تفعل كونداليزا سوى أن سمته بـ (حلف المعتدلين).

هذا الحلف المبارك أميركياً يراد لإسرائيل أن تكون جزءً منه، وإن كان بغير إعلان، لمحاربة الحلف السوري ـ الإيراني، كذلك يراد لتركيا المستثارة على حدودها الجنوبية (العراق) أن تكون أيضاً داعماً للحلف وإن كان غير شريك فيه ولذات الغرض والهدف.

هذه هي المعركة اليوم، بين الأقوياء السبعة. والباقي تفاصيل!

الصفحة السابقة