الغياب.. التخريب.. الاستتباع

إيقاع الدور السعودي المرتبك

أبدى مراقبون غربيون في الشهور الماضية إستغرابهم من غياب دور سعودي فاعل في الشأن العراقي، فيما كانت دول الجوار تبدي إهتماماً خاصاً للحيلولة دون استفراد الولايات المتحدة وبريطانيا بالملف العراقي، الذي قد يتحوّل الى ورقة إبتزاز ضد دول الجوار. اكتفت الرياض بلعب دور خلفي، فيما سمحت لمقاتليها بنقل جهادهم الى العراق لجهة درء أخطارهم المحلية، وكذلك تقديم تسهيلات مالية لجماعات مسلّحة كشفت التقارير الأمنية أن أمراء في العائلة المالكة كانوا ومازالوا ينسّقون مع مجموعات عراقية وتكفيرية تقوم بتفجيرات شبه يومية في أماكن عامة، وتودي بحياة العشرات من الأبرياء.

في المستوى السياسي، لم تبدِ الرياض ما يشير الى دور حقيقي في الشأن العراقي، سوى ما نشر من تصريحات للملك عبد الله حول اعتراضه على التدخل الإيراني، واستعداد بلاده للتدخل عسكرياً في حال قررت الولايات المتحدة الإنسحاب من العراق من أجل حماية (السنّة)، أو ما نشر مؤخراً عن مخطط واسع تشارك فيه السعودية وعدد من الدول العربية المعتدلة يستهدف إطاحة حكومة المالكي. وبحسب مصادر عراقية مقرّبة من الأخيرة، أن الأمير سعود الفيصل طلب من وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس في زيارتها الأخيرة الى المنطقة برفقة وزير الدفاع روبرت غيتس التفكير جديّاً في خيار بديل عن حكومة المالكي، وأن المملكة على استعداد لدعم حكومة يقودها إياد علاّوي. وبالرغم مما قيل عن أخذ رايس المقترح السعودي على محمل الجد، فإن واشنطن التي نجحت مع لندن في استصدار قرار من مجلس الأمن من أجل رفع مستوى دور الأمم المتحدة في العراق لم تعد قادرة على تخريب العملية السياسية القائمة رغم كل عللها، وأن التدابير التي اتخذتها بصورة متسلسلة، بدءً من التنسيق مع ايران وسوريا في الموضوع العراقي، وانتهاءً بطلب دول الجوار مجتمعة دعم حكومة المالكي والتنسيق معها تلفت الى أن واشنطن تريد مخرجاً آمناً من الورطة العراقية.

وهكذا، بدأ الدور السعودي في الملف العراقي من الغياب شبه التام سياسياً لمدة ثلاثة أعوام تخللتها تبرّمات من وقوع العراق تحت النفوذ الإيراني، وعدم رعاية واشنطن لما تعتبره الرياض حقاً حصرّياً لها، وهي التي دعمت النظام العراقي السابق طيلة ثمان سنوات في حربه ضد إيران، ما يجعلها في موقع متقدّم في الترتيبات السياسية داخل العراق. ثم لما قرّرت العودة الى العراق، جاءت إليه بمخطط تخريبي يستهدف تقويض العملية السياسية القائمة، وهو ما تنبّه إليه العراقيون الذين انتفضوا ضدها، وكان دور فتاوى التكفير الصادرة من علماء في المؤسسة الدينية الرسمية شديد الإضرار بصورة السعودية في الداخل العراقي، وزادها تشويهاً ضلوع الأمير بندر بن سلطان في دعم جماعات مسلّحة بعثية وتكفيرية ترمي إلى إشعال فتنة مذهبية واسعة تأتي على العملية السياسية والمجتمع العراقي برمته. وفيما يبدو، فإن هذا الدور التخريبي لم يأت ثماره وإن لا تزال تحلم العائلة المالكة بنجاحه وستشتغل عليه بطرق أخرى، ولكنها قبلت راهناً بالواقع، الذي عجز الأميركيون عن إبداله، فطلبت من حلفائها قبوله ودعمه في سياق محاولة عدم (تقديم العراق هدية لإيران) كما عبّر عبد الرحمن الراشد ذات مرّة. لم يحضر ممثل سعودي الى دمشق لبحث الملف العراقي، وكان ذلك إعتراضاً على دمشق وليس بغداد، وهو يأتي في سياق معركة الرياض ودمشق في لبنان، ولكن الرياض لن تستطيع إعادة عقارب الساعة العراقية الى الوراء، بعد أن عجزت واشنطن نفسها عن فعل ذلك، ولابد لها إن أرادت الانتقال الى مرحلة جديدة في العلاقة مع العراق الجديد، أن تبحث عن مواقع لها ضمن القوى الجديدة التي تمسك بالمعادلة السياسية العراقية. فصنع الخصومة مع العراق الجديد سيسري من القمة الى القاعدة، وإذا كان للمقاتلين التكفيريين دور تقويضي الآن، فإن المستقبل لا يرتهن الى ماضي القوة، بقدر ما يرتهن الى القوة المتجددة التي مازال العراق يحتفظ بها، وخصوصاً مع التحالف شبه الاستراتيجي بين القوتين الفاعلتين على الساحة العراقية: الشيعة والأكراد.

لبنانياً، خسرت السعودية بعد رحيل رجلها القوي رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وحمّلت سوريا مسؤولية خسارة دورها، ومنذاك وهي تسعى الى تقوية حكومة السنيورة، وجاءت حرب يوليو العام الماضي فأطلقت بياناً عاريّاً وظّفته الدولة العبرية في عدوانها على لبنان، ولم تفلح مبادراتها اللاحقة في تحسين صورتها، فقد تطاول عليها حتى من يصنّفوا داخل دائرة الحلفاء مثل سمير جعجع ووليد جنبلاط، وأن رجلها المصطنع سعد الحريري لم ينجح في امتلاك زمام المبادرة، فقد ظل أسير الموقف الأميركي والفرنسي.

اللقاء اللبناني في الضاحية الفرنسية (سان كلو)، ثم إعلان الإدارة الامريكية عن جولة جديدة للمفاوضات مع ايران بشأن الوضع في العراق، وموجة التفاؤل بمؤتمر دولي للسلام التي جاءت من أطراف بينها رئيس الوزراء الاسرائيلي أولمرت الذي أعطى حواراً نادراً مع قناة (العربية) السعودية، وتصريحات الرئيس بوش، وخطاب الرئيس بشار الأسد، كل ذلك يؤشر إلى أن معادلة دولية يجري صياغتها وسط غياب أبرز اللاعبين العرب.

في الجانب الفرنسي، تستعد إدارة ساركوزي لنفض غبار المرحلة الشيراكية التي كبّلتها وعزلتها عن المنطقة، بعد إنحيازها لسياسة الولايات المتحدة تجاه لبنان خصوصاً. ساركوزي الأشد ميلاً للولايات المتحدة، وجد أن سلفه شيراك قد عزل فرنسا عن التأثير في واحدة من أهم قضاياها التقليدية وهي لبنان، وبدا كحليفه توني بلير الذي ألحق سياسة بلاده في الشرق الأوسط بالعسكرتارية الأمريكية. يريد ساركوزي أن يعيد ضبط قواعد اللعبة من جديد، وهو يعلم أنه لا يمكن أن يتحرك دون مراعاة اللاعبين الاقليميين الأبرز في المعادلة اللبنانية، سوريا وإيران، وفي حين وجد طريقاً ممهداً للتفاهم مع الإيرانيين، فهو أيضاً لم يغفل إرسال مندوبه (جان كلود كوسران) في أول إتصال رفيع المستوي بين الإداره الفرنسيه والقياده السورية.

وتسعى فرنسا لإشراك السوريين في الحديث عن لبنان، وقضايا المنطقة، مثلما تسعى الولايات المتحدة لضمان خروج مشرّف لقواتها من العراق، عبر الحد الممكن من التدخلات الايرانية. وقد وجدنا أن التيار الصدري أحد أبرز حلفاء إيران في العراق، أعلن عن عودته للحياة السياسية في وقت متزامن مع إعلان الطرفين الإيراني والأمريكي عن حوار مرتقب، لقد كان لدى الايرانيين دائماً ما يقدمونه، بينما يتلكأ السعوديون في تقديم حلول أو حتى الاقرار بوجود مشكلة مع العراق.

الوفد الأمني العراقي الذي زار المملكة الشهر الفائت، وبعد لقاءات مطولة قدّم خلالها كشوفات بأسماء إنتحاريين وجهاديين سعوديين في العراق، وأسماء ممولين لهذه العمليات، لم يجد آذاناً صاغية، فقد أجهض جناح أساسي في البيت السعودي الوصول لإتفاق، كان هذا الجناح يمثله الأمير المثير للجدل بندر بن سلطان الأمين العام لمجلس الأمن القومي.

ظل الأمير بندر اللاعب الأبرز في السياسة الخارجية السعودية، ويشتكي رجال وزارة الخارجية وبينهم وزيرها الأطول فترة في وزارة الخارجية على مستوى العالم، والذي يعاني من أمراض في جهازه العصبي، يشتكون من تدخلات الأمير بندر بن سلطان، وقدم شقيق وزير الخارجية، الامير تركي الفيصل استقالته كسفير في واشنطن بعد أن وجد نفسه مهمّشاً من قبل إبن عمه الامير بندر.

يملك الأمير بندر قدرة فائقة على التعطيل، وفي الرياض يقولون أن هذا الرجل يختطف السياسة الخارجية السعودية، ويلحقها بالمشروع اليميني الامريكي، بعد أن التقى عدة مرات رئيس الوزراء الاسرائيلي أولمرت في عمان، وينتشر رجاله في لبنان ليمثلوا قوة رديفة للدور الذي يلعبه السفير عبد العزيز خوجة، الذي هو الآخر يجد نفسه محشوراً بالدور الأبرز الذي يلعبه بندر في القضية اللبنانية، وخاصة بعد افتضاح الدور الذي لعبه مع حلفائه في تعزيز القوة الأيديولوجية والمالية والتسليحية لجماعة فتح الاسلام، وتسهيل مرور مقاتلين سعوديين الى مخيم نهر البارد، وقبل ذلك تأجيج الصراعات المذهبية في لبنان وفي العالم العربي، بغرض الانتقام من المقاومة اللبنانية وإضعاف تأثيرها بعد حرب تموز 2006.

لقد لخص الامير السعودي الدور السياسي لبلاده باعتباره مكمّلاً للدور الأمريكي في قضايا لبنان والعراق وفلسطين، وفي ظل الاخفاقات المتكررة لهذه السياسة وإعتمادها على التدخلات العسكرية، واستخدام القوة المفرطة لفرض سيطرتها لم تتمكن السياسة السعودية أن تنجح في النأي بنفسها عن التخبط الامريكي، وظلّت تحاجج باستمرار بأن مناطق نفوذها تتعرض للتهديد من اللاعب الايراني المتحفز، ولكنها لم تفعل شيئاً ذا بال.

في الموضوع اللبناني أيضاً، وبعد أن قررت الوقوف في الصف الاسرائيلي ضمن بيان صاغه بندر بن سلطان رأى فيه تحت القصف الاسرائيلي أن حزب الله وحده يتحمل نتيجة المغامرة بخطف الجنديين الاسرائيليين، لم تتمكن بعد ذلك من موازنة دورها بالرغم من النداءات المتكررة للرئيس نبيه بري الذي دعا السعوديين لأخذ زمام المبادرة، لأن الحليف الأمريكي لم يكن مقتنعاً بأهمية الوفاق الداخلي. في ذات الوقت استمر بندر في لعب سياسة التأزيم، عبر موقفه من تنمية جماعة فتح الاسلام والتيارات الاصولية في لبنان، بدعوى تسليحها بوجه تعاظم الدور الذي يلعبه حزب الله.

وفي الموضوع العراقي، ظلت السعودية تغلق الباب بوجه الحكومة العراقية، وفشلت في إحداث إختراق حقيقي يمثله تكتل موالٍ لها يرأسه رئيس الوزراء السابق الدكتور اياد علاوي، لقد نفض الأكراد أيديهم من هذا المشروع، ومثلهم فعل الحزب الاسلامي، وظل تأثير السعودية محصوراً بجماعات دينية طائفية وزعماء عشائريين وبعثيين يقيمون في عمّان.

وبضغط امريكي استقبلت السعودية وفداً أمنياً بعد أن قال الرئيس بوش عقب إتصاله برئيس الوزراء المالكي أنه لا يملك لدول أن تدعي أنها (حليفة) للولايات المتحدة وتستمر في زعزعة الامن واضعاف الحكومة المنتخبة.

أما في فلسطين، فقد أصيب السعوديين بالذهول وهم يجدون ان إتفاق مكة الذي رعوه ينهار بين أيديهم ولا يمكنهم فعل شيء، ولم يتمكنوا حتى من توجيه الاتهام لا لفتح ولا لحماس، لانهم يجدون الحلفاء الامريكيين يدّمرون مشروع التوافق، ويشعلون الحرب بين الطرفين، تمهيداً لتعزيز الانقسام والتفتيت الذي يبشرون به.

وسط ذلك يستمر السعوديون في نقد المشروع الايراني، والسياسة الايرانية التوسعية، والدور المتنامي لجارتهم الشرقية، والخطر الايراني الذي يهدد مناطق نفوذهم.. وفي العمق هناك إعجاب بالقدرة الايرانية على السباحة في المحيطات الهادرة.

لم يفعل السعوديون شيئاً منذ أول انتقاد لتعاظم الدور الايراني، لم يفعلوا شيئاً لانتشال ما تبقى لهم، استمروا في عزل أنفسهم عن التأثير في الشأن العراقي، عبر إنكفائهم تحت دواعي طائفية من الإنفتاح على الأطراف العراقية، وللعلم فإن عشرين دولة اوروبية وآسيوية لها ممثليات وسفارات في العراق ليس بينها السعودية، وبلغ حجم التبادل التجاري بين الكويت والعراق سبعة أضعاف ما عليه مع السعودية.

إستمر السعوديون في مقاطعتهم المدفوعة أمريكياً مع دمشق، ولم يحدث تغيير يعتد به لدورهم في لبنان، فلا زالوا يراهنون على فريق سياسي واحد، بعد ان كانت السعودية تحاول أن ترعى الوفاق اللبناني الجامع، مما جعلها مجرد طرف في الصراع السياسي في لبنان. لم تستطع الرياض كبح الاندفاع الهائج لوسائل إعلامها التي تتلقى تعليمات من مندوبي بندر بن سلطان لمهاجمة حزب الله وانصاره، حتى وصل الأمر بتعزيز الدعاية لإسرائيل عبر حوار مع أولمرت وعرض صور المقاتلين الأسرى لحزب الله في قناة سعودية، ولا كبح جماح الفتاوى التي بدأت في منتصف تموز 2006 حين افتى مرجع سعودي بارز هو الشيخ عبد الله بن جبرين بحرمة الدعاء لصالح حزب الله في مقاومته لإسرائيل، بل الدعاء أن ينصر الله اسرائيل في تدمير الحزب الرافضي. كانت هذه الفتاوى هي الوقود الايديولوجي الذي دفع بنحو 300 مقاتل سعودي من الاصوليين الانتحاريين للسفر الى لبنان ليس لكي يقاتلوا إسرائيل، ولكن ليقاتلوا الشيعة وحزب الله هناك.

ولا يختلف إثنان، أن الدور السعودي يحتاج الى ترميم، ولعل أبرز الخطوات التي يمكن للملك عبد الله القيام بها، هو تغيير وزير الخارجية الامير سعود الفيصل، وتقليص صلاحيات الامير بندر بن سلطان خاصة بعد ظهور دوره في عمولات صفقة اليمامة، لكن أحداً من المراقبين لا يتوقع خطوات فعلية في هذا الاتجاه بعد أن عجزت الادارة التي يرأسها الملك في إعلان حكومة جديدة كان وعد بها، بعد إختلاف الأطراف حول شخصيات الوزراء الجدد.. في ظل هذا العجز في السياسة السعودية الخارجية، لن ينفع القاء اللوم على ما يفعله الايرانيون أو غيرهم، فمن حق ايران أن تلعب فيما يضمن مصالحها القومية، وليس من المجدي الاستمرار في توجيه اللوم دون فعل شيء، أو الإكتفاء بمشاريع هامشية وتسويقية وغير ذات جدوى مثل رعاية مصالحة بين تشاد والسودان قال القذافي وحسني مبارك أنها لم تات بجديد سوى التقاط الصور.. لأن الطرفين وقعا بالفعل الاتفاق نفسه مسبقاً في طرابلس!

الصفحة السابقة