العلاقات السعودية ـ العراقية

الرياض تخطط لإسقاط حكومة المالكي

لم تكن العلاقات السعودية ـ العراقية مستقرة في أي وقت مضى، ولن تكون بحسب المعطيات القائمة، فقد ظلّت منذ نشأت الدولة السعودية الأولى وحتى اليوم تراوح بين الخصومة العلنية أو الخفية، وأن الثماني سنوات التي أعتبرت مرحلة صفاء تام بين الرياض وبغداد كانت عبارة عن زواج مؤقت لأغراض محددة حيث كانت تخوض قوات نظام صدام حسين حرباً بالنيابة عن دول الخليج من تهديدات إيرانية إفتراضية في الفترة ما بين 1980 ـ 1988.

الكاتب في معهد السلام الامريكي جوزيف ماكميلان كتب تقريراً بعنوان: (السعودية والعراق: النفط، الدين وتنافس طويل)، يقول فيه: منذ قيام دولتي السعودية والعراق بعد الحرب العالمية الأولى، كانت العلاقات بينهما إشكالية، لافتا الى أن ذلك سيستمر في حقبة ما بعد صدام، مضيفاً: (أن سياسة الرياض حيال بغداد في السنوات المقبلة، قد تهيمن عليها أربعة هواجس ومخاوف أساسية حول مستقبل الدولة العراقية وهي: الإستقرار الداخلي، التدخل الأجنبي، سياسة إنتاج النفط والتطور السياسي في العراق وخصوصا دور الشيعة، مؤكداً أن العنصر الأهم منها هو الإستقرار).

وفي ذروة العلاقة الحميمية بين بغداد والرياض لم يخف الطرفان شكوكهما المتبادلة، وقد يعبّرا أحياناً عن ذلك بلغة فصيحة ومباشرة. ينقل أحد المقرّبين من صدام حسين، أنه خلال زيارة قام بها الأخير الى الرياض في عهد الملك فهد، وقد جرت العادة أن يقدّم للضيف فنجان من القهوة بما يرمز الى تقاليد الكرم البدوي، ولكن صدام رفض أن يشرب القهوة قبل أن يبدأ الملك فهد باحتساء قهوته، وما كان من حرس صدام الا أن طلبوا من المضيف تبادل الفنجانين بين صدام وفهد، حيث امتثل الأخير لطلب ضيفه بعد أن فهم المغزى من ذلك.

في الأدبيات السياسية العراقية ما يشير الى مقت شديد للسعودية، التي كانت توصف بالدولة الرجعية العميلة للإستعمار، وفي المقابل كان الملك عبد العزيز وأبناؤه يحذّرون من الاقتراب من عش الزنابير الذي لا يأتي منه سوى الشر، ولذلك ما إن وضعت حرب الخليج الأولى أوزارها حتى بدأت ريح ساخنة تهب على العلاقات السعودية العراقية، في سياق تصفية الحسابات بين العراق والأطراف الداعمة له في الحرب، فكان يطالب بثمن الدفاع عن البوابة الشرقية.

ومنذ غزو قوات صدام للكويت في الثاني من أغسطس 1990 وحتى سقوطه في التاسع من أبريل 2003 كان صندوق باندورا العراقي مقفلاً بفعل الحصار الدولي الذي أطبق عليه وحرمه من مجرد العيش في حدوده الدنيا، بحيث أتى الحصار على حياة مئات الآلاف من الشعب العراقي. لم يكن أي من دول الخليج بما فيها السعودية تعير إهتماماً للعراق حكومة وشعباً، فقد تركته يكابد آلامه، ويكتوي بنار شاركت هي في إشعالها، وأعارته صمتاً وإهمالاً ونسياناً كيما يفترسه المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة، فسهّلت مهمة غزوه واحتلال أرضه.

لم يثر الإحتلال الاميركي للعراق حفيظة السعودية ولا غيرها من الدول المعتدلة أميركياً، بل سهّلت له ما جادت به من أرض وسماء ومياه وقواعد كانت أنشأتها في شمال البلاد لغايات معروفة. وبعد أن أحكمت قوات التحالف قبضتها على العراق من كل أطرافه، تنبّهت الرياض الى أن غيرها قد سبقها الى العراق إما لتحقيق مآرب خاصة، أو كتدابير إحتياطية من غزو محتمل لبلادها كما في مثال إيران التي خشيت أن تكون الضحية القادمة، فجاهرت الرياض بمطلب تراه حقاً لها مسلوب في العراق، فذكّرت واشنطن بوقوفها معها في السنوات الخوالي حين دفعت المليارات لنظام صدام حسين للدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية بمشاركة أميركية، وكأنها ترى أن موسم الحصاد العراقي قد بلغ نهايته.

رفضت الرياض مساندة العملية السياسية الديمقراطية في العراق لأن في ذلك عوناً على نفسها وخدمة لعدوها على تحقيق مأربه الديمقراطي، خصوصاً وقد أعلنت الادارة الاميركية على لسان مسؤوليها الكبار والصغار بأن العراق سيكون منطلقاً لتعميم النموذج الديمقراطي4 في المنطقة، فبدأت تحرّك شبابها للهجرة الى (دار الجهاد)، وأمدّتهم بالمال والرجال كيما (يعيثون) في العراق (جهاداً) من نوع آخر، فلم يصب الجنود الأميركيون من جهاد أهل التوحيد والدعوة السلفية معشار ما أصاب المدنيين في العراق، فلم يسلم من الجهاد السعودي عامل بسيط يبحث عن لقمة عيش، ولا إمرأة تأمل في رؤية أبنائها وقد أصبحوا رجالاً كباراً، ولا طفل يعود بحقيبة مدرسته محمّلاً بحلم مستقبل زاهر، ولا سوق شعبي يكتظ بالكادحين من أجل محاربة الفقر، ولا منشأة عامة، وكل ذلك يتم بإسم الدفاع عن العراق من قوات الاحتلال الصليبي!.

لقد أفادت دول الجوار من مأساة العراق الحالية، وكل دولة جنت منها بحسب حاجاتها، فإيران تدرأ عن نفسها حالياً حرباً من خلال ما يشهده العراق من فوضى وفشل أميركي في ضبط الأوضاع الأمنية، فيما نجحت السعودية والاردن ومصر في إجهاض مشروع الدمقرطة الذي تبنّته إدارة بوش قبل سنوات، وهي تراهن اليوم على أن تملي شروطها على الإدارة الأميركية المأزومة في العراق، بعد أن اطمأنت الى أن الديمقراطية لم تعد خطراً يتهددها بعد أن اغتالت المولود الديمقراطي في عقر داره.

لم يكن مستغرباً أن ترفض السعودية تعيين سفيراً لها في بغداد بالرغم من أن العراق بادر الى إعادة فتح سفارته في الرياض في أواخر 2005، ومع ذلك فهي تتحدث في الشؤون الداخلية العراقية كما لو أن لها حقاً إلهياً، وتملي على حكومة العراق ما يجب فعله، في وقت تبالغ في عدم تدخلها في شؤون الدول الأخرى، فهي تطالب بتغيير الدستور، وإشراك أطراف حليفة لها في الحكومة، وحل المليشيات (وتقصد بها جيش المهدي) فيما لا إشارة الى الجماعات المسلّحة التي تزوّدها بالمال والرجال خلال مواسم الحج والزيارة وعبر الصناديق المقفلة أو الحقب اليدوية.

في الخامس والعشرين من أبريل الماضي أبدت الحكومة السعودية موقفاً مثيراً حين أعلنت من جانب واحد رفضها استقبال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قبل مؤتمر شرم الشيخ بمصر الذي انعقد في الثالث من مايو الحالي. وكانت السعودية قد منحت المالكي تأشيرة دخول بعد تأخير دام عدة إسابيع ما اعتبرته حكومة المالكي موقفاً سلبياً واستفزازياً، وكان المالكي قد قام بجولة زيارات الى كل من الكويت وعمان والامارات ومصر.

الموقف السعودي جاء على خلفية معارضة المالكي لبعض الجماعات السنية العراقية الحليفة للرياض والتي كانت الرياض قد طالبت بإدماجها في العملية السياسية، فيما تعتبر حكومة المالكي هذه الجماعات متورطة في أعمال عنف طائفية، الأمر الذي أثار حفيظة الرياض فأطلقت تصريحاً مثيراً على حكومة المالكي بأنها حكومة مشكوك فيها فيما فسّره موقف لاحق لمسؤول سعودي لم يذكر إسمه صرح لوكالة الأنباء الأمانية في أبريل الماضي أن حكومة المالكي تقدّم دعمها للشيعة.

ومن الواضح أن السعودية تحمل هواجس جمّة من العراق تفوق بمرات هواجسها القديمة وخصوصاً بعد أن تبدّلت معادلة الحكم، فهي الآن لا تريد أن تصل الفوضى الى درجة خطيرة بما لا يمكن السيطرة عليها، وهو ما حذّر منه رئيس الوزراء العراقي المالكي الذي ألقى بالمسؤولية على دول الجوار لدعم العملية السياسية في العراق كي لا تنتقل الفوضى الى أراضيها، كما لا ترغب الرياض في رؤية حرب أهلية تطيح النظام بصورة كاملة وتفتح الطريق أمام الجماعات المسلّحة للتحرك بسهولة بما يهدد أمنها الداخلي، وفي الوقت نفسه لا تريد أن تخلق الاوضاع المضطربة في العراق فرصة أمام تنامي النفوذ الايراني في العراق وهذا ما يفسر رفضها القاطع إنسحاب القوات الأميركية من العراق.

على أية حال، فإن العراقيين لا يكترثون بالموقف السعودي المتّسم بالأنانية وهم يمسكون بأدلة دامغة على تورّط مقاتلين سعوديين في الساحة العراقية. فقد وجّه عضو مجلس النواب العراقي سامي العسكري اتهاماً للسعودية بدعم الارهابيين الذين يسعون الى نسف العملية السياسية في العراق. وذكر العسكري، المقرّب من رئيس الوزراء نوري المالكي، بأن الحكومة السعودية تقدّم الدعم للفصائل الارهابية التي تسعى إلى نسف العملية السياسية في العراق.

وقال العسكري أن (لدى الحكومة العراقية معلومات أمنية تشير بشكل واضح الى أن هناك دعماً مالياً وسياسياً كبيراً من قبل الحكومة السعودية لكل من يستهدف نسف العملية السياسية في العراق، وبهذا فإن الموقف السعودي موقف سيء جداً). وأضاف (أن الكثير من الفصائل الإرهابية التي تقتل العراقيين تمويلها سعودي، وهذا التمويل يتم أمام أنظار المخابرات السعودية). ولفت العسكري الى (أن هناك ازدواجية فالقاعدة التي تنشط داخل السعودية تسمى مجموعات إرهابية تقتل وتعتقل ونفس هذه المجموعة ونفس هؤلاء الاشخاص حينما يقومون بعمليات داخل العراق يتحولون بقدرة قادر الى مجاهدين تدعمهم السعودية). وأشار العسكري الى (أن السعودية ماضية في مخطط لإسقاط الحكومة العراقية وإفشال العملية السياسية وهي تبذل ملايين الدولارات من اجل هذا العمل).

نشير الى أن المتحدّث بإسم البيت الأبيض توني سنو أقرّ في الأول من مايو بوجود خلافات بين الحكومتين العراقية والسعودية، غير أنه حثّ العاهل السعودى على دعم الحكومة العراقية، قائلا (إن ذلك سيصب فى المصلحة الوطنية السعودية على المدى البعيد).

مشكلة السعودية أن قيادتها تخضع تحت تأثير مصادر غير نزيهة في نقل المعلومات أو تعتمد على السوابق الذهنية التي تتوسل بها في توجيه سياساتها. فقد ذكر وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري لمقربين منه أنه التقى الملك عبد الله وكان يتحدّث أحياناً عن أرقام خيالية ومثيرة للسخرية كقوله بأن عدد الإيرانيين المتواجدين في العراق قد بلغ ستة ملايين وأن تحسين العلاقات بين بلاده والعراق مرهون بطرد هؤلاء من العراق.

وقد فسّر أحد المقرّبين من العائلة المالكة رفض الملك عبد الله استقبال رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي بأنه رسالة واضحة الى إيران، على أساس دعوى تفيد بأن المالكي يقوم بتعزيز نفوذ إيران في العراق، وهو ما يعكس التفكير النمطي السعودي الذي لا يخلو من استبطانات لا تستند على رؤية عميقة وقريبة من الواقع العراقي بما في ذلك الواقع الشيعي في العراق الذي يتمسك بموقف إستقلالي ليس عن إيران فحسب بل وعن العالم بأسره، وهو يعبّر عن الثقافة العراقية عموماً. وحتى لو صحّ هذا التفسير، فإن الموقف السلبي من حكومة المالكي يجعله أقرب الى طهران منه الى الرياض أو غيرها، ومن المعروف أن المالكي مازال مصرّاً على حل المليشيات المحسوبة على ايران، فيما تعتبر الأخيرة حكومة المالكي بأنها حكومة عميلة للأميركيين، وهو موقف قطاع كبير من الشيعة خارج العراق.

على أية حال، فإن التجاذب الدبلوماسي بين الحكومتين العراقية والسعودية والتي عبّرت عنها مناكفات متبادلة حيالة زيارة المالكي للرياض ضمن جولة خليجية وعربية، كان عبارة عن رأس قمة جبل الجليد، فقد تبيّن لاحقاً أن السعودية الى جانب تركيا وعدد من الحكومات العربية مثل مصر والاردن والإمارات بالتعاون مع أطراف عراقية وبصورة محددة بعثية كانت تخطط على مدار شهور من أجل إسقاط حكومة المالكي. وبحسب مصدر عراقي ذكر في الخامس من يونيو أن هذه الدول تخطط لتشكيل مجلس إنقاذ وطني يتكون من معارضين بعثيين من جبهة التوافق، والقائمة العراقية، وجبهة الحوار الوطني، وحزب الفضيلة، ومجموعة من الشخصيات الكردية المقرّبة من مسعود البرازاني الذي زار الرياض قبل عدة شهور، فيما تم إستبعاد القوى السياسية الشيعية الرئيسية مثل الائتلاف العراقي والتيار الصدري. وتقول المصادر بأن هذا المشروع بدت ملامحه في مؤتمر الشيخ في مصر في مارس الماضي. وكانت السعودية قد استقبلت رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي الذي يدير اوركسترا بعثية تحاول أن تحظى بدعم هذه الدول من أجل قلب نظام الحكم، عبر تقديم التسهيلات المادية والسياسية والإعلامية في دعم مجلس الإنقاذ السياسي وممارسة الضغط على الولايات المتحدة من أجل التخلي عن دعم الحكومة الحالية ونقل رهانها الى مجلس الانقاذ المدعوم عربياً. وكانت قوى سياسية مقرّبة من حكومة المالكي قد اتهمت الأمير بندر بن سلطان بدعم الجماعات المسلّحة من بينها (جيش الاسلام) الذي يضم عناصر بعثية وسلفية متشددة من أجل التخطيط لعمليات عسكرية ضد المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية العراقية.

بدوره هاجم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في السادس من يونيو (من يحاول التدخل في الشؤون الداخلية للعراق) في إشارة إلى الأطراف المشاركة في مشروع إطاحة الحكومة العراقية الحالية، كما ألمح الى دور أطراف عراقية من بينها إياد علاوي بقوله (لا عودة إلى أيام الجهل والتهميش والاستبداد ولا مجال أبداً للمؤامرات ولن نرضى إلا بما تفرزه الديمقراطية). وخاطب المالكي الدول المجاورة بما فيها السعودية (نقول للدول التي تدعمهم إن عراقاً موحّداً من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه في حكومة تشترك فيها كل مكونات الشعب من مصلحتنا ومصلحتهم، وإن العراق ينبغي أن يكون سيداً وشريكاً في الأمن القومي وليس في الأمن الوطني فحسب، ولن نسمح أن يتحول إلى منطقة نفوذ).

الصفحة السابقة