الخليج لم يعد عربياً

واشنطن.. والأمن الأحادي

حسن الدبّاغ

يكشف المشهد السياسي في منطقة الخليج، بأن هذا الجزء من العالم بات الأقل أمناً، واستقراراً في العالم. وعليه فإن التحديات السياسية والامنية التي تواجه المنطقة في الوقت الراهن ستسهم في تشكيل مستقبل أمن وهوية المنطقة.

وفيما تتواصل لهجة التصعيد بين واشنطن وطهران بدعم من أطراف إقليمية ومخاوف عربية ودولية وغياب شبه تام لشعوب المنطقة في قرارات مصيرية يجري طبخها على نحو عاجل من أجل إقحام المنطقة في أتون المجهول، فإن ثمة انفراطاً في التسلسل المنطقي لأولويات الأزمة وسبل التعامل معها.

قوة الدفع الأمامي نحو الحرب تحظى بدعم غير مسبوق من السعودية التي كانت تنأى فيما مضى عن التورط في المجهول الذي قد يحمل في باطنه نتائج كارثية، ولكنها اليوم تخضع تحت تأثير عناصر ضغط جديدة يشارك فيها أشخاص تأهّلوا في واشنطن وجاءوا للقيام بأدوار تخدم مشروع الحروب الاميركية في المنطقة.

في الوقت الراهن، تواجه منطقة الخليج منظومتين من التهديدات:

ـ تهديدات خشنة: مثل الحروب، وسباق التسلح، والتوترات الطائفية، وانتشار السلاح النووي، والتدخل الأجنبي.

ـ تهديدات ناعمة: التطرف الديني، الزعزعة الثقافية، الحكم التسلطي، النمو السكاني المتزايد، شحة المصادر الطبيعية والصراعات العلنية والكامنة حول الاراضي ومصادر المياه.

وتتطلب هذه التهديدات ردود فعل من كافة الفرقاء في الخليج، من أجل الاتفاق على آليات أمن جماعي، ولكن فيما يبدو فإن اختزالاً خطيراً لمصادر التهديد وللشركاء المعنيين في هذا الموضوع ليس بين المتخاصمين فحسب، بل وبين الحلفاء، فالادارة الاميركية وقلة ضئيلة من حلفائها الاوربيين تنسّق المواقف مع قلة ضئيلة من الحلفاء الاقليميين (اسرائيل، السعودية ومصر والاردن) في إطار التحضيرات لحرب الأشرار ليس ضد إيران فحسب، وإنما لتغيير معالم المنطقة برمتها.

النزوع المتعاظم لدى دول المنطقة نحو (العسكرة) على حساب برامج التنمية الاقتصادية والصناعية باتت تخدم أهداف الاقتصاديات والسياسات الأميركية في المنطقة فيما تتسبب العسكرة في نتائج كارثية على الصعد الامنية والاقتصادية والسياسية في المنطقة.

الأمن الاقليمي هو مسؤولية جماعية، وأن تقسيم المنطقة الى معتدلين وأشرار فتح الباب على صراعات ذات طبيعة عبثية وقد تنجم عن تبديل الخارطة الجيوبوليتيكية للمنطقة. إن إقصاء ايران، وسوريا، وتركيا من الترتيبات الامنية وخصوصاً في ضوء أزمة العراق، يمنح فرصة تجزئة الأمن لخدمة مشاريع أميركية وإسرائيلية، ولن تفلت من آثار التدهور الأمني في المنطقة الاطراف الاقليمية العربية التي تشارك بصورة مباشرة في تحضيرات الحرب.

إن إطار الامن الجماعي يحكم إستراتيجية الامن القومي الاميركي الجديدة والتي تقضي استعمال هجمات ابتدائية ضد التهديدات الحقيقية والكامنة بما يفرض التحدي الأكثر خطورة لهذا الاطار والذي كان قائماً منذ أكثر من خمسين عاماً. فهذه الاستراتجية التي أفضت الى احتلال وزعزعة العراق والتي يمكن أن تؤول الى تدخلات إضافية في عدة دول أخرى في المنطقة، تمثل أكبر تهديد للمنطقة.

إن استعمال القوة لـ (حل) مشاكل المنطقة سينتهي الى تعقيد هذه المشاكل بدرجة غير قابلة للسيطرة ويقود الى التطرف وعدم الاستقرار في المنطقة. إن المقاربة الضرورية تملي معالجة جذور المشكلة، وليس مجرد تمظهراتها، كما هو الحال في النهج الذي حكم رؤية واشنطن وحلفائها الاقليميين لملفات الأزمة في المنطقة.

في حرب الخليج سنة 1991، كانت الولايات المتحدة في موقع فريد حين نجحت في تحشيد الجهود الدولية لاضفاء شرعية على تدخلها العسكري في الخليج، بهدف تحرير الكويت من الغزو العراقي تحت قرار الامم المتحدة. لقد خدم الانجاز العسكري الاجندة الاستراتيجية عبر اتفاقيات دفاعية مع دول الخليج، والتي وضعت نهاية غير سعيدة لدور مجلس التعاون الخليجي في الأمن الاقليمي. وفي مارس 2003، فإن الوضع الأمني في المنطقة أصبح مختلفاً، حين قررت الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا الحرب على العراق مخالفة القانون والمؤسسات الدولية، والقيام بصورة منفردة بإعلان الحرب على العراق واحتلاله.

يوشكا فيشر، وزير خارجية المانيا في الفترة ما بين 1998 ـ 2005 وأحد زعماء حزب الخضر، كتب مؤخراً مقالة حول ما يجري في دول الشرق الاوسط في الوقت الراهن، وقال: بأن قرار الذهاب الى الحرب ضد العراق لتحرير الكويت في العام 1991 يمثل بداية الدور الاميركي بوصفه القوة العسكرية المهيمنة والوحيدة في المنطقة. فقرار الذهاب في حرب ضد العراق للمرة الثانية، ومن ثم احتلال البلاد في مارس 2003 حوّلت هذه الهيمنة الى مسؤولية أميركية مباشرة عن مستقبل الشرق الاوسط.

وما لا يدعو للدهشة، فإن الولايات المتحدة ينظر اليها من قبل الكثيرين في المنطقة بوصفها (عاصية) وتعمل ضد إرادة المجتمع الدولي. وفي الحقيقة فإن (الواحدية الأميركية) قد أضعفت موقع الامم المتحدة والمنظمات الاقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية التي أصبحت هيئات مشلولة. وهناك نداء من قوى سياسية متعددة لهذه الهيئات من أجل تطوير آليات لتشجيع الاصلاح وتسوية المشكلات في المنطقة.

الرئيس السوفييتي الاسبق ميخائيل جورباتشيف كتب مقالاً في صحيفة الجارديان اللندنية في الثامن عشر من يناير الماضي، نبّه فيه الى الخطر الحقيقي للانقسام الجديد في العالم، واحتمالية اندلاع حرب باردة جديدة. فبدون حسبان دور مجلس الأمن أو رأي الدول الأخرى بما فيها شركاء الولايات المتحدة وحلفائها، فإنها قامت بغزو العراق بنتائجه الكارثية. إن غطرسة القوة العسكرية قادت الى أزمة خطيرة، والى تناقص دور الولايات المتحدة ونفوذها.

النتيجة الاخرى للسياسات الواحدية ومحاولات ادعاء قيادة فريدة وخاصة هي أن معظم المؤسسات الدولية أصبحت غير قادرة على تحديد بصورة فاعلة التحديات العالمية للبلد الجديد ـ الأزمة البيئية ومشاكل الفقر. إن التصاعد غير المسبوق في وتيرة الارهاب الدولي وانتشار النزاعات الاثنية والدينية هي مؤشرات اضطراب لمشاكل قادمة.

إن الولايات المتحدة كعامل إقليمي مباشر، حيث أن احتلالها للعراق، يعني أنها باتت تتقاسم بصورة فاعلة الحدود مع سوريا وايران وتركيا. وقد أصبحت عاملاً اقليمياً مباشراً ومن المحتمل أن تبقى كذلك في المستقبل المنظور. ويجادل البعض بأنه حتى لو أن الولايات المتحدة اخترقت من الناحية الاستراتيجية المنطقة وبناها، فإنها مازالت غير مدركة كيف تدير المنطقة. فهي بحاجة الى إطار استراتيجي مستقر اذا ما فكرت في أن تحظى بتأثير دائم في المنطقة.

إنها حقيقة تامة بأن الاستقرار يتحقق في حالة الانسجام في المنطقة، وهناك طريق واحد فحسب وهو الحوار حيث أن الحروب الاقليمية تقدّم دليلاً صلباً على أن الحرب لا تزيل أسباب التوتر وعدم الاستقرار. فالحضور العسكري الكثيف في منطقة الخليج يساهم في تصعيد الوضع الأمني، وسيكون له تأثير خطير على الاوضاع الاقتصادية والسياسية. أن القوة الخارجية لن تكون وحدها قادرة على جلب الاستقرار بدون تعاون القوى الاقليمي مجتمعة.

هناك تركيز على أهمية الترتيبات الأمنية الجماعية والحاجة الى تعزيزها على المستويين الاقليمي والدولي. وهناك رأي يقول بأن الصراعات الاقليمية يطيل في عمر العنف وعدم الاستقرار في المنطقة ويمثل العوائق الرئيسية أمام الاصلاح. فالأنظمة العربية مسؤولة عن الازمات والتحديات التي تواجه المنطقة، وهي مسؤولة عن الانتشار الواسع والمستمر للفقر والتخلف.

هناك إجماع على أن الحكومات العربية مطالبة بإصلاح دساتيرها، وأنظمتها التشريعية والانتخابية، وتشكيل نظام محاسبة وشفافية. فهذه الحكومات بحاجة الى خلق آليات لإدخال الاصلاحات المرغوبة والحاجة الى مساهمة المؤسسات المحلية والدولية في العملية الاصلاحية.

في المقابل، هناك كثيرون يلقون باللوم على الغرب بشأن عديد المشاكل السياسية والاقتصادية في المنطقة. وهناك رأي يشدد على إمكانية تسوية هذه المشاكل بالتعاون مع الغرب، حيث أن لدى كل من الجانبين مصلحة في السلام والاستقرار في المنطقة.

تتوحّد القوى السياسية الناشطة حول رفض (المعايير المزدوجة) من قبل المجتمع الدولي بخصوص التعاطي مع قضايا العرب في مقابل قضايا الآخرين وبخاصة الدولة العبرية، ويشيرون الى الاحباطات التي تخلقها هذه الازدواجية بين شعوب المنطقة، مما يزرع شكوكاً عميقة حول المبادرات الاصلاحية التي تأتي من الخارج ومصداقية أولئك الذين يقترحونها.

إن الخلاف حول الاطر المفهومية لبعض القضايا المتعلقة بالأمن، وخصوصاً مفهوم الارهاب بكونه تستغل لشرعنة الاعمال العسكرية ضد الجماعات والدول. وفي الشرق الاوسط، هناك تفريق بين الارهاب والمقاومة المشروعة، وبين الاسلام والتطرف. وفي تقديرنا، فإن الادارة الاميركية ستقع في معظلة خطيرة في حال أعلنت حرباً أخرى بدون أخذ بنظر الاعتبار المعيار المعرّف للارهاب.

وفيما تجنح بعض الأطراف في الحكومة السعودية نحو خيار الحرب ضد ايران، كجزء من الالتزامات الجديدة في التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن، فإن ثمة استحقاقات مؤجلة على العائلة المالكة مواجهتها في المرحلة القادمة، ولن تكون بمنأى عن مطالب داخلية ودولية خصوصاً بعد أن استنزاف العائلة المالكة لفرص إعادة بناء الدولة على أسس وطنية، وتبني خيار الاصلاحات السياسية والاقتصادية.

تقترف العائلة المالكة خطأ قاتلاً في حال قررت السير في الخيار الاميركي الاسرائيلي لخوض حرب جديدة في المنطقة، فليس هناك صداقات دائمة، ونتذكر التصريحات الأميركية التي أعقبت سقوط بغداد، بأن العراق سيكون منطلقاً لتغييرات جوهرية في المنطقة وكانت السعودية في دائرة الاهتمام الأميركي لمهندسي التغيير في واشنطن. لن تنجو الرياض، شأنها شأن عواصم أخرى، من الموجات الارتدادية لما بعد الحرب الجديدة، بصرف النظر عن الرابح والخاسر فيها، ففي الحالتين ستخرج العائلة المالكة خاسرة، ولكنها ستتكبد خسارة فادحة على يد حليفها الاستراتيجي الذي يملك أجندة شبه معلنة للشرق الاوسط الجديد أو الكبير، والتي تتضمن إعادة تشكيل الخارطة السياسية، والتي تقوم على تقسيم الدولة على أساس إثني وقومي وديني.

الغطرسة الاميركية ترافقها غطرسة سعودية كالتي لدى رئيس مجلس الامن الوطني الامير بندر، الذي صوّره الاعلام الاميركي بأنه يملك ذكاءً سياسياً فريداً، بما جعله يتصرف على هذا الأساس في مقاربة أزمات المنطقة، وقد يسوق البلاد الى مهلكة قاصمة، فهو يتحرك بين عواصم (المعتدلين) كصانع قرار رئيسي وربما وحيد في موضوع الحرب على ايران، وقد أحدثت تحركاته زعزعة داخل العائلة المالكة، وأثار إستياء الاجنحة الأخرى التي تنظر بريبة الى ما يضطلع به من أدوار خطيرة.

الصفحة السابقة