درس آخر..

النقد الفكري يلجم العنف

محمد قستي

عقود عدة مرّت، والعائلة المالكة كانت تغدق الدعم المالي والسياسي على المؤسسة الدينية، التي كانت تشيع في العالم رؤية حول الجهاد العنفي فيما كانت العائلة المالكة تحظى بالدعم الديني لسلطة مطلقة كانت ترى فيها امتيازاً عائلياً خالصاً. كان ذلك التضامن الشفهي، زواجاً مستقراً لعقود عدة طالما أن سهام الجهاد السلفي موجّهة للخارج، ومادام الشرر المتطاير لا يصيب عباءة السلطة، ولكن لم يدم ذلك طويلا، فقد عادت الصقور الى أوكارها، ونشبت مخالبها في جسد مالكها الأصلي، في ما يشبه إنتقام منه حين كان يطلقه لمسافات بعيدة كيما ينسيه الفريسة القريبة منه.

في نهاية أبريل الماضي، كانت البلاد على موعد مع مفاجأة جديدة لشبكة جديدة من الجهاديين الذين لم تكشف الحكومة عن تفاصيل كثيرة عن برنامجهم، وهوياتهم، سوى أن أفراد هذه الشبكة يواجهون إتهامات بالتخطيط لاغتيال شخصيات عامة، وتفجير المصافي النفطية، واستعمال طائرات مدنية لضرب مبانٍ حكومية وقواعد عسكرية. قلة من أفراد هذه الشبكة تعتقد بأنها تنتمي الى الجهاديين في العراق، الذين أرسلتهم الحكومة السعودية لقتل المدنيين في العراق. مجموعة أخرى مؤلفة من 136 عنصراً قد تم إعتقالها خلال الستة شهور الماضية.

وبالرغم من أن الحكومة تطلق عليهم نعت (الفئة الضالة)، الا أنها كانت تستعمل نعتاً مختلفاً بل تمجيداً لهم حين كانت تشجّعهم على قتل المدنيين في العراق، والروس في أفغانستان والشيشان، والصرب في البوسة، والمسيحيين في الغرب.

كانت العائلة المالكة تأمل في أن يحافظ العلماء على الجهاديين ضمن ضوابط الالتزام الضمني والادبي في العلاقة بين العائلة المالكة والمؤسسة الدينية. لم تشعر العائلة المالكة بالندم حول تصدير التطرف والعنف للخارج طالما أن ذلك يخدم أجندتها السياسية، ولكنها نسيت بأنها قد تنجح في لعب دور المحرّض ولكنها قد لا تفلح في تقمّص دور المستفيد على المدى البعيد، فقد ترتد عاصفة العنف للوراء، للمركز، الى حيث انطلقت.

وخلال الخمسين عاماً الماضية، كان العلماء يعمّمون التعاليم الجهادية في المساجد، والمدارس، والجامعات والصحافة، وباختصار في الحياة اليومية للمواطنين. ولذلك لم يكن إنفجار العنف تحت شعار الجهاد سوى مسألة وقت، حيث بدأت إرهاصاته الاولى العام 1979 حين أطلق جهيمان العتيبي وأربعمائة من أتباعه حركة تمرد بدأت في المسجد الحرام، على قاعدة تكفير الدولة السعودية، مطالبة برحيل العائلة المالكة.

وقد تطلبت مواجهة حركة التمرد الاستعانة بقوة كوماندوز فرنسية لإنهاء إحتلال الحرم المكي وكلّف ذلك مئات من الضحايا. ومنذاك، كانت هناك سلسلة من التمرّدات الداخلية على قاعدة دينية، وكان أشهرها بقيادة أسامة بن لادن الذي كان في يوم ما حليفاً للحكومة السعودية وراعياً لحركة المجاهدين العرب ضد السوفييت في أفغانستان، ولكن هذه الحركة تحوّلت ضد العائلة المالكة.

وفيما كان النظام السياسي يواجه خطر التفكك، لا يزال رجاله مصرّين على التمسك بالخطاب الديني المتشدد نفسه المسؤول عن توليد ظواهر متشددة وعنفية، وكأن هناك من يريد لهذا الخطاب أن يحقق انتشاراً واسعاً برغم من أعراضه الجانبية التدميرية على الداخل.

مع اكتشاف الشبكة الأخيرة يعاد بعث السؤال المركزي: من المسؤول عن ثقافة التشدد؟ وماهي المقاربة الصحيحة والفاعلة للقضاء على التطرف؟

يقدّم عدد من الباحثين والمراقبين إجابات واضحة عن هذه الاسئلة، في سياق تشخيص خطورة الإنجرار وراء معالجة الأعراض وإغفال مقصود لجذور المرض.

في مقالة بعنوان (الخلايا النائمة..فكرية) نشرت في صحيفة (البيان) الإماراتية في الأول من مايو كتب المفكر الكويتي محمد الرميحي: أن الثابت والذي لا يريد البعض أن يعترف به أو مناقشته، أن مركزية الإرهاب، بأشكاله المختلفة، هو فكري، فالفكر هو القاعدة الرئيسية التي على أساسها يتم التجنيد وجمع المال ووضع خطط التخريب وتخريجها. ويحذّر الرميحي من أن التيار الفكري الذي يغذي عقول الشباب ويجرفهم باتجاه التشدد أولاً ثم باتجاه الإرهاب ثانياً، (هو فكر يحوم حولنا ويتجذر، بل ويقبله بعض منا على أساس انه جزء من الخارطة الفكرية).

ويحمّل الرميحي وسائل الاعلام الرسمية وغير الرسمية المسؤولية عن ترويج لفكر متطرف (فالإرهاب التكفيري يسبقه بفترة الإرهاب التخديري، وهو المتوفر في الكثير من برامجنا التلفزيونية وما ينشر في وسائل إعلامنا، تجد هذا الرجل أو تلك المرأة)، حيث يستعين أصحاب الفكر الإرهابي بطائفة أيقونات وأشكال ذات طبيعة دينية من أجل إحكام عملية التوجيه والاغراء، ويعلّق الرميحي قائلاً:(في مثل هذه الأجواء يصبح الإرهاب أمراً غير عابر بل هو مقيم ومؤسس على قاعدة لا تنضب من الرفد البشري، الخيار العقلاني المبني على النسبية في أمور الدنيا ليس وارداً في معظم ما نشاهد وما نقرأ، وما دام الأمر كذلك فإن الشكوى من جماعات الإرهاب لن تنتهي بانتهاء القبض على هذه المجموعة أو تلك). وينقل الرميحي خلاصة لقاء مع من خرجوا من ذلك القمقم التكفيري (أنهم لم يكن بإمكانهم التفكير في قراءة مصادر أخرى غير ما يقرره عليهم رؤساؤهم ولم يكن بمقدورهم أن يفكّروا مستقلين أو حتى يتحدثوا مع أناس قيل لهم أنهم ضالون.. هكذا يعزل الشباب عن المجتمع عزلاً نهائياً ويكُون له مرجعه الأحادي، دون قراراها لا يعرف حتى كيف يتناول وجباته اليومية).

ويقدّم الرميحي معالجة مكثّفة لظاهرة التطرف من منظور فكري (والمعادلة التي أمامنا هي كيف يمكن أن نعطي الثقة لجيل كامل ونتأكد من عدم انجراره للغلو في نفس الوقت، ليس هناك إجابة على هذه المعادلة غير التعليم المنهجي المفتوح والناقد الذي يخرج من بين دفتيه، المعرفة والمهارة أناساً قادرين على استخدام عقولهم قبل عواطفهم. العملية التصحيحية الحقيقة هي إعادة النظر في المفاهيم والفكر إعادة شجاعة توقف هذا العبث بالعقول).

أما المفكر القطري عبد الحميد الانصاري، فيحدد في مقالة (في تشريح الفكر الإرهابي) نشرتها جريدة (الراية) القطرية في الأول من مايو مشكلة جوهرية في طبيعة المعالجات السائدة لمشكلة العنف، حيث أن الضربات الأمنية لجماعات العنف لم تضع حداً لنشوء جماعات أخرى جديدة تعتنق ذات الأفكار وتنهج نفس الطريق في التعبير عن مواقفها وآرائها السياسية والأيديولوجية. يقرر الانصاري باستغراب (كنا نظن أنه بعد هذه النجاحات العديدة وبعد انحسار التعاطف الشعبي مع القاعدة وبعد ضبط التبرعات الخيرية ومحاصرتها، أن قدرة القاعدة علي تجنيد أنصار جدد، قد ضعفت، وأنها لن تتمكن بعد هذه الضربات الساحقة من إحياء نشاطها..)، ويعتبر ذلك التفكير خاطئاً فقد نجحت القاعدة في استيعاب أنصار جدد، بل ورسمت خطة جديدة أشد خطورة على الدولة.. (فها هي القاعدة تلملم بقاياها وتضم الي صفوفها أنصاراً غير معروفين للأمن وهم أناس كانوا يعملون في شركات طيران ويتدربون في معاهدها، ورغم الحصار المالي تتمكن القاعدة من جمع (20) مليون ريال!! ما معني كل ذلك؟ وما دلالته؟ وكيف تمكنت القاعدة من تناسل خلايا جديدة؟!).

يعني ذلك كله، أن الحل الأمني رغم مفعوله الظاهري لا يغني كما يقول الانصاري (عن استنفار فكري شامل لجميع المنابر الدينية والثقافية والتربوية والاعلامية ويُجند له جميع المفكرين والمثقفين وعلماء الدين والإعلاميين والتربويين).

وينبّه الانصاري الى أن المناهج الثلاثة السائدة: الإنكاري، والدفاعي، والتبريري في تفسير الظاهرة الارهابية، غير مجدية، بل إن الإنكار أو الدفاع أو التبرير للظاهرة الارهابية يفاقمها ويعمل على استمرارها ما لم نتبن منهجاً تحليلياً نقدياً يشخّص الظاهرة ويحللها الى عواملها البنيوية. دعونا نتساءل: ما مكونات الظاهرة الإرهابية؟ وكيف نشأت الظاهرة الإرهابية - في تصوري - حصيلة تفاعل (3) عناصر هي: 1) فكر عدواني. 2) استقر في (نفسية) غير سوية. 3) ووجدت (بيئة) حاضنة أو متعاطفة أو متقبلة.

ويرى الانصاري بان هذه العناصر الثلاثة تكوّن الأضلاع الثلاثة للمثلث الإرهابي، إذ لن يتحول الفكر العدواني بمجرده الى قنبلة بشرية تدميرية إلا بتفاعله مع نفسية متوترة، قلقة، غير منسجمة مع المجتمع والعصر، وفي مناخ يتعاطف مع الفكر العدواني. ويقول (فهناك كثيرون يعتنقون أفكاراً عدوانية بتأثير الفتاوي المكفرة وبسبب التوظيف السياسي والأيديولوجي للمفاهيم الدينية ـ الجهاد والاستشهاد ـ كما أن هناك نفسيات تحمل مشاعر الكراهية بسبب الخبرات الطفولية القاسية، وبفعل الشحن الديني والطائفي الذي يحتكر الجنة لفرقة واحدة والوطنية لفصيل سياسي واحد ويقصي الآخرين بتهمة العمالة. وهناك بيئات متعصبة بسبب التضليل الإعلامي).

هل يقف الأمر عند هذا الحد؟ بالطبع كلا، فالأفكار، كما يقول الانصاري، مهما بلغت عدوانيتها، وكذلك النفسيات مهما كانت كراهيتها والبيئات مهما تعصبت، قادرة على إنتاج قنبلة بشرية إلا اذا تفاعلت مجتمعة تفاعلاً غير صحي لينتج ثقافة تدمير الذات في خداع للنفس والمجتمع بأن ذلك العمل المجرّم جهاد واستشهاد!! (إني أعجب من أمة، يحرّم دينها ـ قتل النفس ـ تحريماً قاطعاً ويتوعد صاحبها ويعتبر قتل نفس واحدة قتلاً للناس جميعاً، كيف تسمح بأن يعتلي منابر بيوت الله، محرضون على تفجير النفس باعتبارها أسمى الجهاد؟! إننا الوحيدون بين الأمم الذين نبارك الإنتحار، وقد عارض زعيم باكستاني العمليات الانتحارية فتعرض منزله لقذيفة!! ونحن الوحيدون الذي جرأ بعضنا في انتهاك بيت الله لتخريج انتحاريين!!).

ويتساءل الانصاري: لماذا يستمر الفكر الضال كما يسمى في السعودية؟ ولماذا يجتذب أنصاراً وجنداً رغم الضربات الأمنية والمحاصرة المالية؟! لا يفيدنا الخطاب التبريري الذي يربط الإرهاب بالمظالم الأمريكية والبطش الإسرائيلي، ولن يجدي نفعاً خطاب الدفاع عن صورة الإسلام مع أن ذلك واجب، كما أن الخطاب التفسيري يصب في خانة التبرير في هذا السياق، ومهما تكلمنا عن سياسة الكيل بالمكيالين والانحياز الظالم وتعلقنا بنظريات التآمر العالمي ومهما لعنّا سياسة الهيمنة وشياطين الإنس والجن، كل ذلك لن يغني شيئاً. لا يفيدنا إلا الخطاب النقدي وتحمل المسؤولية ومراجعة الأوضاع وشجاعة الاعتراف بالأخطاء.

ويخلص الانصاري بالقول: معظم المنابر الدينية والرموز الدينية في المنطقة يقيمون الدنيا لأمر يمكن علاجه بالحُسنى ولكنهم وحتى الآن لم يجرؤوا علي انتقاد القاعدة أو التبرؤ من زعيمها رغم اساءاته العظيمة للإسلام والمسلمين!! هؤلاء هم المنظرون والجيوش الفكرية الذين يمهدون الأرضية الملائمة لانتاج نفسيات مهيأة لقبول الفكر الإرهابي، لينشط الإرهاب وتستمر دوامة العنف ويتساقط شبابنا، هؤلاء هم الأخطر على مجتمعاتنا وهم الأعظم إثماً.

يبقى القول، أن الفكر الضال كما تطلق عليه الحكومة السعودية ليس بضاعة مستوردة، فمعامل الفكر المتطرف مندّسة في مؤسسات الدولة، وتحظى برعاية رجالها، الذين مازالوا يعتقدون بأن هذا الفكر المنتج محلياً لا يفضي الى العنف المسلّح، أو ربما يرون بأن هذا الفكر والفئات التي تحمله قد ضلّت طريقها للخارج، وباتت تضطلع بمهمة داخلية. في الواقع، أن غياب حركة نقدية تبدأ بمراجعة عميقة للمنابع الفكرية السلفية يجعل من تفكيك شبكات التطرف مجرد وهم، إذ مازال هذا الفكر الضال يدفع مجموعات شبابية الى ساحة القتال في العراق، وأن تغيير المكان لا يغيّر جوهر الفكر المتشدد الذي يتغذى عليه المحاربون سواء في الداخل أو الخارج.

الصفحة السابقة