الـد ولـة المـتـغـطرسـة

الحكومات، كما الأفراد العاديين من بني البشر، قد تصاب بمرض وهم العظمة والقوة كـ (الهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد)، بحيث تتعامل مع ما حولها من مستوى يفوق إمكانياتها الحقيقية. نكتة هنا قطعت حبل الكلام: يقال بأن الديك أخذ حبة فياغرا فجاء يتمطى نافشاً ريشه فاقتربت منه الدجاجة، فقال لها: إبعدي عني، أين البقرة؟.

حكومة بلادنا، التي تفتقر الى كل أشكال القوة باستثناء ما أجاد الله به على أرضه من نعمة البترول، تكاد تقدّم نفسها وكأنها حكومة الحكماء والبلغاء والعباقرة والجنرالات وروّاد الفضاء. مع أنها تعي تماماً بأن لا شيء من ذلك له نصيب من الحقيقة الممكنة ولا من الواقع الفعلي. ولم يخطر على قلب بشر أن تقدّم حكومة بهذه المواصفات منجزات إستثنائية في مستوى التعليم (يكفينا ترتيب ما قبل الأخير على مستوى 3 آلاف جامعة في العالم)، ولا على مستوى التنمية الاقتصادية (الدين العام مازال فلكياً، والبطالة تفصح عنها شكاوى الشباب وانتشار الجريمة والسرقة وقد بلغت نسبة 30 بالمئة، والمستوى المعيشي ينبىء عنه غلاء الأسعار وضجيج الفقراء والمعدمين)، أما على مستوى المشاركة السياسية والحريات العامة وحقوق الانسان فنحيل القراء الى عرائض الاصلاحيين بدءً من يناير 2003 الى سبتمبر 2007، فكلّها تدور حول أزمة إحتكار السلطة من قبل فئة جعلت مال الله دولا وعباده خولا، فهي فئة تملك وتحكم وتقضي وتشرّع، فكل السلطات بيدها، وكل مصادر القوة بقبضتها، وهي إنما تفعل ذلك لاعتقاد منها بأن ما تملكه حقاً لها وحدها لا شريك معها ولا نظير لها بين خلق الله، فقد خلقها الله كي تحكم، فهي تذّكرنا بمقولة (ظل الله في الأرض)، تلك المؤسسة للحكم الثيوقراطي بنزعته الشوفينية.

غطرسة الأمراء، ونادراً ما يخرق أحدهم القاعدة، يكفلها المال، وحين تصبح ذات اليد قاصرة عن شراء الولاءات، والأصوات يصبح للأمراء موقف آخر. على مستوى الداخل، كمثال، لحظنا بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 أن ارتخاءً غير مسبوق عاشته البلاد، لأسباب عدة: قلة المال، وهجمة الغرب والولايات المتحدة على العائلة المالكة لتورّط رعاياها في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ومن ثم التحوّلات الاقليمية الدراماتيكية (احتلال افغانستان في 2002، والعراق في 2003).

بدت العائلة المالكة آنذاك وديعة، يتخطّفها الخوف من الانهيار من كل جانب، وفي تلك الأجواء العصيبة على الأمراء تشققت قشرة العائلة عن مولود جديد إسمه الإصلاح السياسي، فحمله عبد الله وقدّم نفسه أباً له، ونادى أخوة الإصلاح وأقرباءه وقال لهم بلسان غير فصيح: إني أب لكم ومشروعكم هو مشروعي، وأنتم جنودي في الحرب من أجل الإصلاح.

بدأت الصحافة تتحدث عن الاصلاح السياسي ومن أي باب ندخله أو ندخل عليه، وتنادى الإصلاحيون لإطلاق ورشة عمل من أجل إعداد خطة متكاملة تعين الأب الاصلاحي على تحقيق حلمه والانتصار في حربه من أجل الإصلاح، وانعقدت جلسات الحوار الوطني (قبل أن يكون التراب مثواه، والمجهول مأواه).

ولكن، هذا التواضع الذي أبدته العائلة المالكة حتى منتصف 2004، ما لبث أن إنقلب فجأة الى غطرسة مطعّمة بغريزة الثأر، وكأنها تريد التكفير عن ذنب التواضع، لاعتقادها بأنها منحت من لا يستحق، وتواضعت الى من ليسوا سواء معها في المنزلة. أسباب تجدد الغطرسة أيضاً معلومة: إرتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، إحتواء السخط الأميركي والأوروبي عن طريق حملة علاقات عامة واسعة، وإبرام الصفقات العسكرية الفلكية (التي أماتت الى أجل غير مسمى دعوة الدمقرطة لدى بوش وأجداده)، وتوجيه ضربات قاصمة للجماعات المسلّحة في الداخل، بعد أن نجحت وزارة الداخلية بالتعاون مع رجال الدين بإخراج المقاتلين من ديارهم تحت ذريعة أن العراق هي دار الحرب والجهاد حالياً!

ومنذ شعرت العائلة المالكة بالثقة، وبدأ المال النفطي يتدفق عليها مجدداً، أصبح التوظيف السياسي ممكناً، وغذّت معها تلك الغطرسة الطائشة، فقد تبرأ الأب من إبنه، ونفي أي صلة تربطه به، وأنه لم يسمع في يوم ما بـ (الإصلاح)، وأن ما درج عليه هو (تطوير)، وأدخل الجنود ـ الإصلاحيون المعتقل، ومنعوا من السفر، وحرموا من حق العمل وحرية التعبير، وأوقفت أوركسترا الحوار الوطني ألحانها الكئيبة، واستأنفت الداخلية رسائلها الشفهية الى الصحافيين والكتاب تذكّرهم بالخطوط الحمراء، وتنذرهم بأصناف شتى من العقاب.

وللغطرسة وجه خارجي أيضاً، فالأمراء تصرّفوا على مستوى العالم العربي وكأنهم أولياء أمور العرب، يأمرون وينهون، وإذا ما خالفوهم فهم يغضبون (بل ويتآمرون أيضاً). تقدّموا بمبادرة سلام (كي لا نقول إستسلام)، وأرادوا أن يحملوا العرب جميعاً على القبول بها، وكأن نساء العرب عقمت عن أن تلد حكماء من غير هذه العائلة.

فوجئنا مرات عدة كيف يتصرف الأمراء مع المسؤولين العرب، فصاروا يقررون متى يستقبلون ومتى يطردون، ولعلها الحكومة الوحيدة التي تبوح بقرارات رفض إستقبال الرؤساء والوزراء العرب، وهو تصرّف يعدم اللياقة والذوق، خصوصاً بالنسبة لعائلة تزعم بأنها تعتنق القيم البدوية والعربية الأصيلة، وتفاخر في التزامها بكرم الضيافة وحسن الوفادة. فخلال أقل من سنة رفض الملك عبد الله إستقبال ثلاثة رؤوساء عرب (المالكي، والأسد، وعباس)، ونقض الأمراء إتفاقات مع أربع حكومات عربية وإقليمية، دون مبررات واضحة.

أين كان الأمراء حين تفرّق الجمع عنهم وولوا الدبر، وأين كانوا حين لم يجدوا معيناً لهم سوى شعبهم وأشقائهم شريطة أن تصحح مسارها كي لا تقع في الخطأ ثانية وحتى لا تخضع لابتزاز الحليف اللدود وغير الودود.. ولكن الغطرسة داء مزمن ولا دواء له سوى مواجهة المصير.

الصفحة السابقة