إبعاده صار أمراً لازماً

حتى لا يورطنا بندر في مشاكل وحروب عبثيّة

ناصر عنقاوي

السياسة السعودية وهي في قمة غضبها (هادئة) على السطح.

بندر آل بوش: آن له أن يرحل

بلد لا يبحث عن مشاكل (في الغالب) وإن كانت له طموحات ويدخل ضمن لعبة الكبار كجزء مما يعتقد قادته أنها (واجبات) التحالف مع أميركا والغرب عامة.

الحرب ضد الإتحاد السوفياتي مثال على ما نقول. كان هناك خلاف أيديولوجي، وكان هناك صراع دولي وجدت السعودية نفسها شريكاً فيه، وكان هناك خطر على النظام من الحركات الداخلية التي كانت تميل الى القومية/ اليسارية.

هذا متفهم الى حد ما. لكن ـ حينها ـ لم يكن متفهماً أن يكون السعوديون ـ القادة، ملكيون أكثر من الملك نفسه. أي أنهم ذهبوا في عدائهم للإتحاد السوفياتي بعيداً أكثر من أميركا والغرب. ولا أدلك على ذلك وجود علاقات دبلوماسية بين دول الغرب عامة مع موسكو، بعكس السعودية. بل أن السعوديين كانت لهم علاقات مع الإتحاد السوفياتي ورثوها من الشريف حسين، وبقيت العلاقات قائمة حتى أواخر الثلاثينيات الميلادية، مع ملاحظة أن الإتحاد السوفياتي لم يتورط في مواجهة مباشرة مع السعودية، ولم يظهر منه في أي يوم أن له ضلع في تخريب الوضع الداخلي السعودي. ولم تقم العلاقات مع موسكو إلا بعد سقوط الإتحاد السوفياتي.

الأكثر من هذا ان السعوديين لم تكن لهم علاقات مع الصين (لأنها شيوعية هي الأخرى!) وذلك حتى الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، ولم تفتح العلاقات إلا بصفقة غبيّة أقامها بندر تضمنت شراء صواريخ بعيدة المدى سميت (رياح الشرق) وصارت خردة الآن، تمّ على إثرها اقامة العلاقة بين البلدين وسحب الإعتراف السعودي الدبلوماسي بتايوان (مع بقاء العلاقات الإقتصادية).

في جزء آخر من النشاط السعودي الذي كان محوره مكافحة الشيوعية، كانت السعودية تسعى لتغيير توجهات الأنظمة العربية والإسلامية وليس إسقاطها. من الأمثلة أنهم حوّلوا السادات الى أميركا عبر كمال أدهم، وحوّلوا سياد بري والصومال من المعسكر الشرقي الى الغربي، فورث الأميركيون القواعد العسكرية السوفياتية هناك. بيد أن السعوديين دعموا الأنظمة الصديقة للغرب أمام كل حركات المعارضة في أفريقيا وآسيا، بل أنهم دعموا الأحزاب اليمينية في أوروبا مقابل الأحزاب اليسارية، كما كانت الحالة في إيطاليا وفرنسا بالذات نكاية بالحزبين الشيوعيين القويين فيهما.

ومع ان السياسة الخارجية السعودية لم تكن تخلو من شطحات عديدة، ووجدت نفسها في اصطفاف مع أطراف لا ترغب فيها، كما هو الحال مع شاه إيران، بل أنها تورطت عميقاً في بعض الأحيان مثلما هو الحال في اليمن حين دبرت اغتيال الرئيسين إبراهيم الحمدي، والغشمي.. لكنها مع هذا كله لم تتخل عن الظهور بمظهر (المصلح) (المعتدل) (الباحث عن إجماع) (المتمسك بمبادئ الوحدة العربية والإسلامية) (المكافح للعقائد الدخيلة/ الشيوعية) (المساعد للمحتاجين) الخ.

وحين اضطرت السعودية الى الإنكفاء على ذاتها في بداية التسعينيات الميلادية، أي عقب غزو صدام للكويت، وذلك لاعتبارات داخلية ولهول الصدمة التي واجهت آل سعود بأن من منحوهم الدعم دولاً وحركات وقفوا ضدهم حين احتاجوا الى الإصطفاف ضد صدام حسين في غزوه. تلك الصدمة، مع ما رافقها من أزمات داخلية سياسية واقتصادية وأمنية، جعلت السعوديين زاهدين في ممارسة دور محوري في المنطقة، ودخلت السعودية مرحلة سبات طويلة استمرت الى ما قبل عام واحد فقط أي لعام 2006، وبالتحديد في صيف ذلك العام حين اندلعت الحرب بين اسرائيل وحزب الله.

السعوديون تستهويهم دائماً الصفقات السياسية التي تجري تحت الطاولة، ويصيبهم الجنون أحياناً حين يتضخم الخطر في أذهانهم، ولا نظن أن مرحلة عصيبة مرت بها السعودية كما هي عليها الحال الآن، حيث تدار السياسة الخارجية على نحو من (العمى المطلق).

دبابات اسرائيلية تحترق: انتصار أثار السعودية

الحقبة البندرية

ما لذي تغيّر، وأين كانت الإنعطافة؟.

كأن السعودية صحت على زلزال هجوم إسرائيل على لبنان. لم تصح لتمارس دوراً إيجابياً بعد سبات طويل. لم يستفزّها الهجوم الإسرائيلي بقدر ما استفزّها (حزب الله) نفسه. الحكاية باختصار هي أن السعودية اعتبرت ما جرى في لبنان تخطيطاً يصب في المصلحة الإيرانية ـ السورية، وأن دور إيران بدأ بالتضخم على حسابها هي ومصر والأردن. ومنذئذ افتتحت المعركة مرة ضد (المتطرفين) أنظمة وحركات، ومرة أخرى ضد (الشيعة) وافتعال حرب طائفية مساحتها العالم كلّه.

التخطيط لهذا التوجه المفاجئ جاء على يد بندر بن سلطان. لقد كان هو الوجه الأبرز في البيان السعودي المعطوب الذي هاجم فيه حزب الله وحركة حماس، في وقت كانت فيه إسرائيل تقصف بلا هوادة الضاحية والمدن والقرى الجنوبية، وفي وقت كانت فيه غزة تعيش حمامات دم متواصلة فيما كانت الأنظار تتجه الى لبنان.

نتذكر الآن حديث السعودية عن (المغامرة) و (المغامرين) خاصة وأننا نعيش ذكرى الحرب الأولى. وليت الأمر وقف عند مجرد الإمتعاض من حزب الله، ومطالبته بخلع أشواكه بيده، وليت الأمر وقف عند سحب التأييد السياسي منه بل وصل الى التحريض العنيف ضده، السياسي والطائفي. بل أن بندر هو من أبلغ أولمرت ومسؤولين سياسيين اسرائيليين وأميركيين آخرين بأن لا توقف اسرائيل الحرب ضد لبنان قبل خلع مخالب وأسنان حزب الله، في وقت كانت في الماكنة الإعلامية السعودية تضخ مقالات الكراهية والتحريض الطائفي على نحو غير مسبوق إلا في الثمانينيات الميلادية حين غزا صدام حسين إيران ووقفت السعودية وأميركا معه.

بندر رجل الصفقات السرية، يعجبه التكتم، وكذلك الإشارة اليه في ذات الوقت بأنه الطباخ الماهر للسياسة السعودية.

وبندر رجل مغامر بكل ما في الكلمة من معنى. رجل يعتقد أنه أحد اللاعبين الأساس في تغيير مجرى الكون (وليس السعودية) فقط. وهو رجل أرعن لا يميل الى الذرائعية بالمعنى المتعارف عليه، بل هو يصدمك بعنجهية الإعتراف المباشر. المثل الواضح هنا قوله حول صفقات الفساد: ?tahW oS إن كان الفساد السعودي قد ابتلع خمسين ملياراً من الدولارات مقابل 300 مليار ذهبت الى التنمية؟! منطق غريب وعجيب يقال على الملأ بلا خجل.

بندر إذن كان يقود السياسة الخارجية السعودية، في وقت لم يكن فيه الملك عبدالله يعي ما يصنع ولا له إلمام بالألاعيب، وقد كان ضحية التضليل السياسي دائماً والتي اعتاد ممارستها الفريق السديري الحاكم.

السعودية منذ الصيف الماضي وبرأس حربتها بندر ومعه الأكثر صهينة وأمركة بين الأمراء والنخب السعودية النجدية، شقت لها طريقاً غير مسبوق في نشاطها السياسي الخارجي.

إنه طريق المصادمة، والدخول في ألاعيب أكثر قذارة مما كان. طريق يطيح بأنظمة عربية حليفة كانت بالأمس. طريق يعبده الدم، وتتغير فيه التحالفات، فتصبح إسرائيل أقرب بكثير من إيران والعراق، ويصبح مقياس النجاح السعودي أميركياً ـ إسرائيلياً بامتياز.

سعود الفيصل: العودة الى نهج الإعتدال

لكن هذه الطريق التي انعطف اليها السعوديون خطرة للغاية. فأن تقف مع اسرائيل ضد حزب الله لأنه (شيعي) (وعميل إيراني) قد يهضمه العقل السلفي الوهابي النجدي، لكن لا يقبل به السعوديون الآخرون وهم الأكثرية، ولا يقبل به العرب أيضاً.

وأن تشتم حزب الله أمر، وأن تخنق حماس وشعب فلسطين في الضفة والقطاع أمرٌ آخر، لا يقبل به حتى السلفي السعودي.

إذا كانت موازين القوى قد خدمت السعودية في رهانها على الصراع الدولي بين الروس والأميركان أثناء الحرب الباردة، فإن رهان السعوديين على الأميركان والإسرائيليين هذه المرة خاسر جداً. فهو لا يخدم السعودية واستقرارها، وينتقص من شرعية النظام، ويدفعه لخسارة كبيرة من سمعته بين المسلمين.

أن تكون في جبهة مواجهة للشيوعية، يختلف تماماً أن تقف مع اسرائيل والأردن ومصر ومن وراء الجميع أميركا في (حلف المعتدلين) لمواجهة إيران وسوريا وحماس وحزب الله. فالأخيرون هم الحصان الرابح كما هو المؤشر السياسي اليوم.

كيف سمح لبندر أن يدخل المملكة في حالة من الإستقطاب في العالم العربي والمنطقة عموماً، وهو استقطاب مكلف للسعودية وليس فيه سوى الضرر؟

لماذا أُطيح بمنجز العلاقات الإيرانية ـ السعودية، لتكون السعودية ضحية لحرب تعدّ لها أميركا؟

لماذا تخسر السعودية سوريا الى حد محاولة اسقاط نظامها؟

ولماذا يدفع بسعد الحريري لمواجهة الأكثرية الشيعية والمسيحية في لبنان، في وقت ليس له معين إلا أقلية درزية لم تكن صديقة يوماً للسعودية؟

ولماذا تخسر السعودية أكثرية الفلسطينيين الذين أعطوا صوتهم لحماس فتدعم أبا مازن وجماعته الفاسدة والفاشلة وربما العميلة أيضاً؟

ولماذا تخطط السعودية لإعادة عقارب الساعة الى الوراء في العراق، بعد أن صمتت عن الإحتلال ووفرت له قواعد الإنطلاق من السعودية نفسها؟

ولمصلحة من تضحي السعودية بمكانتها في العالم الإسلامي وهي التي بنتها طوال عهد فيصل وشطر من عهد فهد.

إن هذا انقلاب في السياسة الخارجية السعودية، يحلو للبعض من مثقفي وأمراء السلطه اعتباره منجزاً، وكأن السعودية خرجت من شرنقة علاقاتها القديمة، ودخلت (العالم الجديد)!

السياسة الداخلية هي التي بحاجة الى انقلاب حقيقي، أما السياسة الخارجية فكلها خسائر متراكمة، وبقدر ما يخسر الأميركيون يخسر السعوديون. وهذا جزاء من يربط نفسه بالحصان الخاسر.

لا يجب أن يجرّ بندر المملكة لتصبح برغياً صغيراً في ماكنة أميركية حربية مجرمة، بلا فائدة سوى توتير الوضع مع الأصدقاء والحلفاء والجيران.

ومع تمخض نتائج حرب تموز، وفشل مخططات السعودية في العراق ولبنان، بل وارتدادها عليها، كما في مسألة فتح الإسلام، على الملك عبدالله أن يعيد النظر في السياسة الخارجية، فيكفي الى هذا الحد من التورط، وآن الأوان أن يحجّم بندر وطريقته في تحالفاته مع أولمرت وتشيني. أما الإستمرار في ذات النهج، فإن السعودية في المحصلة لن تكسب أميركا، وستخسر تحالفاتها المحلية والإقليمية الأخرى.

لعل هذه الدعوة تجد لها أذنا تعقل!

الصفحة السابقة