أنقذوا السمعة والأرواح معاً

فـضـائـح (الـمـجـاهـديـن!)

عمر المالكي

توصّل الأمير نايف وزير الداخلية أخيراً إلى أن المقاتلين السعوديين صيد غبي، فقد تحوّلوا إلى بضاعة رخيصة في سوق الموت السادي، فقيمة كل واحد منهم تقدّر بوزن حشوة تفجيرية، أو عبوة ناسفة. فهم معدّون للتفجير طالما أنهم مبلّغون في ديارهم بأن الجنّة أقرب إلى أحدهم من حبل الوريد.

الأمير نايف، الواقع تحت ضغوطات داخلية وخارجية، ذكّر جمعاً من أئمة المساجد والخطباء والوعّاظ في الخامس والعشرين من يونيو الماضي بأن أبناءهم معدّون للتفجير فقط، مستعيداً ما كانت تقارير صدرت قبل عامين تحدّثت عن سعوديين تمكّنوا من الفرار بجلودهم من (جنة) المقاومة العراقية البعثية القاعدية، بعد أن إكتشفوا بأنهم مصنّفون ضمن قائمة (العبوات البشرية)، وليسوا مقاتلين، وقد نشرت تصريحات بعضهم على شبكات الإنترنت.

في التاسع عشر من يونيو الماضي، تشققت قشرة تنظيم (فتح الاسلام) عن حقائق عنقودية مثيرة للإهتمام الإعلامي لبنانياً وعربياً ودولياً، فقد بدا الجميع أمام ظاهرة محيّرة، فثمة خزّان بشري ينفجر فجأة في مملكة آل سعود وتصل تموجّاته الى بقع متناثرة على خارطة جغرافية مفتوحة. الحيرة التي رافقت ظاهرة (فتح الاسلام) تكمن في المشاركة السلفية السعودية اللافتة، وهي مشاركة تفوق البعد العددي، بل الحيرة تكمن بدرجة أساسية في الحوافز الأيديولوجية التي حملها هؤلاء الذين حلموا بمشاريع موت من نوع خاص، موت لافت، موت مفزع، موت يبدّد أشلاءهم وأشلاء من يقعون ضمن دائرة القوة التفجيرية لأجسادهم المقنبلة.

يجهلون الخارطة الجغرافية، ومواقع القتال، وقد يضلّون الطريق الى ساحة القتال، فهم خرجوا ليموتوا وبأي طريقة طالما أن ثمة هاتفاً يخاطبهم بأن أفضل الموت القتل في ساحة الجهاد، ولكن أين؟ ليس مهماً، طالما أن الأعمال بالنيّات وإنما لكل إمريء ما نوى.. هذا هو نهج التلقين السلفي الجهادي، الذي يتحوّل الى أفضل طعم بيد محترفي السياسة، فقد وقع هؤلاء على كنز بشري ثمين لا يعوّض، فبهم يقاتلون خصومهم، طالما أن هناك من يريد بلا وعي (الشهادة في سبيل الله)! وأي جنة تلك التي تفتح أبوابها للأغبياء والبلهاء الذين يقرضون الأذكياء عقولهم ليشتروا به جنة وهمية، لم يعدّها الله للذين لا يعقلون، أو الذين خاضوا في الدماء البريئة والنفوس المعصومة بإسم التوبة الكاذبة من ماضٍ حافل بالمعاصي والآثام، وكأن الجنة ملاذ المجرمين. وقد أبلغت مصادر الجيش اللبناني بأن من هؤلاء التائبين قد وجد من يشرعن له استعمال مخدّر الأفيون مخلوطاً بالتمر، الذي عثر عليه بكميات في محاور القتال داخل مخيم نهر البارد.

خرجوا من ديارهم، على وقع تحريض من أعلى وأدنى، فواحد يقول لهم دونكم القوم الذين يتواطئون مع الصليبيين ليخرجوكم من دياركم، وآخر يزيّن لهم القتل والموت في طريق ذات الشوكة، وآخر يفتح لهم أبواب الجنان لتستقبلهم حور العين، فيكتشفوا فيما بعد أنهم قد أصيبوا في كرامتهم، وفي عقولهم، وأخيراً في أرواحهم، ولو كان المحرّضون صادقين فيما قالوا لكانوا أولى بالبروز الى مضاجعهم من أولئك الذين أغروهم بالهرولة الى الموت العبثي.

وفي تقديرنا أن ثمة فضيحة تنتظرنا في قادم الأيام، وسيكتشف الكبار قبل الصغار حجم الجريمة التي اقترفها السياسي والسلفي الجهادي حين أخرجا الشباب من بيوت آبائهم وأمهاتهم ليموتوا في (غزوات وهمية). فمهما رخصت أرواح هؤلاء الشباب فإن موتاً مهيناً سادياً وغبياً يصيب آباءهم في صميم كرامتهم، فهي ليست موتة كريمة، فهم ضحايا وعي مأزوم وفعل غير راشد.

وما جرى في العراق، ومواقع أخرى يتحوّل فيه الشباب السلفيون الى مجرد قنابل بشرية، يجري تكراره في لبنان المكشوف إعلامياً، وهناك تروى سيرة طويلة عن شباب لم يبلغوا الحلم السياسي، يطأون بأقدامهم أرضاً لا تعرفهم ولا يعرفونها، ودونما إدراك للمكان الذي يجبرون على خوض معاركه، والإنخراط في صفوف مقاتلين يلتقونهم لأول مرة، ويبايعون أميراً لا يحفظون ملامح وجهه، فضلاً عن سيرته الماضية.

نهر البارد: أحد روافد الوهابيين الى الجنّة!

أبلغوا قبل ساعة الصفر الجهادي بأن ثمة ساحة جديدة قد أينعت، وصدرت الأوامر بالإنتقال الى حيث يأمر صاحب الأمر الخفي قبل الظاهري. جاءوا تحت عنوان تشكيل خلايا جهادية عنوانها القاعدة التي باتت مظلّة مفتوحة الأبعاد، في حلقات تعقد بعضها بعضاً ويتيه الداخل فيها بوابة الخروج منها، فقد تعددت القواعد والموت واحد.

أموال طائلة، وتجهيزات الكترونية معقّدة، ومعدّات تقنية تشاهد لأول مرة في لبنان، كلها معطيات أثارت دهشة الأجهزة الأمنية وصعّدت فضولها الأمني للبحث عن خبايا أخرى قد تكون أشد خطورة، فهذه المعطيات لا شك أنها تتجاوز حجم خلية صغيرة مؤلفة من عدد قليل من العناصر، ولا شك أيضاً أن هذه الخلايا تحظى بدعم جهة ما محلية أو أجنبية تستهدف ما هو أكبر من تفجير هنا أو إغتيال هناك.

لقد حرّكت قصص المقاتلين السعوديين الأموات والأحياء في لبنان والعراق ومناطق أخرى من العالم مشاعر الشفقه المختلطة بإحساس متفجر بالكرامة المطعونة، فثمة ما أصاب الكرامة لدى القاطنين في البلد الذي ينتمي اليه المقاتلون، تدفع بهم لأن يغرقوا الفضاء العام بكمية هائلة من الاسئلة. فبين من تساءل عن: من أرسل السعوديين الى لبنان؟ فيما تساءل آخر عن صورة تشوّهت لبلد بقاطنيه بفعل ما أحدثته ساديّة المقاتلين وبساطة تفكيرهم. ففي مقالة بعنوان (صورتنا!!) نشرت في (الحياة) في 9 يوليو، تساءل جميل الذيابي: (لماذا يحاول الشباب السعودي تغيير العالم بالفكر الإرهابي المتطرف، ونشر الموت في كل أطرافه؟ لماذا يجبرون العالم على ألا يرى الشعب السعودي سوى أنهم أجساد قابلة للانفجار في كل مكان؟). ويعلّق على المشهد التشويهي بقوله: (أن هؤلاء الشباب الذين قُتلت أدمغتهم وجُمدت مشاعرهم الإنسانية وغُرر بهم، باتوا يمارسون القتل والتفجير والتدمير من حيث لا يعلمون، وهذه مصيبة أن تذهب العقول وتبقى الأجساد تحرق العالم.. وأنهم لا يزالون يشكلون صيداً سهلاً للمنظمات الإرهابية، ومورداً سخياً متجدداً لتزويد تلك المنظمات بالمتفجرين والمنتحرين في محارق الموت، فما المبرر لاستمرار تبني السعوديين للفكر الإرهابي المتطرف؟). ويحمّل الذيابي المؤسسات التربوية من مداس وجامعات في تحصين عقول الشباب ضد المتطرفين والإرهابيين وكذلك الآباء الذين لا يعلمون أين هم أبناؤهم، أو الذين يزيدونهم تشدداً وتحريضاً على الآخر، أو دور المسجد والخطب المتسامحة التي يجب أن تعظم من سلوك وشعيرة الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن. لا أعتقد أن هناك سعودياً يريد أن يكون معزولاً ومرفوضاً ومنبوذاً من العالم، لكن إذا لم نهب جميعاً من أجل تصحيح مسار شبابنا، ومساعدتهم لتغيير طرائق تفكيرهم، فستظل صورتنا ومكتسباتنا مهزوزة أمام العالم.

وفي مقالة بعنوان (أي إسلام يريدون له فتحاً) تساءل سعد عطية الغامدي في صحيفة (الوطن) في العاشر من يوليو: (هؤلاء الشباب الذين يخرجون من بين أهليهم ويتركون وراءهم آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم وربما أزواجهم وأطفالهم وتعليمهم الذي قطعوا فيه شوطاً بعيداً أو قريباً، هؤلاء ماذا يريدون من خروجهم هذا؟ وأي نفير يجيبونه؟ وأي هدف يضحون من أجله بكل شيء؟ وهل يدركون حقيقة ما يقومون به أم إنهم واقعون تحت تأثير مخدر فكري يعطل حاسة التمييز بين الحق والباطل والحسن والقبيح والمعروف والمنكر والجهاد السليم والجهاد السقيم؟ إنها أسئلة تستحق الوقوف عندها والبحث عن إجابات لها).

ويواصل الغامدي طرح مزيد من الأسئلة الحائرة: (من هم الذين يتربصون بهؤلاء الشباب ويغررون بهم ويحثونهم على الخروج إلى المجهول ومقارعة الخصوم الوهميين والانقطاع في الأرض تحت رايات لا يعرف هؤلاء الشباب من يرفعها ولماذا يرفعها؟ ولماذا لم يتم الكشف عن هؤلاء المجندين المجهولين وأساليبهم ممن تراجعوا بعد التغرير بهم وقد عرفوا أن الطريق كان خاطئاً والوجهة غير معروفة والجهاد مغشوشاً؟ أهي المواثيق والعهود؟ أم التهديد والوعيد؟ أم الجهل بالذي يجري حتى من الأطراف الوالغة في هذا السبيل؟).

الغامدي الذي ترك مساحة مفتوحة لإجابات يعجز عن تقديمها، كما هو شأن كثيرين أصيبوا بحيرة وضع إستثنائي لا يعرفون له بداية ولا يتوقّعون له نهاية سعيدة، فترك للمستقبل مهمة البوح عما يجري في الحاضر: (ربما تكشف الوثائق الغربية بعد عشرات السنين أسراراً نجهلها ويجهلها هؤلاء المغررون والمغرر بهم اليوم، ربما لا نعرف ولا يعرفون أن الشبكة أو الشبكات لها مفاتيحها وأزرار التحكم فيها هناك ولا يوجد هنا إلا المخدوعون الذين يحسبون أنهم يتقربون إلى الله سبحانه بما يقومون به، وربما تخدعهم التسهيلات التي يظنونها كرامات وعلامات تيسير فيغرقون أكثر في غياهب المجهول الذي يكشف عن جريمة جديدة ومعركة جديدة تفت من عضد الإسلام وتصيبه في مقتل).

ويطلق الغامدي مخياله المحفوف بشكوك حاضر يزداد غموضاً ولكنّه يجيش بعلامات إستفهام محشورة في ثنايا أمر جلل يكاد من فرط خطورته أن يعجّل بقذف ما فيه من حقائق نتنة: (حين تطرح وثائق المعلومات الغربية التابعة لأجهزة الإستخبارات في هذا البلد أو ذاك بعد عدد من السنين قد لا تقل عن الثلاثين يكتشف اللاحقون أن السابقين إنما كانوا مجموعة من الصغار يلعب بهم الكبار، وأن الهدف ضرب نظام أو مجموعة أو شخص أو دولة أو تنظيم وليس كما حسب المخدوعون أنها خدمة الإسلام وأنها نصرة المسلمين وأن العملية كلها ليست إلا فصلاً في مسرحية تتكرر ولكن المخرجين والممثلين والجمهور يتغيرون وتبقى القصة هي القصة وتظل القضية هي القضية).

ويعيد الغامدي طرح الأسئلة مجدداً، ليجعل الملف مفتوحاً بانتظار من يقفله على إجابات حاسمة: (ما الذي أخرج من هم دون الثانية أو الثالثة والعشرين من الرياض والمدينة والباحة وبيشة والأحساء وغيرها من مناطق المملكة حتى يقتلوا في مخيم لا يعرفون عنه شيئاً، بل ربما أن بعضهم لم يستخرج جواز سفر إلا من أجل رحلة الدفن في مقبرة جماعية لا يعلم عنه أحد ولا ينتظر عودته في أي وقت أحد، وما هي العقيدة التي عاهد عليها ربه سبحانه وتعالى حتى يعيش لأجلها منتصراً أو يموت في سبيلها محتسباً نفسه شهيداً، وما هي أدبيات هذا الخروج الهالك).

ويرسم الغامدي خطاً دقيقاً بين مشاريع الموت هؤلاء في مشاريع خارجية وبين المقاومين الحقيقيين: (قد يعذر الناس المقاومين المدافعين عن أوطانهم بل ربما وجدوا من كثيرين تعاطفاً وتأييداً وإكباراً لأنهم يواجهون غازياً، لكن الذهاب إلى غاية أخرى وتحت راية أخرى تجعله مهزوماً من اللحظة التي يعرف فيها أنه مغرر به، لكنه لا يجرؤ حينئذ على العودة وإعلان الخطأ والرجوع عن الحياة التي بنى عليها مستقبله، فيرضى حينذاك بأي مهمة في سبيل الحفاظ على توازن فكري في حده الأدنى).

وبالرغم من عدم وجود إجابة، يطلق الغامدي دعوة مفتوحة الى من يحمل قدراً من وعي وضمير: (وإلى أن يتم الكشف عن شبكة تجنيد الباحثين عن أي غزوة في أي مكان تحت أي راية، فإن على كل عاقل أن يسهم في تحقيق قدر من الانضباط بالإيضاح وبالسلوك الجميل وبالسعي في تحقيق مصالح الأمة من علم وعمل ومنافسة وتقوية جبهة داخلية ولا يتراجع مهما كان الخلل كبيراً والإحباطات عالية والفساد واسعاً، فإن ذلك أرحم بكثير من المجهول الذي يقود إليه مجهولون).

الصفحة السابقة