حين تفقد الأقلية الحاكمة توازنها!

محمد السباعي

الأقليات عامة تستشعر الخطر أكثر من غيرها. إنها تخاف على هويتها من الضياع، وعلى مصالحها من التذرّر، خاصة في ظل الأوضاع السياسية القاسية، وتأجج الهويّات الفرعية وتغلبها على الهوية الوطنية.

وبقدر ما ينطبق هذا القول على الأقليات عامة، فإنه ينطبق بصورة أخص على (الأقليات الحاكمة).. كما هو الحال بالنسبة للأقلية النجدية. فرغم سيطرتها على حكم السعودية ما يقارب من التسعة عقود بلا منازع أو منافس، إلا أن القلق والخوف على ما في اليد من مصالح وإمكانات وامتيازات كبيرٌ للغاية.

هناك خوف على الهوية النجدية من أن تذوب في الهوية السعودية (التي يحتمل أن يشترك فيها مواطنون آخرون معهم فيها)! وإن إضعاف العصبية النجدية/ الوهابية يعني إضعافاً للحزب الحاكم والأقلية المتغلّبة، التي لا همّ لها إلا تعزيز هويتها باستخدام أدوات الدولة لترجيحها وتوسعتها، وفي المقابل إضعاف الخصم من خلال إضعاف هويته، ونقصد بالخصم كل المواطنين غير النجديين والذين يمثلون أكثرية تزيد على 75% من السكان.

الحفاظ على الهوية النجدية وتدمير الآخر وعدم الإعتراف به جزء من الصراع السياسي المحلي. وهو الذي أفضى الى عدم تبلور الهوية السعودية بسبب مدخلاتها النجدية الفاقعة، وبالتالي رفضها من الأطراف الأخرى وعدم تجذرها في نفوسهم.

والأقلية الحاكمة في نجد لديها شيء كثير لتخسره، إنه الحكم والسيطرة والإشباع المعنوي والمادي، وبالتالي فإن تمسكها بهويتها أقوى بكثير من تمسك الآخرين من المواطنين بهوياتهم، فهؤلاء الأخيرون يتشبثون بهوياتهم (دفاعاً) والأولون النجديون يتمسكون بها (هجوماً). الأخيرون يخشون الضياع والحرمان، والأولون لا يقبلون حتى مجرد مبدأ تقاسم السلطة والثروة والإشتراك في بناء محتوى الهوية السعودية ثقافياً. الأخيرون يستخدمون هويتهم لصدّ تغوّل الهوية النجدية المسيطرة على الدولة، والأولون النجديون يتشبثون بهويتهم كيما تستمر السياسة القديمة منذ نحو قرن على حالها: أقلية حاكمة مستمتعة بخيرات الدولة، والآخرون متفرجون لا ينالهم سوى الفتات.

إن عدم قبول النجديين بالتعدد والمشاركة ومبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، جعل نخبتهم تعيش هواجس وقلقاً غير محدود كلما لاحت أزمة محلية أو إقليمية، أو تحركت جماعة محلية مطالبة بحقوقها، فينتابها شعور (قد يكون طبيعياً لمثل حالتهم) بأن العالم كله يتآمر عليهم، الى حد عدم التمييز بين الصديق والعدو والمنافس، وبين المواطن وغير المواطن، وبين من يحمل السلاح ومن لا حيلة له سوى الكلمة.

في قرارة العقل النجدي/ الوهابي يعشعش شعور بأن أميركا تريد استبدال عرشهم وتقسيم ملكهم! مع أن أميركا لن تجد لها حليفاً محلياً وإقليمياً بعد إسرائيل أفضل من آل سعود على الإطلاق!

الشيعة المحليون ينظر اليهم كعدو، وكذلك الإسماعيليون، والسنّة الاخرون، والصوفيون، والقبليون المتحدرون من مناطق غير نجدية.

فالشيعة متآمرون مع إيران ومع أميركا!

والحجازيون متآمرون مع الشيعة ومع مصر والصليبيين!

وهكذا!

لا أحد لا يتآمر عليهم، وحس المؤامرة المغالى فيه في العالم العربي، تجده أشد وضوحاً لدى النجديين/ الوهابيين.

فسوريا ضدهم! وهي لم تكن كذلك، ولا هي كذلك، بل العكس هو الصحيح.

وإيران ضدهم، مع أنهم أضروا إيران أكثر من أي أحد آخر بدعمهم الحرب ضدها والتآمر عليها.

والشيعة في المنطقة العربية ضدها، مع أن حزب الله لم يحرك ساكناً وليس من سياسته أصلاً مواجهة الأنظمة العربية واستفزازها خاصة السعودية. ومع ذلك تجد الإعلام السعودي كله الخارجي والداخلي ـ خاصة في هذه الأيام ـ يوجه سهامه للحزب ويحط من شأنه وكأن هناك معركة يجب أن تستكمل أو يبدأ بها. والشيعة في العراق ضحايا الوهابية ولم يظهر منهم رد فعل بمستوى الضرر حتى الآن، بل هم يريدون علاقة حسنة مع السعودية!

واليمن ضدهم.. زيدية كانوا أو شافعية. وعمان الأباضية ضدهم، وقطر كذلك كما هو واضح في مقولاتهم، ومصر التي احتلت ديار نجد في القرن التاسع عشر لا تزال في المخيال النجدي خطراً كبيراً، وليس منافساً سياسياً أو حليفاً استراتيجياً في هذه الأيام.

من بقي من الكون لا يُنظر اليه كعدو محلياً أو خارجياً؟!

القلة ربما.

لكن تضخم الخطر يعكس الحالة النفسية التي عليها الطبقة الحاكمة. وعلى الوهابيين أن يطمئنوا قليلاً على الأقل، فالدولة لاتزال كلها بيدهم سلاحاً ومالاً وقيادة ومذهباً وإعلاماً!

نعلم أن هذا لن يحل قلقهم. لأن القلق لا يزول إلا أن تقف الأقلية الحاكمة على أرض صلبة، ولا توجد أرض صلبة مادام الوضع الداخلي مفككاً بسبب الإستئثار بكامل السلطة.

نعلم أيضاً أن الحلول المقدّمة لآل سعود والنخبة النجدية لا تعجبهم، فإما أن يحتفظوا بالسلطة ويتعايشوا مع القلق! الذي هو مؤسس على أسباب موضوعية قابلة للتطور، بحيث أن الإحتفاظ بكامل السلطة يعني مغامرة كبيرة قد تؤدي الى خسارتها كاملة أيضاً. وإما أن يعيدوا توزيع السلطة بحيث يجد الآخرون المهمشون من الأكثرية مبرراً للبقاء تحت حكم آل سعود ونجد.

ومع ان الخيار الأول هو السائد، إلا أن بعض المفكرين النجديين يعتقدون بأن استقرار الدولة واستقرار نظام الحكم يكمن في الخيار الثاني.

الخيار الثاني تم القضاء عليه بتآمر بين المؤسسة الدينية الوهابية والجناح السديري. فلا إصلاح ولا تعديل ولا تراجع عن سياسة الماضي. ولا توجد سوى العصا لدعاة الإصلاح.

إذن، وحتى إشعار آخر، على الأقلية النجدية أن تعيش هواجسها الى جانب تمتعها بالسلطة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا!

الصفحة السابقة