قبل الانسحاب من العراق

الرياض تتخذ إلى واشنطن مآبا

نـاصـر عـنـقـاوي

صفقة التسلح التي عقدتها واشنطن مع دول الخليج، وفي المقدمة منها السعودية بقيمة 20 مليار دولار تمثل إستعلاناً للنوايا المبيْتة منذ شهور التجاذب في المنطقة، على خلفية الملف النووي الايراني، والمأزق الأميركي في العراق، وانتصار المقاومة في لبنان، وإخفاق مشروع (الاعتدال) العربي الممثل في السعودية وعدد من دول الخليج إضافة الى مصر والإردن.

النار السعودية تحرق العراق

لقد بات واضحاً بأن الرياض دخلت بصورة عملية في المشروع الأميركي الإسرائيلي في المنطقة سواء تحت عنوان الحرب على إيران، أو مشروع السلام بالشروط الاميركية ـ الاسرائيلية في الشرق الأوسط، أو حتى في مواجهة تداعيات انتصار المقاومة في لبنان. ومن وجهة نظر الداعية الاسلامي الدكتور فتحي يكن، بأن هذا التسلح هو وقود لحرب مذهبية في المنطقة.

فقدت السعودية بقية المكنون في القدرة على الاستقلال النسبي عن خط السير الاميركي، وهي اليوم تمارس عملياً الدور المرسوم لها أميركياً واسرائيلياً، ويقود الأمير بندر منذ عودته من عودته سفيراً في واشنطن وتسلّمه منصب رئاسة مجلس الأمن القومي وهو يدير بعقلية أميركية محض السياسة الخارجية السعودية التي باتت مرهونة لتقلبات سريعة ومخيفة ليس على مستوى المنطقة بل وعلى مستقبل العائلة المالكة التي بات بعض أمرائها يفشون لبعض مقربيهم خوفهم من مغامرات الأمير بندر الذي يقولون عنه بأنه إن نجح في إسداء خدمات للادارة الأميركية حصل من ورائها على سمعة سياسية فريدة، فإنه منذ عودته الى الديار لم يثبت أنه كفوء بدرجة كافية في إدارة أي من الملفات السياسية الحساسة في المنطقة، بل هناك من يخشى من أن تجاوزاته لتقاليد الحكم في المملكة وطموحه المتفجّر قد يودي بحتف الدولة.

وينظر كثيرون الى أن كارثة محققة تنتظر العائلة المالكة، خصوصاً حين تجتمع الرياض وتل أبيب في معسكر واحد ليس ضد إيران فحسب بل وضد قضايا المنطقة المصيرية منها والمشروعة كحق مقاومة العدوان، وحق العودة الى فلسطين بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، والإستقلال عن الهيمنة الاميركية، والتي تناضل قوى الممانعة التي تحظى بقاعدة شعبية عريضة على امتداد الوطن العربي والاسلامي من أجل جعلها واقعاً خصوصاً بعد أن أثبتت هذه القوى أن الاستقلال ممكنٌ جداً بل هناك من جعله حقيقة واقعة.. بلا ريب ستفقد الرياض المخزون الديني وربما سيؤدي إنغماسها الأميركي والإسرائيلي إلى نضوبه، كما فقدت الوظيفة القومية وستكون مجرد (دولة عميلة) بكل مافي التوصيف من معنى.. فهذا الانشعاب في الصورة يأتي في ظل تنامي قوة إتجاه الممانعة في مقابل إتجاه المساومة والاستسلام في المنطقة، وفيما يحظى إتجاه الممانعة بقاعدة شعبية تتسع بوتيرة متسارعة، فإن ظل قوى الاستسلام ينحسر على وجه عاجل.

زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس ووزير الدفاع روبرت غيتس الى الرياض بعد القاهرة ـ شرم الشيخ، ترسم معالم المعسكر المتواطىء/ المسمى أميركياً بالمعتدل، ولن تنسى شعوب المنطقة فيما لو اندلعت حرب مدّمرة أخرى في المنطقة سواء ضد إيران أو سوريا أو أي من قوى الممانعة في الشرق الأوسط بأن السعودية شريك كامل في الجريمة، كما كانت في تموز من العام الماضي شريكاً كاملاً، وأن دور (التطبيب) أو (التعويض) السياسي والاقتصادي اللاحقين لأي حرب مدّمرة لن يغيّر من حقيقة أن السعودية باتت ورقة للاستعمال والإبتزاز من قبل الأميركي والاسرائيلي في كل جرائم الحرب التي يقوم بها الأخيران.

وستجد السعودية نفسها وحيدة في نهاية المطاف، وكما أهدرت الثروة الوطنية في صفقات تسلّح مجنونة وطائشة طمعاً في شراء مواقف سياسية، أو تعزيز تحالف إستراتيجي مع الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة، أو اقتطاع عمولات مليارية على غرار عمولات اليمامة ذائعة النهب، فإنها ستهدر المال العام والصورة المزعومة لكاريزما كاريكاتورية لملك لم يعد يملك حتى من أمره شيئاً.

لقد قال الرئيس الاميركي جورج بوش ذات حديث مع المشاركين في مؤتمر براغ حول الديمقراطية في العالم في يونيو الماضي بأنه لا يعوّل على عبد الله، الكبير في السن، وكأن ينتظر من يأتي بعده من الجيل الأميركي كامل الدسم. ويبدو أن عبد الله قد تبلغ بأن الأميركي يطلب منه أكثر من مجرد مشي في الطريق الأميركي بل هرولة نحو مشروع شرق أوسط جديد يراهن الأميركي والاسرائيلي أن يكون للسعودية دور في تسويقه، وإن كان ذلك يتم على حساب رصيده المعنوي والسياسي الذي يصل الى أدنى مستوى له منذ عقود.

وفيما يبدو، فقد أثبت الملك عبد الله بأنه أميركي بامتياز، ولم يظهر هذا الملك حتى اللحظة ما يمكن وصفه (إستقلالاً) أو (إعتراضاً) للتوجّه السياسي الأميركي سوى تلك (الخربشات) الناعمة التي يتحدث كثيرون عنها بأنها تمثّل أحد التوجّهات المستوعبة أميركياً كما في دعم جماعات مسلّحة داخل العراق والتي تمّت في بعض الحالات بالتنسيق مع الأميركي نفسه، وكذلك دعم مسلّحي جماعة (فتح الاسلام) وغيرها من الوجودات الفطرية التي ولدت على حين غرّة لأغراض مشبوهة وأجندة باتت معروفة.

لقد باتت المعادلة حالياً تقضي بأن التماهي السعودي مع الموقف الأميركي ـ الاسرائيلي يعني إنقساماً داخلياً وإقليمياً، لأن أميركا أصبحت مصدر تشظي وعامل تمزيق سياسي على قاعدة مذهبية أو قومية على المستويين الاقليمي والدولي. لقد حذّرنا سابقاً من (الفتنة المذهبية) الأميركية وقد لعبت وسائل إعلام سعودية دوراً مركزياً في هذه الفتنة، ما جعلها طرفاً مباشراً فيها، تلبية لأغراض مشتركة.

وسائل الاعلام السعودية في الخارج، ونخص بالذكر قناة (العربية) الفضائية، وصحيفة (الشرق الأوسط) والى حد كبير صحيفة (الحياة) تمثّل قنوات تعبير للتوجّه الأميركي سعودياً. وسنجد من السهولة بمكان برامج ذات مضمون جدلي وخلافي في قضايا الأمة، يظهر في التعريض المباشر والموتور غالباً من قوى ودول الممانعة في المنطقة.

وسائل الاعلام هذه باتت تقف مع كل ما هو أميركياً، وضد كل ماهو عربياً أصيلاً ومقاوماً، ما يجعلها أدوات حرب أميركية واسرائيلية على الأمة.

وقد أثبتت السعودية مرة تلو أخرى، أنها ضعيفة، خائفة، خانعة ولا تعيش على إمكانياتها الذاتية، بل ولا تريد أن تثمّر إمكانياتها، إن وجدت، بسبب خوفها من قوة الداخل التي قد تصبح وبالاً عليها لا حقاً، من وجهة نظرها يصبح الوبال هو المشاركة السياسية الشعبية، وتوسيع قاعدة صنع القرار، ووضع آليات لحكم القانون، واستقلال القضاء، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، ووقف هدر المال العام من قبل الأمراء النافذين، ولذلك فهي تكفل وتؤمّن وجودها واستمرارها (وليس استقرارها) عبر تعميق التحالف الاستراتيجي مع واشنطن والغرب عموماً، حتى وإن تطلب الأمر أن تكون جزءً من مشروع أميركي ـ صهيوني، بل وإن تطلب الأمر التعريض بالإستقرار الداخلي طالما أنه لا يمسّ وجود العائلة المالكة واستمرارها في الحكم.

التسليح ..العودة من الباب الخلفي

دول الخليج، والسعودية بوجه خاص، أصبحت مراكز تخزين أسلحة وقواعد عسكرية متقدّمة أميركياً، ومعسكر تدريب لجنود الأميركيين، بجانب كونها مصادر الطاقة الحيوية والاستراتيجية للغرب.

والسؤال هنا: هل أن صفقات الأسلحة بهذا الحجم غير المسبوق في ظرف بالغ الحساسية، يمثل ضريبة أو متطلب الانسحاب الأميركي من العراق، حيث يقتضى (تسليح) الحلفاء بكمية كبيرة من الاسلحة للدولة العبرية والدول المعتدلة أميركياً وهي دول باتت خائفة من المستقبل في حال قررت القوات الأميركية سحب ذيولها من العراق وربما كان شرطاً عبرياً وعربياً معتدلاً لأن توفّر واشنطن مصادر حماية لحلفائها قبل قرار الانسحاب من العراق، حتى لا تكون لقمة سائغة، كما قال الملك فهد ذات حرب حين اجتاحت قوات النظام العراقي السابق الكويت في الثاني من آب/أغسطس 1990، والتزمت الرياض حينذاك الصمت مدة ثلاثة أيام الى أن وصلت القوات الأميركية الى الأراضي السعودية حين أطلق الملك فهد تصريحاً عنترياً متأخراً (أن المملكة لن تكون لقمة سائغة..).

صفقات الاسلحة ستكون بوابة العودة للقوات الأميركية الى السعودية وإقامة مراكز عسكرية جديدة في المنطقة بدلاً من العراق التي تحوّلت الى (مفرمة) للقوات الأميركية فضلاً عن مئات الألوف من المدنيين العراقيين الذين ماتوا على يد مسلّحين عبثيين بعثيين وتكفيريين ساديين بفعل الإخفاق الاميركي في ضبط الأمن والاستقرار في هذا البلد المكلوم.

عودة القوات العسكرية الأميركية الى السعودية ستكون هذه المرة بطلب من الأخيرة، التي تشعر بالتهديد من ايران والعراق وقوى الممانعة في المنطقة، وهذا يعيد إحياء أسس عدم الاستقرار مجدداً، حيث توفّر مبررات جديدة للتطرف خصوصاً مع تخلي واشنطن عن فكرة نشر الديمقراطية في الشرق الاوسط، وخصوصاً الدول الحليفة لها.

قررت الرياض إعادة فتح سفارتها في بغداد، وهي خطوة جاءت مفاجئة، بل وقد تلّقت الرياض تعليمات أميركية بتعزيز العملية السياسية في العراق، عقب تصريحات لسفير واشنطن في مجلس الأمن والسفير السابق في بغداد زلماي خليل زاد الذي إتهم فيه الرياض بأنها تقوّض العملية السياسية وتسهم في تخريب الاوضاع الأمنية.

لاشك أن قرارات كبيرة، كانت الرياض ترفض فيما مضى صنعها حتى لا تقدّم إعترافاً مجانياً بالحكومة العراقية الجديدة وحتى تضمن حصّتها في الكعكعة العراقية قد تعني بأن ثمة ما يلفت الى أن الرياض باتت اليوم بحاجة الى (تشبيك) العلاقات الإقليمية دون الإتكّال نهائياً على الحماية الأميركية. ولأن واشنطن لا تريد الانسحاب من العراق تحت عنوان الهزيمة، فقد طلبت من حلفائها تقديم كل الدعم لمشروع الدولة العراقية وعدم القيام بأية أعمال قد تفسّر بأنها تعزيز مفهوم (الهزيمة) الأميركية في العراق. وكانت المقايضة بأن تقدّم الرياض دعماً سياسياً لحكومة المالكي وأمنياً عبر إيقاف تدفّق مواطنيها الى العراق، على أن تحصل في المقابل على حماية أميركية من أية تطوّرات في المنطقة قد تطرأ على وقع التصعيد العسكري والأمني بين واشنطن وطهران.

لم يعد هناك حديث عن مشروع (دمقرطة) الشرق الأوسط، بل الحديث منصباً حالياً على (عسكرة) الشرق الأوسط تقوم بها الادارة الاميركية لتبرير فشلها في المنطقة عموماً، فقد باتت المصالح وليس المبادىء هي القانون. ولكن ألا تخشى أن يكون هذا السلاح وبالاً على واشنطن كما كان في ايران بعد سقوط الشاه العام 1979 وهو ما حذّر منه الديمقراطيون في الولايات المتحدة؟

الصفحة السابقة