اليوم الوطني السعودي

لم يكن وطنياً ولا عيداً ولا مناسبة فرح!

عبد الوهاب فقي


يا له من احتفال باليوم الوطني!

الثالث والعشرون من سبتمبر من كل عام ميلادي.. يومٌ لا يحفظه ولا يتذكّره المواطنون المسعودون، كونهم لا يتعاطون بالتاريخ الميلادي، وإنما بالتاريخ الهجري.

في كلّ وثائق الدولة الرسمية، لا يتعاطى بالتاريخ الميلادي، بل ولا بالحروف الإنجليزية، حتى أرقام السيارات لاتزال تستخدم الحروف العربية، الأمر الذي يوقع الكثير من المواطنين في مشاكل إن هم استخدموا سياراتهم في السفر الى دول غير عربية: تركيا مثلاً!

لماذا اعتماد التاريخ الميلادي في المناسبة الوطنية؟

لأنّ أصل الإحتفال باليوم الوطني أو ما كان يراد تسميته بـ (العيد الوطني) كان مخصصاً للخارج، أو كان المستهدف به البعثات الدبلوماسية الأجنبية في الداخل السعودي. فالإحتفال باليوم الوطني، يوم توحيد المملكة، لم يُنظر إليه في الأساس كشأن وطني، وإنما كمناسبة دبلوماسية رسمية احتفائية تتردد بعض أصدائها في سفارات السعودية القليلة يومها في الخارج، خاصة تلك التي في لندن والقاهرة. وليس من المنطقي طالما ان المستهدفين هم من الأجانب في الأساس اعتماد التاريخ الهجري المتقلّب كل عام. ولذا جرى تثبيت الإحتفال يوم الثالث والعشرين من سبتمبر من كل عام.

أراد الملك عبدالعزيز ـ وبتوجيه من طاقم مستشاريه الأجانب ـ الإحتفال بذكرى يوبيله الفضي!، فصرخ المشايخ بوجهه مستنكرين العمل الشرير، فانصاع وألغى الإحتفال.

وأراد الإحتفال بذكرى توحيد مملكته، تحت مسمى العيد الوطني، كما هو في كل بلدان الدنيا، فقال له مشايخه الوهابيون: ليس هناك سوى عيد الفطر وعيد الأضحى وما دونهما بدعة وضلالة!

هنا تفتّقت عبقريته! أو عبقرية أحد مستشاريه، فغيّر الإسم الى (اليوم الوطني) بدل (العيد الوطني) وأمر بأن يحتفى بذلك اليوم لدى السلك الدبلوماسي وفي السفارات السعودية في الخارج فحسب. أما الداخل فمشغول بـ (عبادة الملك) بصورة أخرى! وأما الوطن فهو مجرد (وثن) والوطنية هي (وثنية) كما نظّر بعض مشايخ الوهابية، فالوطن لا يعدو مجرد قطعة أرض لا تستحق أن يتوحد قاطنوها على أساسها، وإنما التوحد يكون على أساس (التوحيد) بنسخته وتعريفه حسب التوجيه الأيديولوجي الوهابي.

وهكذا كان.

بقي الوطن هملاً، وبقي الإحتفاء بالوحدة الوطنية حتى في ظاهرها الشكلي أمراً زائداً عن الحاجة.

كان الأمراء السعوديون يميلون الى أن ولاء المواطنين يجب أن يتجه اليهم، وكان شركاؤهم من مشايخ الوهابية يرون أن الولاء يجب أن يتوجه اليهم باعتبارهم حماة الدين والفضيلة، وأنهم من يمثل الإسلام الصحيح.

وبين هذا وذاك ضاعت (روح الوحدة) وانشغل اللاعبون النجديون الأساسيون بتقاسم السلطة والعبث بها وبخيراتها، معتمدين على مبدأ أن الأقلية الحاكمة لا تحتاج الى وطنية حقيقية، لأنها تعني مساواتية في الحقوق والواجبات لا يؤمنون بها ولا يريدونها، وكان المتسلطون يرون بأن الأكثرية المهملة والمهمشة في الحياة السياسة والإجتماعية وغيرها لاتزال نائمة، وأن الحس الوطني قد يخلق متاعب جمّة لآل سعود وشركائهم الوهابيين، الذين يرون بأن (وحدة السلطة) لا تتحق إلا بـ (تفكيك المجتمع) وبالتالي فإن المطلوب ليس بث روح وطنية بقدر ما يحتاج الأمر الى غلالة شفافة من الربط الصوري بين السكان، الذين يوحدهم (جامع) عبوديتهم لآل سعود، وطاعتهم لمشايخ الوهابية، وكلا الطرفين لا يمثلان إلا أقليّة.

لهذا لم يكن اليوم الوطني معروفاً للمواطنين أبداً.

في اليوم الوطني، ويا للغرابة، تمنح الشركات الأجنبية ـ تفضلا منها ـ موظفيها عطلة رسمية، في حين أن الدولة المسعودة، دولة التوحيد والوحدة!، لا تمنح مواطنيها ولا موظفيها يوم عطلة، وهذا وحده يكفي لإثبات مدى اهتمام الحكومة بموضوع الوحدة الوطنية، وخلق ثقافة وطنية، وحس وطني يجمع سكان المملكة متعددي الثقافة والأقاليم والمذاهب.

(اليوم الوطني) هو المناسبة الوطنية الوحيدة التي تتحدث عنها السعودية. ولكن الاحتفال به يجري في السفارات فقط، ولدى السلك الدبلوماسي في جدة سابقاً والرياض حالياً. أما المواطن، فتمر عليه المناسبة دون أن يشعر، لأن تأرختها ميلادية، ولأن لا احتفالات تصاحبها، ولأن الإعلام السعودي والصحافة منبوذان لا يتطلع اليهما إلا القلة، ولأن البرامج التي تأتي بالمناسبة تافهة وضعيفة، لا تشكل تميّزاً عن الأيام العادية!

زد على ذلك، فإن الروح الوطنية والوحدة الوطنية لا قيمة كبيرة لهما في دولة تقرّ التمييز شبه العلني بين مواطنيها على اساس المنطقة والقبيلة والمذهب.

لا قيمة لليوم الوطني في ظل سياسة رسمية تحابي أقلية شعارها: تنجيد الدولة وتوهيب الدين!

لا قيمة لـ (وطنية) أو (وحدة) قامت في الأساس على السيف، وعلى إلغاء الآخر، وعلى الإحتكار السياسي والمذهبي والإقتصادي.

لا قيمة ليوم وطني في دولة تعتمد تدرج المواطنة بحيث تفرغها من مضمونها على أرض الواقع.

بزلزال 11/9، صحا الأمراء السعوديون على خطر قريب. فالمملكة المحكومة بالقوة والعنف والإستئثار، أصبحت مستهدفة في وحدتها. لا يقال هذا مثلاً عن مصر أو سوريا، لأن العدو يعرف أن نقطة ضعف آل سعود تكمن في تمزيقهم للنسيج الإجتماعي على أسس غير وطنية، وبالتالي فإن الوحدة التي ابتنيت إنما هي وحدة هشة لأقاليم لاتزال تتمسك بثقافتها وانتماءاتها الخاصة التي تعلو الإنتماء الوطني (السعودي المزعوم).

صحا الأمراء على حقيقة أن مملكتهم! قابلة للتفكك الى أجزائها التاريخية، لأنهم لم يبتنوا وحدة حقيقية، بل قاموا بتسويد منطقة أقلية سكانية على مناطق أخرى، ومذهب أقلية فوق مذاهب أخرى، وعززوا خصوصية تلك المنطقة لتدمّر خصوصيات المناطق الأخرى. لم يكن انحياز آل سعود لعصبية وطنية، بقدر ما كان انحيازهم لفئوية فاقعة اللون متعددة الآثام.

حين بدا أنهم قد صحوا، كان المطلوب عملاً إصلاحياً لا شكلياً. كان المطلوب إصلاحات سياسية ودينية وقضائية وإعلامية واقتصادية على الأرض تعطي مصداقية لأي شعار وطني يرفع.

لكن آل سعود لا يريدون شيئاً من هذا. كل ما كانوا يريدونه هو إبقاء خيط رفيع يجمع السكان، يسمونه حسّاً وطنياً، ولكنه في واقعه حسّاً جمعياً بالعبودية لآل سعود وشركائهم الوهابيين.

أسهل أمر كان أمامهم، رفع طابع (التحريم والتجريم) للفظة! مثل الوطنية والوحدة الوطنية، وبقوا خمسة أعوام بعد أحداث سبتمبر (من 2001 وحتى 2006) يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، حتى طلعوا علينا في سبتمبر من العام الماضي بإقرار إجازة لمدة يوم بمناسبة (اليوم الوطني)!

رخيصة هي الوطنية، ورخيص هو ذلك اليوم الذي استعبد فيه آل سعود سكان الجزيرة العربية!

أمرٌ غريب أن يعرف العالم أن السعودية ومنذ قيامها لم تحتفل باليوم الوطني شعبياً حتى الآن!

وأمرٌ غريب أن يعرف العالم أنه في الثالث والعشرين من سبتمبر الماضي يكون قد مضى عامان فقط على منح المواطنين عطلة رسمية بمناسبة اليوم الوطني العتيد.

في العام الماضي، صادف اليوم الوطني الجمعة، وهو يوم عطلة، ولكن أبت وطنية آل سعود إلا أن تمنح المواطنين يوم عطلة، فجعلوا يوم السبت التالي عطلة للمواطنين!

إن تقوية الحس الوطني في المملكة يتطلب سياسات وليس شعارات.

الوحدة الوطنية لا تبنيها أيد تمزّق المواطنين على أساس مناطقي وقبلي ومذهبي.

والوحدة الوطنية نقيض للممارسات الوهابية التي تعزز الشروخ الإجتماعية، الى حد يمكن القول بأن السلطات المتزايدة التي تعطى للمؤسسة الدينية تناقض في الصميم مفهوم الوحدة الوطنية والثقافة والحس الوطنيين.

الوحدة الوطنية ليست شعاراً محلقاً في السماء، بل ممارسة على الأرض.

الفرد الذي يعامل كعبد لا يمكن أن يكون وطنياً ولا مدافعاً عن وطن. فالعبيد لا يحمون الأوطان.

والفرد الذي يعامل كمواطن من الدرجة الثانية او الثالثة أو السادسة، حسب التقسيمات المناطقية والهاتفية!، لا يمكن أن يعني له الإحتفال باليوم الوطني سوى أنه يوم عطلة أو حسب التعبير الشائع: (شعرة من جلد الخنزير فائدة)!

لم يظهر احتفال شعبي واحد تلقائي في مدينة سعودية بمناسبة اليوم الوطني المبجل!

نعم حفزت اجراءات أمانة الرياض على الإحتفال ورأت نصب بعض اليافطات واستخدام الأضواء، ووزعت صور الملك والعلم السعودي، ولكن النتيجة أن الشباب الذي يعيش أزمة قمع رأى استثمار المناسبة بطريقة مختلفة لا إبالية، لا علاقة لها باليوم الوطني، ومع هذا راحت الصحافة السعودية تمجد (الجماهير الهادرة!) التي خرجت تحتفي باليوم العتيد.

مشايخ الوهابية لم يكتبوا كلمة واحدة عن اليوم الوطني، وفي ذلك دلالة واضحة على أن الوطنية لاتزال رجساً من عمل الشيطان لديهم، وأن الوطنية تمثل المسمار الذي يدق نعش احتكارهم تمثيل مجتمع لا يراهم أهلاً لتمثيله!

من يريد حماية المملكة من التفكك، عليه أن يعود الى جذور الأزمة، عليه أن يبني ثقافة وطنية، ويمارس سياسة وطنية، ويعامل المواطنين بالسواسية في الحقوق والواجبات.. وعليه أن يتخذ قراراً بالإصلاح السياسي يمنع احتكار السلطة والدين ويطلق العنان للتعددية الثقافية لتعبر عن نفسها. وعليه أن يتبع سياسة الدمج الوطني في ميادينه المختلفة حتى يمكن تجسير الهوة التي بنتها سلطة آل سعود ووهابيتهم طيلة عقود ثمانية مضت.

في غير هذه الحالة ستبقى المملكة (مملكة ومزرعة) لآل سعود وحلفائهم الوهابيين. لا يجد المواطنون أن من واجبهم الدفاع عنها، ولا يرون في الإنتماء إليها شرفاً أو قيمة على الصعيدين المعنوي والمادي.

وفي غير هذه الحالة ستبقى السعودية معرضة للتقسيم طالما أن المواطنين أنفسهم منقسمون ولم يجدوا قاعدة تلاق وطنية تسمو فوق انتماءاتهم المناطقية والمصلحية.

الصفحة السابقة