إقحام (المقدّس) لتحقيق ما عجزت عنه الدبلوماسية المجرّدة

الـعـامـل الـمـكّـي

سعد الشريف

محاولات عدّة بذلتها القيادة السعودية من أجل تحريك الجمود الذي أحاط بسياستها الخارجية على المستويين العربي والاسلامي.. حزمة الرهانات التي وضعها صانعو السياسة في المملكة كانت مكرّسة لردم الهوّة العميقة التي أحدثتها هجمات الحادي عشر من سبتمبر، الأمر الذي جعل الجهود الدبلوماسية موجّهة لترميم التحالف الاستراتيجي مع واشنطن ومع الغرب عموماً. ولكن ما غفلت عنه القيادة السعودية، أن التطورات اللاحقة في منطقة الشرق الاوسط فرضت رزمة جديدة من الالتزامات التي وضعتها الادارة الاميركية برسم القيادة السياسية السعودية كشرط ضمني لعودة التحالف التقليدي الى طبيعته، بدءً من العراق ولبنان وفلسطين وأخيراً افغانستان وايران. ملفات ساخنة في الشرق الاوسط وضعت استقلالية القرار السعودي على المحك، ودفعت نحو رهانات غير قابلة للتجزئة، بحيث تفرز ألوان السياسية عن بعضها، فما لواشنطن لواشنطن وما للرياض يكون للرياض وواشنطن معاً.

فقد تقاربت وجهات النظر بين العاصمتين الى حد التطابق، وبات السؤال يدور حول إملاءات أميركية بدرجة أولى بشأن القضايا التي ترى فيها إدارة بوش إمتيازات محتكرة لها.. بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان في يوليو 2006، تكشّفت صورة التطابق السعودي الاميركي في قضايا المنطقة، وجاءت التطورات اللاحقة لتثبيت هذه الصورة، منذ اعلان رايس عن معسكر الاعتدال، والاتصالات المكثّفة التي مازال يجريها المسؤولون السعوديون مع نظرائهم الاميركيين والاسرائيليين، وهو ما يبعث هواجس مشروعة حول التحرّكات السعودية على الساحة الاقليمية، الى حد اعتبارها الوسيط السياسي لتمرير المواقف الاميركية والاسرائيلية.

هنا يعاد إقحام (المقدّس) في السياسة على أمل تحقيق ما تعجز عنه الدبلوماسية المجرّدة، فاستعارة السماء يغدو ضرورياً لازالة الدنس الذي أصاب حكّام الأرض السعوديين. من منظور الأمراء، فإن النفط والدين عنصران لا يمكن الاستغناء عنهما في توليد المشروعية في الداخل والنفوذ السياسي في الخارج، فهما ينطويان على قدرة فريدة في صنع عبقرية مستحيلة لدى القيادة السعودية، التي تظل بمسيس الحاجة الى استعارات دائمة خارج قدراتها الذهنية.

نلفت هنا الى أن العامل المكي كان حاضراً على الدوام في السياسة السعودية، ويجري استعماله حين تتعرّض المكانة الدينية للعائلة المالكة للمسائلة والتشكيك، كما يجري توظيفه في الخصومات السياسية التي لا تقدر على خوضها الا بتثمير المقدّس. فقد احتضنت مكة المكرمة، التي واجهت أخطر تشويه لمعالمها على يد المتشددين الحلفاء للعائلة المالكة، فعاليات دينية وسياسية هامة.

نتذكر بأن قادة حركات الجهاد الافغاني قد اجتمعوا في مكة من أجل وقف القتال الداخلي ولكن لم يحقق نتائجه المرجّوة، وانعقد مؤتمر المصالحة العراقية في مكة في الثامن عشر من أكتوبر 2006، تحت إشراف منظمة المؤتمر الاسلامي كوسيط عن العائلة المالكة، وانهى أعماله بإعلان (وثيقة مكة) ولكن عاد العراقيون الى وطنهم شيعاً يقتل بعضهم بعضاً. وبعد شهرين على انعقاد المؤتمر بشّرت السعودية العراقيين بأنها ستأتيهم تحت غطاء مذهبي، بعد أن فشلت في أن تملي عليهم شكلاً في التوحد بحسب طريقتها ومقاييسها، وهدّدت بأنها سترسل وبصورة علنية (بعد أن كانت سرّية ومازالت) المال والرجال الى داخل العراق.

محاولتان فاشلتان قامت بهما القيادة السعودية في رحاب مكة المكرمة، ولم يكن الفشل عائداً بالضرورة الى الفرقاء الذين اجتمعوا في مكة ولكن لأن توظيف المقدّس كان لخدمة مسار سياسي محدد أريد مباركته دينياً، ولذلك كان نصيبه الفشل.

عاودت القيادة السعودية المحاولة ثالثة، محثوثة بالمخاوف من نفوذ أطراف أخرى (إيران وسوريا على وجه التحديد)، بعد أن أكلت أصابعها ندماً لأنها غابت لسنوات عن الساحة العراقية وصارت تذرف دمعة الحسرة أمام الجدار الاميركي لأنه فرّط في حلفائه الذين وقفوا معه خلال حربي الثمان سنوات ضد ايران (بين عامي 1980 ـ 1988) وحرب تحرير الكويت (1990ـ1991) وخلقت بأخطائها التكتيكية والاستراتيجية فرصاً تاريخية أمام النفوذ الايراني.

القيادة السعودية تبحث عن دور إقليمي حيوي يعيد إليها بعض الزخم الذي فقدته منذ سنوات، ولأنها تخضع تحت ضغط النداءات من قيادات دينية وسياسية من أجل التدخل للعب دور الوسيط في المشكلات الكبرى التي تمرّ بها المنطقة، فإنها تتحرك الآن تحت غطاء أميركي بعد أن أفادت من تمرير دورها في مناخ طائفي محتقن، بما يجعلها في مأمن طالما أن تحرّكها يهدف الى صد النفوذ الايراني الذي ينسي الى حين النفوذ بل والاستعمار الاميركي في المنطقة.

لن يكون هناك عامل إنقاذي في مثل هذا التلبيد السياسي المحموم في المنطقة كالمقدّس، أي العودة الى العامل المكي في خدمة السياسة مجدداً. ولن تكون هناك قضية مقدّسة تملي تأكيد حضور العامل المكي كما القضية الفلسطينية، وخصوصاً في ظل الأنباء المتدفقة من مصادر عدة عن لقاءات بين أمراء كبار في العائلة المالكة والقيادات الاسرائيلية، فهنا يصبح (تلبيس إبليس) مورداً ضرورياً من أجل فكّ الطوق الذي فرضته مواقف السعودية في السنوات الماضية من قضايا عربية وإسلامية بالغة الخطورة والحساسية.

القيادة السعودية
الإستخدام السياسي للأماكن المقدسة
تبحث عن مخرج لأزمة عميقة في سياستها الخارجية على المستوى الاقليمي، بعد أن بات العامل الأميركي دائماً والاسرائيلي أحياناً يغشي الدور السعودي، الذي تخلّف كثيراً عن القيام بمهام قومية واسلامية. نتذكر هنا عقب انتهاء القمة العربية الأخيرة التي عقدت في القاهرة والتي نقلت مهمة انعقاد القمة العربية اللاحقة الى الرياض، وفوجئنا حينها بتصريحات الامير سعود الفيصل التي نفى فيها أن تكون السعودية على استعداد لاستضافة القمة العربية القادمة، ولكن هذا النفي ما لبث أن تبدّل الى إثبات في الشهر الماضي. لابد أن نضع هذا التحوّل في سياق التحرّك الخفي الذي يقوم به رئيس مجلس الامن الوطني بندر بن سلطان، الذي بات يضطلع بأدوار مشبوهة يكاد كثيرون داخل العائلة المالكة لا يدركون أبعادها أو حتى يحيطون علماً بها.

الامير بندر كان ضالعاً خلال الشهرين الفائتين بلعب دور الوسيط بين قيادات عربية والقيادة الاسرائيلية حول مبادرة الملك عبد الله حول السلام في الشرق الأوسط، والتي رفضها الجانب الاسرائيلي حين أعلنت أول مرة في بيروت 2002، ولكن هذه المبادرة بقيت تتنفس ببطء طيلة السنوات الماضية الى أن بدأ الامير بندر بإجراء مشاورات مع الملك عبد الله وعدد من الأمراء من أجل إجراء تعديلات عليها كيما تكون صالحة للتسويق خلال قمة عربية تحتضنها الرياض. وقد لحظنا خلال الشهور الفائتة تحوّلاً تدريجياً في موقف القيادة الاسرائيلية، عقب إطلاع الامير بندر إيهود أولمرت على التعديلات الحاصلة على مبادرة الملك عبد الله، والتي حظيت بموافقة عدد من القيادات العربية مثل مصر والاردن وتونس والمغرب.

هل ثمة ما يربط هذه التحرّكات السرّية للأمير بندر لتسويق وضمان موافقة قيادات عربية أساسية على مبادرة الملك عبد الله بنسختها المعدّلة مع موافقة الرياض على استضافة القمة العربية القادمة؟ وهل لما سبق علاقة أيضاً باحتضان السعودية لمؤتمر مكة الأخير بين قيادتي فتح وحماس؟

هكذا يبدو التسلسل المنطقي لمجريات التحرّك السعودي السري والعلني، وكل ذلك يتوقف على صمود إتفاق مكة بين قيادتي فتح وحماس لجهة تشكيل حكومة وحدة وطنية، التي تعتبر ضمانة لنجاح تسويق المبادرة السعودية في القمة العربية القادمة.

تريد الرياض تحقيق فتح في سياستها الخارجية عن طريق مبادرة السلام، وبها وحدها تكفل لها خروجاً الى النور بدور فاعل في قضايا المنطقة عموماً. وفيما تلحّ الادارة الاميركية على ربط قضايا المنطقة ببعضها ضمن منظومة حلول موّحدة على الطريقة الاميركية في ضوء صراعها مع الاطراف الاقليمية وخصوصاً (سوريا وايران)، فإنها تخشى من انفراط المنظومة في حال فقدت التوازن في نهج الحلول التي تقترحها حول الملفات الملتهبة في المنطقة.

ليس هناك من يضمن نجاح خيار حكومة الوحدة الوطنية في فلسطين، كما ليس هناك من يضمن نجاح خيار حكومة الوطنية في لبنان الذي يبدو أن السعودية قبلت به في مشاوراتها مع طهران من أجل إنجاح مبادرة السلام الشرق أوسطية، خصوصاً إذا كان الغرض من الخيار تهيئة مناخات تصالحية في الخارج وليس في الداخل، أو حصر صلاحية الحلول لمدة قصيرة ريثما تلتئم القمة العربية في الرياض في مارس المقبل.

ولكن بالتأكيد، فإن أي فشل يصيب إتفاق مكة الفلسطيني سيعكس أثره المباشر على مكانة السعودية وعلى القمة العربية القادمة في الرياض. إنه، على أية حال، اختبار كبير للوزن السياسي السعودي الذي بقي خارج التجربة لسنوات طويلة بفعل انشغال القيادة السعودية بترميم تحالفها مع واشنطن، أو ترتيب أوضاعها الداخلية الأمنية والسياسية. لقد حاولت القيادة السعودية أن توفّر ضمانات النجاح لمبادرتها، عن طريق الحصول على تعهّدات علنية وربما خطيّة من القيادات الفلسطينية التي اجتمعت في مكة المكرمة من أجل إنجاح الاتفاق، وفي ذلك ما يلفت ليس الى حرص القيادة السعودية على الاتفاق بقدر خوفها على فشل المسعى التي قامت به وتداعياته المستقبلية على دورها الاقليمي، خصوصاً وأن تجارب المصالحة السابقة (العراقية والافغانية) لا تقدّم دليلاً يسعف على التفاؤل.

ليس بإمكان القيادة السعودية التنصّل هذه المرة من مسؤولية الفشل، فهو قد يفسّر ولكنه لا يبرر خصوصاً إذا ما وضعنا في الحساب ما ترجوه الرياض في المرحلة القادمة، حين تقود قمة عربية على خلفية تجارب فاشلة سابقة، ولا سيما في القضية التي تريد أن تكون محوّراً لمبادرتها الكبرى التي تريد منها التأسيس لانطلاقة جديدة نحو دور إقليمي فاعل.

ثمة خوف مشروع من فشل إتفاق مكة، خصوصاً حين يراد منه رعاية حكومة وحدة وطنية بين طرفين لا تنظر اليهما الرياض بعين واحدة. فمن المعروف، أن القيادة السعودية تكيل لعباس وفتح عموماً ما لا تكيله لهنية وحماس عموماً، وقد أوصدت أبوابها في وجه حكومة حماس، وشاركت في (تجويع) الشعب الفلسطيني تحت قيادة حماس، ومنعت الاموال من أن تصل اليها..بل إن ما أوصل القيادتين في فتح وحماس الى مكة، هو سياسة الحصار التي فرضتها، الى جانب الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي، حكومات عربية من بينها السعودية على حكومة حماس وأوصلوها الى نقطة الانسداد السياسي، ما اضطرها للقبول بالتسوية وإن كانت على يد من رفض استقبالها بالأمس.

نجاح (لقاء مكة) بلا شك سيدعّم الموقف السعودي في القمة العربية المقبلة، وسيقنع الاسرائيليين بجدوى التعاون مع القيادة السعودية في قضايا أخرى إقليمية، ولكن هذا النجاح بحاجة الى شروط أخرى مثل رفع الحصار وتقديم المساعدات للشعب الفلسطيني، والطلب من الادارة الاميركية والاتحاد الاوروبي رفع الحصار وتقديم الاموال والضغط على الدولة العبرية من اجل وقف تدابيرها (حبس الاموال، وبناء المستوطنات، والاعتقالات العشوائية..الخ).

تبقى مشكلة جوهرية ترافق المبادرة السعودية في تسوية الخلاف الفلسطيني الفلسطيني أنها لا تقوم على رؤية استراتيجية، فهي تريد حلاً بأي ثمن، وبأي شكل، ولكنها لا تدرك ماهيته، ولا شروطه في ضوء الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وبالتالي فهي ستقبل بدولة منقوصة السيادة وبشعب تحت الاحتلال الاسرائيلي طالما أن ذلك يمنحها دوراً ولو مشوّهاً يحظى بقبول أقطاب الاعتدال.

الصفحة السابقة