قمة نجاد ـ عبد الله

أزمات المنطقة والحل الإقليمي

قمة عبد الله ـ نجاد في الثالث من مارس جاءت تتويجاً للقاءت سابقة جرت قبل القمة بأسابيع عدة بين مسؤولين سعوديين وايرانيين، وبالتالي هي تعطي مؤشراً على أن القمة تعكس نجاحاً في اللقاءات السابقة من جهة تقريب وجهات النظر حيال الملفات الساخنة في المنطقة. وأن مجرد انعقاد القمة يشي بالنجاح الملحوظ في متصاص التوتر في ظل احتقان سياسي، ومذهبي، وأمني في المنطقة. وكان كثيرون في المنطقة يتطلعون الى نتائج الزيارة لجهة تسوية ملفات إقليمية وشرق أوسطية مازالت عالقة سواء في العراق أو لبنان أو فلسطين إضافة الى أمن الخليج. كانت هناك قائمة تمنيات وقائمة فرص منتظرة من هذه الزيارة، بعد أن وصل الفرقاء في العراق ولبنان الى طريق مسدود، وبات يعوّل على قدرة القطبين الكبيرين في فتح الطريق أمام حلول متوازنة ومرضية.. وهذا يعني أن الحل لمشاكل المنطقة بات إقليمياً وليس دولياً سواء فيما يرتبط بالوضع الأمني في العراق أو التجاذب السياسي في لبنان وحتى الملف الفلسطيني الذي حظي بمباركة سعودية وايرانية.

فجميع الاطراف سواء في العراق او لبنان أو حتى فلسطين بحاجة الى ضمانات متبادلة إذ لم يعد الاميركيون والاوروبيون (ولا حتى اللجنة الرباعية) طرفاً محايداً ونزيهاً وفاعلاً يمكن التعويل عليه في تحقيق تسوية متوازنة وتوفير ضمانات مؤكّدة. وحتى أولئك الذين راهنوا حتى الآن على الجانب الاميركي في الحصول على حلول وضمانات خصوصاً في لبنان، باتوا الآن بحاجة للعودة الى المحيط الاقليمي من أجل إعادة التموقع لبنانياً. فمن الواضح أن الادارة الاميركية لن تصنع حلاً في لبنان، بل هي تشتغل على مزيد من الفوضى والفتنة والقطيعة بين اللبنانيين، وهناك قوّتان اقليميتان تقومان بتدوير الزوايا من أجل الوصول الى تسوية داخلية في لبنان ستلزم في نهاية المطاف الاطراف كافة، ومهما يكن فلا بد من تسوية، وبالتالي فإن قابلية توفير الضمانات هي في المنطقة، وليست في واشنطن أو باريس، أو حتى تل أبيب.

ايران والسعودية هما قطبان استراتيجيان بخصائص سياسية واستراتيجية واقتصادية ودينية متميزة، وبالتالي فإن هذين البلدين قادران على لعب دور حيوي في الترتيبات السياسية والامنية في المنطقة.. وأن توقيت الزيارة، بصرف النظر عن كونها بطلب إيراني أو سعودي، يمكن النظر اليه من بعدين:

سعودياً: تميل الحكومة السعودية الى اعتماد خيارات موازية أو بديلة، في ظل تصاعد نبرة صدامية تغذيها أطراف في في اليمين المتطرف داخل الإدارة الاميركية يقودها ديك تشيني، وأطراف اقليمية مثل اسرائيل وعدد من الحكومات العربية الى جانب جناح داخل العائلة المالكة يقودهم الامير بندر بن سلطان. وفيما يبدو، فإن قناعة جديدة بدأت تتبلور لدى القيادة السعودية بأن المنطقة لم تعد تحتمل المزيد من التوتر، وأن أي صراع عسكري آخر في المنطقة سيفضي الى إحداث فوضى عارمة في المنطقة ويزعزع استقرار الكيانات السياسية القائمة، وستشمل السعودية.

إيرانياً: هناك قناعة لدى القيادة الايرانية بأن هناك من يريد استدراج دول المنطقة الى تحقيق اصطفاف اقليمي يخدم الخط المتشدد في الادارة الاميركية والغرب، وليس من مصلحة ايران أن توفّر مبرراً لهذا الخط من أن يقوم باختطاف المنطقة.. ومهما يكن فإن الجغرافيا الى جانب عوامل أخرى تلعب دوراً رئيسياً في فك الطوق المفروض على علاقات ايران بدول الجوار.

نلفت هنا الى أن سلوك إيران تجاه الغرب جرى توظيفه إقليمياً، بمعنى أن هذا السلوك بات يستعمل لأغراض سياسية اقليمية. فهناك لهجة إيرانية صارمة تجاه الغرب والولايات المتحدة بصورة محددة بخصوص ملفها النووي، وهذه الصرامة لا تتعلق بموقف وعلاقة ايران من دول المنطقة، ولكن أريد لهذه الصرامة أن تكون عنصر توتير في العلاقات الايرانية العربية والخليجية، وهذا الربط المفتعل ينبىء عن ميل أميركي لتحقيق إصطفاف اقليمي وصنع تحالف اقليمي ضد ايران.

هذا ينقلنا أيضاً الى موضوع الفتنة الطائفية، الذي كان اختياراً وقراراً وصنعاً أميركياً، ولعل تقرير سيمور هيرش في مجلة نيوركر الذي نشر مؤخراً يكشف عن ذلك بوضوح، يضاف الى أدلة كثيرة على لجوء الادارة الاميركية الى اشعال الفتنة الطائفية كخيار للخروج من مأزقها الأمني والعسكري في العراق، وفتنمة المنطقة عن طريق صنع حرب أخرى كحل لحرب قائمة، ضمن رؤية الفوضى الخلاّقة التي يعتنقها المحافظون الجدد.

وبرغم الشكوك الايرانية حيال التحالف الاستراتيجي بين القيادة السعودية والادارة الاميركية، فإن طهران مازالت تراهن على التنسيق مع الرياض في القضايا الاقليمية، وخصوصاً بعد أن تكشّفت حقيقة التورّط الاميركي في تأجيج الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة كرهان أخير من أجل الخروج من مأزق الفشل الاميركي في العراق. إعتبار القمة السعودية الايرانية بانها (قمة الفرصة الأخيرة) وخصوصاً بالنسبة الى لبنان والمنطقة عموماً تعكس إنسداد الأفق السياسي في المنطقة على وقع تفاقم النزعة الواحدية الاميركية في العالم.. فقد أوصلت واشنطن الملفات السياسية في المنطقة الى حافة الهاوية، واضعة الجميع أمام خيار وحيد يتمثل في القبول بالأجندة الاميركية.

كانت القمة الايرانية السعودية مفتاح حل أو في الحد الادنى مدخلاً لتسويات متعددة على المستوى الاقليمي، وبالتأكيد فإنها سهّلت على الحكومة السعودية مهمة تسويق مبادرتها للسلام التي كانت طرحتها في قمة بيروت العام 2002، ولكن واجهت معارضة الدولة العبرية، الأمر الذي دفعها الى إجراءات تعديلات على بعض بنود المبادرة وأبرزها بند (عودة اللاجئين) الفلسطينيين، وهو ما عمل الأمير بندر بن سلطان، رئيس مجلس الأمن الوطني على تعديله عبر مشاورات مع قيادات معسكر المعتدلين، بالتنسيق مع واشنطن وتل أبيب.

وفي وقت تواجه الجامعة العربية المزيد من الوهن، تحاول السعودية عبر إعادة إنتاج لدورها الاقليمي الذي يتطلب تفاهماً من نوع ما مع القوى الاقليمية الفاعلة، وتسعى الى توظيف هذه الدور المتجدد في تمرير مشاريعها عبر الجامعة العربية من أجل الحصول على وصفة الاجماع، غير القابلة للتحقق الا من خلال آلية الجامعة العربية. وإذا ما أرادت واشنطن للرياض أن تقوم بدور النيابة عنها في حلحلة الملف الاقليمية فإنها بحاجة الى التوصّل مع طهران ودمشق وكذلك القوى السياسية الفاعلة في العراق ولبنان وفلسطين الى تفاهمات بنفس القدر أو قريب منه مع القاهرة، وبقدر أقل بكثير مع عمّان.

بالتأكيد، لن تتوصل الاطراف الفلسطينية واللبنانية وكذلك العراقية الى حلول حاسمة ومتوازنة دون التفاهم مع طهران ودمشق، فلا حكومة وحدة وطنية في فلسطين ولبنان، ولا محكمة دولية في لبنان، ولا حتى مبادرة للسلام (على الأقل بالنسبة لدمشق) لن تحظى بفرص النجاح ما لم تكن العواصم المعنيّة طرفاً في أية تفاهمات حولها.

وإذا كانت الخلافات بين دمشق والرياض قد بلغت مستوى خطيراً، فإن طهران التي تحاول العبور الى الرياض من خلال جسر المصالح المشتركة تجد نفسها وسيطاً ممتازاً في تسوية خلافات الرياض ودمشق، تمهيداً لاعادة الدفء مجدداً الى العلاقات السورية السعودية مع اقتراب موعد القمة العريبة في 28 و29 آذار(مارس) الجاري، خصوصاً وأن ثمة إشارات مبكرة للفشل قد ظهرت في بداية شهر مارس بعد إعلان ليبيا وربما قطر عن عدم مشاركتهما في قمة الرياض المقبلة، في ما قيل لاحقاً بأن الدوحة وطرابلس تسعيان الى إفساد قمة الرياض.

لا شك أن طهران لعبت دوراً متميزاً في تخفيض درجة التوتر بين دمشق والرياض، خصوصاً بعد الاتصال الذي أجراه نجاد فور عودته الى بلاده مع الرئيس بشار الأسد، والذي سهّل مهمة الرياض في التواصل مع دمشق لتمرير دعوة الى الرئيس الأسد بحضور قمة الرياض، بالرغم من شعور طهران ودمشق بأن ثمة من يريد التفريق بينهما، فهناك أمراء يراهنون على عزل دمشق عن طهران من أجل تطويق الاخيرة وضربها وقطع نفوذها في المنطقة من العراق وصولاً الى لبنان وفلسطين، وهناك أمراء آخرون مثل بندر بن سلطان يريد عزل طهران عن دمشق من أجل إنزال ضربة قاصمة للأخيرة تبعدها عن لبنان وتلزمها بالمحكمة الدولية، لدعم فريق الرابع عشر من آذار.

فيما يبدو، فإن المسؤولين الايرانيين نجحوا في كسر الجليد مع الرياض، من خلال خطوات إيجابية قامت طهران بها قبل لقاء نجاد ـ عبد الله في الرياض، من بينها، وبحسب إقرار السعوديين والفرنسيين، إنجاح مؤتمر باريس ـ3، واتفاق مكة بين فتح وحماس، وكذلك الاستعداد بتقديم مقترحات بحل الأزمة اللبنانية بعد لقاء بندر ـ لاريجاني في طهران قبل شهرين، وكذلك إعلان المشاركة في مؤتمر بغداد لجهة تهدئة التوترات الاقليمية ومعالجة الملف الأمني في العراق، واستعداد طهران لتقديم الضمانات المطلوبة بخصوص ملفها النووي.

السعودية، وبوحي من استراتيجيتها الجديدة ذات الطابع المزدوج، تتحرك في اتصالاتها مع طهران من الرغبة في الحد من النفوذ الايراني، وهو أمر تدركه طهران جيداً، بل تعلم بأن اختيار الامير بندر للقيام بمهمة الاتصال بطهران لم يكن عفوياً، فهو يجسّد الدبلوماسية المزدوجة للحكومة السعودية، بل تنظر طهران الى الأمير بندر بأنه ممثل للحكومتين السعودية والأميركية. ولا غرابة في ذلك، فالأمير يرغب في أن يكتسب هذه الصفة، من أجل إنجاح مهمته كوسيط بين طهران وواشنطن.. لا شك أن بندر يلعب دوراً قد يكون في بعض الاحيان لم يتم رسمه في الرياض، ولم يحظ بموافقة الملك عبد الله شخصياً، فهو ينظر الى نفسه باعتباره شخصاً فريداً.. ولا غرابة أيضاً بأن طهران تريد أن توظّف معرفتها بدور بندر لجهة التقرّب من القادة السعوديين بدءً بالملك عبد الله نفسه الذي يحتفظ بعلاقات متميزة مع بعض الشخصيات القيادية في ايران مثل الشيخ هاشمي رفسنجاني، رئيس تشخيص مصلحة النظام.

نجاد الذي أحاط نفسه بسحابة من الشكوك بفعل تصريحاته النارية ضد الولايات المتحدة والغرب عموماً والدولة العبرية بوجه خاص، قد أثار مخاوف الدول الاقليمية، ولذلك أراد في زيارته تقديم وجه آخر غير الذي يظهر به في الموضوعات المرتبطة بالغرب والولايات المتحدة. فقد فتح الطريق المسدود مع الرياض، تمهيداً لازالة التوتر في القضية المذهبية كمفردة في مشروع أميركي ـ إسرائيلي يخفي أجندة واسعة للمنطقة، وترى الرياض بأن ثمة حاجة للتفاهم مع طهران لاحتواء التوتر المذهبي من أجل وضع مكابح على المشروع الأميركي الذي يبدو أريد له أن يكون عنواناً آخر لـ (الفوضى الخلاّقة) وفق المعايير الاميركية.

نشير هنا الى أن ثمة قضيّة نغّصت على قمة نجاد ـ عبد الله تكشّفت بعض ملامحها في منتصف ليلة عودة نجاد الى طهران، حيث نفى مكتب الرئاسة الايرانية ما ورد في تقرير وزّعته وكالة الأنباء السعودية في الرابع من مارس مفاده أن الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد أبلغ الملك عبد الله بن عبد العزيز خلال اجتماعهما في الثالث من مارس أنه يدعم مبادرة السلام العربية لعام 2002 والتي تنص على اقامة علاقات طبيعية مع اسرائيل في مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة الى ما وراء خط الرابع من حزيران عام 1967 واقامة دولة فلسطينية.

نفي الرئاسة الايرانية دعمها لمبادرة الملك عبد الله يمكن فهمه في بعدين: أن ثمة سلة قضايا خضعت للمداولات والتفاهم بشأنها بين الرياض وطهران، وأن التوافق حيالها كان يتم بصورة ثنائية، أي تسوية شاملة للقضايا كافة، ما يلمح الى أن طهران لم تتلق في المقابل تنازلاً حيال قضية أخرى في الملف الفلسطيني، وهي ما دفعت قائد حماس في الخارج خالد مشعل للسفر الى طهران واللقاء مع أحمدي نجاد في السادس من مارس والتشاور بشأن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية (التي تعثّرت بسبب الخلاف حول وزارة الداخلية). البعد الآخر، قد تكون طهران قد تكون تنبّهت الى أن دعم مبادرة الملك عبد الله ستنسحب أيضاً على التعديلات التي تعمل أطراف عدة في المنطقة على إقرارها، وقد سعى الأمير بندر بحسب مصادر صحافية غربية واسرائيلية الى أنه حاول إقناع عدد من الحكومات العربية بضرورة التخلي عن (حق العودة) وإقرار مبدأ التوطين وهو ما كان يسعى الى جعله واقعاً في لبنان عبر بعض فرقاء الرابع عشر من آذار.. طهران التي تدعم حركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان تتبنى فكرة حق العودة للاجئين الفلسطينيين الى ديارهم، منعاً لتنفتيت الشرق الاوسط عبر الاختلال الديمغرافي.

الصفحة السابقة