استنفار الشارع البريطاني ضد آل سعود

خالد شبكشي

اعترف وزير الخارجية السعودية في مقابلة مع القناة التلفزيونية البريطانية الرابعة بأنه تفاجأ بحملة التنديد والإعتراض ضد الملك وزيارته، تلك الحملة الهائلة من النقد التي أبرزها الخطاب الإعلامي الشعبي، والنقد المرير الذي ووجه به الملك من قبل العديد من الفاعليات السياسية وأعضاء البرلمان، والمظاهرات والإعتصامات التي شارك فيها سياسيون ومنظمات مجتمع مدني.

غوردون براون والملك الجاهل: الإحراج!

كانت المفاجأة كبيرة ليس للوفد الرسمي السعودي فحسب، بل وللحكومة البريطانية نفسها التي لم تتوقع أن نظرتها في تغليب المصالح الإقتصادية على شعاراتها المرفوعة المتعلقة بالأخلاقيات السياسية (احترام حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية، وحقوق المرأة والأقليات وغيرها) ستلقى ذلك الحجم الهائل من الإعتراض والإحتجاج وصل الى حد المطالبة بمحاكمة الملك السعودي نفسه، باعتباره ديكاتوراً مستبداً، وداعماً للإرهاب الوهابي الذي أدى الى تفجيرات واشنطن ونيويورك ولندن ومدريد وغيرها.

أوضحت زيارة الملك عبدالله للندن ـ وبجلاء كبير ـ أن هناك تحولاً استراتيجياً في الرأي العام الغربي ضد الحكومة السعودية وأيديولوجيتها الوهابية العنيفة.. وبرغم أن هناك إدراكاً كبيراً لدى الشرائح الإجتماعية ـ كما النخب السياسية والإقتصادية ـ بقدرة المملكة الإقتصادية ودورها السياسي والإستراتيجي للغرب، إلا أن ذلك لم يشفع لحكومة براون ولا للمملكة إليزابيث الثانية ولا الطاقم البريطاني بمجمله، لم يشفع لهم إقامة علاقات متميزة مع السعودية. فمقابل الوعي الشعبي والرسمي بجدوى العلاقة المتميزة مع السعودية وانعكاساتها الإيجابية على الإقتصاد البريطاني، فإن القلّة من الجمهور من يحترم النظام السعودي، أو يثق به، أو يرى التنكّر للمفاهيم الإنسانية التي شبّع بها المجتمع البريطاني ـ والغربي عامة ـ والتضحية بها على مذبح المصالح مع السعودية.

هناك ـ حسب محلل غربي ـ هامش محدود للمناورة أمام صانع القرار البريطاني، وهو هامش آخذ بالتقلص، فيما يتعلق بمرونة التعاطي مع الأنظمة التسلطية. ويفسر ذلك بالقول أن المواطن البريطاني صار أكثر وعياً بالإزدواجية المتعلقة بالمعايير الإنسانية وتطبيقاتها ليس فقط بين (الداخل البريطاني/ الغربي مع الخارج العالمثالثي) بل في ازدواجية التعاطي مع أنظمة تسلطية متشابهة، بحيث تتصيد بريطانيا والحكومات الغربية بعضها وتحابي بعضها الآخر. هذه الإزدواجية غير مقبولة خاصة لدى الأجيال الجديدة، ولا يستطيع الإعلام أن يخفيها، بعد الإنفتاح الكوني والعولمة في شتى ميادينها.

ما يقوله المحلل آنف الذكر، عكسه روبرت فيسك في مقالته المشهورة ضد الملك السعودي أثناء زيارته للندن من خلال مقاربته للعلاقة البريطانية مع موغابي ومع الملك عبدالله. فهل كان الملك السعودي أكثر ديمقراطية من موغابي الذي يرفض براون مجرد اللقاء معه؟ أم هل ما يجمع بريطانيا من قيم مع السعودية أكبر مما يجمعها مع زيمبابوي؟ أم هل كان السبب أن الملك عبدالله في سحنته أقل سواداً من موغابي، الأمر الذي يضفي على العلاقة طابعاً عنصرياً؟ أم أن احترام الملك السعودي كان لمجرد أنه ملك غني، يمكن (استحلاب) دولته بأية صورة غير قانونية، بحيث يسوغ ذلك كله غض النظر عن استبداد وفساد وإرهاب النظام السعودي. وعلى حد تعبير روبرت فيسك فإن: الحقيقة المحزنة والقبيحة هي أننا نزود أولئك الناس بطائرات مقاتلة وويسكي وعاهرات، مقابل صفقات تسلح بعشرات المليارات من الدولارات!

مضى زمن قطع السعودية علاقتها مع بريطانيا لأن الأخيرة بثت فيلم (موت أميرة)! ومضى زمن يهدد فيه السفير السعودي بريطانيا من أن نشر قصاصة تقرير للسفير البريطاني الأسبق في جدة (جيمس كريغ) تم تهريبها للصحافة البريطانية، سيؤدي الى قطع العلاقات فوراً! وهو أمرٌ تكرر قبل أشهر فيما يتعلق بالتهديد ذاته إن مضت التحقيقات البريطانية في صفقه اليمامة التي قدمت فيها رشاوى للأمير بندر بلغت نحو مليارين ونصف المليار من الدولارات!

لم تعد الحكومة البريطانية بالضرورة قادرة على الإلتفاف على القانون أو اعتماد وسائل التضليل لجمهورها، وقد وجدت نفسها في قرارها الأخير بإيقاف التحقيق في صفقة رشاوى (اليمامة) هدفاً للكثير من السهام من الداخل والخارج، ولم يبد حتى الآن أن التحقيق سيبقى طي الكتمان مهما كان التذرع بمقولة الحفاظ على (الأمن القومي البريطاني). فهذا الأمن لا يعدو أن يكون مجرد انتهازية تقطف من خلالها مصالح لشركات بريطانية من خلال عقود مع السعوديين يدفعون ثمنها كرشوة مسبقة لتحقيق غايات سياسية أهمها أن يبقى النظام السعودي طليق اليد في استبداده وفساده والتغطية عليهما.

في حقيقة الأمر، فإن السعوديين لم يوجهوا اللوم هذه المرة للحكومة البريطانية، ولم يطالبوها وهم في عقر لندن، بكف لسان الصحافة الطويل، أو أن يمنعوا المظاهرات والإعتصامات، أو يوقفوا الإهانات التي تتعرض لها دولة آل سعود ورموزها.. والسبب أن السعوديين أعضاء الوفد الزائر رأوا بعينهم أن الحملة الهجومية ضد النظام السعودي غير المسبوقة قد فاجأت مضيفيهم، وأحرجتهم كما أحرجت الضيوف، ورأوا بأنفسهم كيف أن الحكومة البريطانية كانت هدفاً للحملة أيضاً، وبالتالي لم يكن طلبهم بإيقافها منطقياً وممكناً، كما كانوا يتصورون عن جهل.

من سوء تقدير الحكومة السعودية وملكها ومستشاريه أنهم جميعاً لم يلتفتوا الى التحولات في الرأي العام البريطاني منذ أحداث 9/11 على الأقل. أصبحت السعودية مكشوفة اعلامياً منذ ذلك الحين، وأصبحت متهمة بتمويل العنف والإرهاب، لا في اميركا وغيرها بل في بريطانيا نفسها، حيث البرامج التلفزيونية والمقالات والدراسات التي تضخ على مدار السنين الماضية. اكتشف الرأي العام البريطاني ان (الحمل) السعودي الوديع يخبئ تحت جلدته مخالب وأنياب تنهش وتخرب داخل بريطانيا. عنفاً فكرياً، وتمويلاً مستمراً لمراكز وأشخاص محسوبون على السعودية، كان ينظر اليهم كحمائم، وإذا بهم يتحولون في غفلة من الزمن الى قنابل تخريب وتفجير أساءت للأمن في بريطانيا، والأهم أساءت الى سمعة الجالية الإسلامية فيها فأصبحت متهمة بسبب أولئك المعتنقين للفكر الوهابي والذين يجري تمويلهم ولسنوات من قبل السعودية.

ومن سوء التقدير السعودي، أن الزيارة جاءت ولما يجف حبر الجدل الطويل العريض حول الفساد والرشاوى المتعلقة بصفقة اليمامة، والتي نظر اليها الكثيرون على أنها أوجدت ثغرة كبيرة آخذة بالتعاظم أفقدت القضاء البريطاني شيئاً من استقلاله، وافقدت الحكومة البريطانية احترامها، وأوضحت أن الفساد السعودي صار كالسرطان الذي لا بد وأن يصيب من يقترب منه بحيث أدى الى إفساد جزء من الطبقة السياسية والأكاديمية وقبلها طبقة رجال الأعمال ورؤساء الشركات البريطانية، وهو ما أثار حنق الكثيرين.

زد على ذلك فإن زيارة الملك للندن جاءت بعد فترة نوقشت خلالها مواضيع سعودية كثيرة لها صلة بوضع الجالية البريطانية، مثل المناهج التي تبث الكراهية، حيث كانت أكاديمية الملك فهد بلندن عرضة للتشهير، الأمر الذي أدى الى سحب كل مناهج التعليم والإستعاضة عنها بدروس منتقاة تعطى نسخ منها للطلاب يوماً بيوم! وقبل الزيارة بأيام أثير موضوع سواقة المرأة للسيارة في السعودية، وأثير معها دور القضاء السعودي وعواره الدائم، كما أثيرت قضايا تمويل الإرهاب في العراق من قبل جهات نافذة في السعودية، وأيضاً موضوعات لها علاقة بانتهاكات حقوق الإنسان داخل السعودية نفسها من خلال منظمات حقوق الإنسان وغيرها.

كل هذا أدى الى تهيئة الرأي العام البريطاني وعلى مدى زمني غير قصير ليغير نظرته للحكومة السعودية. فهي لم تعد حكومة معتدلة، ولا حكومة يجمعها مع الغرب قيم إنسانية مشتركة كما كان يروج، ولا هي حكومة إصلاحية في حين تعتقل الإصلاحيين، ولا هي حكومة مقاومة للإرهاب الذي أصبح في قائمة أجندة الدول الغربية، خاصة وأن السعوديين ـ حكومة وأنصاراً وهابيين ـ يشاركون في كل حروب المنطقة بالتفجير والتفخيخ والتمويل من نهر البارد الى أفغانستان، ومن اندونيسا والفيلبين الى المغرب، ومن الشيشان الى أعماق أفريقيا.

وزاد الطين بلّة الحديث الصحافي الذي أجراه الملك عبدالله قبيل زيارته بساعات للندن مع قناة البي بي سي، فقد اتهم الملك لندن بانها لم تبذل جهوداً كافية لمكافحة الإرهاب الدولي، وأن السعودية سلمت معلومات لبريطانيا قبل الهجمات الارهابية في 7/7/2005 ولكن الاخيرة للاسف لم تتخذ اي اجراء ربما كان من شأنه تفادي المأساة التي وقعت. واضاف بغفلة وجهل ومزايدة: (إن معظم الدول ومن بينها بريطانيا لا تأخذ الإرهاب على محمل الجد بشكل كاف).

هذا التصريح كان بمثابة قنبلة غير محسوبة بدقة سعودياً، ويبدو أن مستشاري الملك كانوا بقدر من الجهل ما دفعهم الى اقتراح مثل هذا الكلام. فالسعودية هي المتهمة برعاية الإرهاب، ولا يحتاج أحد لإثبات ذلك، فالأحداث تكشف عن نفسها، وهي المتهمة بتفريخ العنف حتى من قبل الكتاب السعوديين أنفسهم.. فلماذا قال الملك ما قال؟ كان الملك يريد أن (يزايد) على بريطانيا في مكافحة الوهابيين القاعديين، وكان يريد أن يبعد التهمة عن نفسه ودولته باعتبارها مساهمة في مكافحة الإرهاب كما أنها إحدى ضحاياه.

ولكن التصريح إياه، أدى الى وقوع الحكومة البريطانية تحت ضغط الرأي العام، باعتبارها مهملة ومقصرة في الإستفادة من الخدمات السعودية!، كما وقعت تحت ضغط البرلمانيين لكشف ملابسات المعلومات المقدمة من السعودية والتي أشار اليها الملك ـ غير الكاذب!. الأمر الذي أدى الى تشكيل لجنة برلمانية تحقق في التصريح السعودي، وتتأكد من المعلومات التي قدمها السعوديون وما إذا كانت المعلومات مفيدة وجرى تجاهلها، أم أنه لم تكن هناك معلومات على الإطلاق!

بعد التحقيق تبين أن لندن لم تتلق معلومات بخصوص الحادثة، وأن كل ما جاء به السعوديون من معلومات كان عاماً، لا يمكن لأحد أن يستفيد منه، كالقول بأن هناك احتمال هجمات ارهابية بدون معلومة أو دليل أو مصدر. وكان يهم الملك فيما يبدو أن يربط بين الإرهاب الذي تموله حكومته ومؤسسته الدينية وبين المعارضين في الخارج، باعتبارهم أدوات ارهابية ولكنها كانت محاولة فاشلة الى أبعد الحدود.

لكن الحكومة البريطانية انزعجت كثيراً من ضغط عوائل القتلى والبرلمانيين والصحافة، الى حد اضطر معه مكتب رئيس الوزراء بأن يصرح بأن بلاده (لم تتلق أي تحذيرات قبل الهجمات.. لم نتلق أي تحذيرات محددة من أي مصدر). وإزاء هذا الجدل والتصريح غير المنطقي، ألغى ديفيد ميليباند وزير الخارجية البريطانية لقاءً مع نظيره السعودي سعود الفيصل احتجاجاً على تلك التصريحات، وتم تخريج الأمر إعلامياً على أساس أنه تبنى طفلا ثانياً وأنه كان بحاجة الى عطلة لبعض الوقت لمساعدة زوجته في الإعتناء بالطفل. لكن هذا لم يقنع الرأي العام، حيث أن الوزير أنهى اجراءات التبني قبل اسبوع في أميركا وأنه لا يعقل بأن يلغي لقاءاته المهمة من أجل طفله!

المهم ان تصريح الملك السعودي كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فانهالت الإعتراضات على هذا الملك (المستبد الإرهابي) الذي يريد (أن يعلمنا كيف نكافح الإرهاب)، وبدأت الموجة تكبر شيئاً فشيئاً، بسبب جهالة الملك ومن معه، من الذين لا يدركون المثل العربي: إذا كان بيتك من زجاج، فلا ترم بيوت الناس بالحجارة!

كان تصريح الملك بمثابة الإعلان عن انفجار الغضب الداخلي لدى البرلمانيين خاصة من حزب براون الحاكم، ومن منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية والإعلاميين الذين وجدوا في زيارة الملك مادة دسمة للحديث عن فساد العائلة المالكة واستبدادها وانتهاكها لحقوق مواطنيها وحقوق المرأة والأقليات.

وهكذا اكتشف ال سعود، بأن أموالهم المتكاثرة بسبب اسعار النفط، لم يكن لها دور على الصعيد الشعبي، فهي قد تقنع كبار السياسة على الصمت، لكن الجمهور اتخذ طريقاً آخر.. طريق التصعيد مع نظام رأوا أنه خدعهم بمساعدة مسؤوليه لعقود طويلة. نظام رآه البعض فاشياً، وقذراً، وإرهابياً، الى آخر العبارات التي طفحت بها توصيفات الصحافة البريطانية والمعلقين.

الصفحة السابقة