نجاد في الرياض

ملفات الصراع والتنافس والحرب!

عمر المالكي

تتجه العلاقات السعودية الإيرانية الى التصادم، فهناك حماسة من جناح متشدد سعودي يقوده الأمير بندر، ترى أن (الدمّل) الإيراني يجب فتقه والى الأبد بالسلاح الأميركي، وإسقاط نظام الحكم هناك. هذا التيار المتشدد، يميل الى أطروحة ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي، ويتبناها ويدعو إليها، ويرى أن الخطر الإيراني مهما تصاعد، ومهما كان الثمن الذي يجب أن يدفع لإزالته فيجب دفعه الآن وليس في المستقبل.

التنافس حتى الحرب!

الجناح السعودي المتشدد يرى في ضرب إيران وسيلة لاستعادة الدور السعودي عافيته، فطالما أن إيران واقفة بالجوار، فإن إمكانية استعادة السعودية لدورها كما كان في حقبة النفط في السبعينيات الميلادية أمرٌ مستبعد. ويرى السعوديون أن كافة الملفات الأخرى ـ التي تدخلت فيها ايران ـ يمكن حلها آنئذ بسهولة، أي بعد أن يتم تغيير نظام الحكم في طهران. وحسب الرؤية السعودية، فإنه يمكن ضبط الوضع في العراق في الإتجاه الذي يريدونه إذا ما تم هدم الحائط الإيراني ليس على الحدود، وإنما في طهران، بحيث يمكن فيما بعد تنظيف الشارع السياسي العراقي من القوى الأصولية الشيعية التي برزت بعد إسقاط صدام حسين.

وأيضاً يرى السعوديون بأن التدخل الإيراني عقّد (الحل السلمي) للصراع العربي الإسرائيلي، بالنظر الى دعم طهران للقوى الفلسطينية الرافضة للسلام مع اسرائيل، وبالقضاء على النظام الإيراني، تصبح القوى الممانعة مكشوفة، وفي مقدمتها سوريا، التي سيسقط نظامها هو الآخر كتفاحة فاسدة.

في الموضوع اللبناني، سيتلقى حزب الله ضربة تنهيه عن بكرة أبيه، وستستعيد السعودية نفوذها في لبنان، وسيخرج أعداؤها منه بحكم الأمر الواقع.

السعوديون ايضاً يعتقدون بأن التهديد العقائدي/ الطائفي الإيراني ـ من وجهة نظرهم ـ لا يمكن القضاء عليه بضرب الذيول بل الرأس، والرأس في طهران.

والخلاصة أن مشروع الجناح السعودي المتشدد بقيادة بندر، يرى الأولوية في مواجهة إيران، والمساهمة في حربها، وتحمل عبء الحرب مالياً، حتى وإن أدت الحرب الى تخريب بعض المنشآت النفطية، وتقلص القدرة التصديرية للسعودية.

ويشاطر هذا الجناح السعودي، اليمين الأميركي المتشدد، في رؤيته القائلة بأن النظام الإيراني ضعيف في الداخل ولا يتمتع بشعبية، وأن الهجمات الأميركية الأولية ستكشف عن تخلّي الجمهور الإيراني عن حكومته، وبالتالي يمكن تطوير الهجوم الجوي الى هجوم بري، أو الى هياج في الشارع بما يشبه الثورة يسقط (حكم الملالي). وعليه يستغرب السعوديون السديريون من تردد الولايات والغرب في المواجهة مع ايران، ويستغربون من أن التصريحات الإيرانية لنجاد ومسؤولي الحكم الإيراني لا تلق من الغرب الحافز الكافي لمواجهته وبلاده على أرض الواقع.

ويبدو أن (اللعبة الطائفية) التي تجيد استخدامها السعودية، والتي نجحت فيها في الثمانينيات في محاربة إيران ومحاصرتها، لم تعد مفيدة، أو أن معطيات الوضع الحاضر لا تسمح باستخدامها على نحو موسع بالنظر الى التشابك في الموضوعات والقضايا. فالأميركيون لا يستطيعون استخدام اللعبة الطائفية على نحو واسع، وبالتالي يخسرون تحالفهم مع الإئتلاف الشيعي الحاكم في بغداد. والسعودية لا تجازف بالدخول في المعركة الطائفية على نحو مكشوف ونهائي، دون أن تلحظ تأثير ذلك على الوضع الشيعي المحلي، ودون النظر الى تحالفاتها مع قيادات علمانية شيعية عراقية مثل إياد علاوي، حيث ستحرقه الورقة الطائفية ويكون أول ضحاياها، وبالتالي لن يكون البديل الذي تنشده السعودية.

كاتيوشا يسقط في نهاريا: أين موقف السعودية؟

بطبيعة الحال، فإن السعودية تخشى من إيران قوية. ويبدو أن هذا قدر الخليج. فحتى لو نجح مشروع تغيير النظام الإيراني الحالي، وهو يبدو مستحيلاً، فإن أي نظام قادم سيكون مزعجاً للسعودية، وسترى فيه منافساً. فالمشكلة هي مشكلة الديمغرافيا، والثقافة والإرث الحضاري.. إيران قوة كبيرة، سواء حكمها معمم، أم حكمها علماني، ولا يبدو أن أي علماني سيحكم إيران سيكون أقل من الشاه! بمعنى آخر، فإن تغيير نظام الحكم لو حصل، لا يغير من معادلات القوة الإقليمية.

ماذا يزعج السعوديين من إيران؟

يقول السعوديون كلاماً كثيراً عن تمدد إيران السياسي في المنطقة، ويبدون انزعاجهم من الملف النووي الإيراني، كما يبدون تخوفاً من قوة إيران المتعاظمة عسكرياً. ولو أخذنا هذه المواقف كمؤشرات فيمكن وضع الأمور على النحو التالي:

1) لا يشعر السعوديون بخطر حرب مع إيران. فإيران كما هو واضح تبنت منذ عهد رفسنجاني مروراً بخاتمي وانتهاءً بنجاد سياسة في غاية التودّد للسعودية، ولطالما سكبت في آذان السعوديين عبارات مثل: للعالم الإسلامي جناحان لا يمكن أن يطير إلا بهما معاً، أي السعودية وإيران، ولطالما كرر الإيرانيون عبارات المديح للدور السعودي في المنطقة، وعرضوا التنسيق مع الرياض في مختلف المجالات. إن فلسفة الأمن عند الإيرانيين سواء لبلادهم أو للمنطقة والتي طالما عرضوها لا تقوم على أساس المصادمة والحرب والتهديد (وهو ما كان الشاه يفعله) بل على محاولة إقناع شركائهم في الخليج بالتعاون المشترك. ولكن لأن القرار السعودي والخليجي عامة ليس بيد حكام الخليج، فإنهم رفضوا مشروع إيران فيما يتعلق بأمن الخليج الذي يقول بان (حماية الخليج من قبل دوله). والخليجيون عموماً على استعداد للتنازل للأميركيين عن أن يعترفوا لإيران بدور مركزي في أمن الخليج. ومع هذا، فإن التوجس الخليجي من إيران له ما يبرره بالنظر لبعض التصريحات المتهورة من قبل بعض المسؤولين الإيرانيين، وفي نفس الوقت فإن القيادات الخليجية لا ترى خطراً آنياً إيرانياً عسكرياً، بمعنى أن تقوم إيران بهجوم عسكري على دول الخليج، على شاكلة ما فعله صدام بالكويت، هذا إذا كان بإمكان إيران فعل ذلك أصلاً.

2) قد يقال بأن الإنزعاج الخليجي ـ السعودي بوجه خاص ـ يعود الى أن موازين القوى العسكرية في المنطقة اختلّت بشكل شديد لصالح إيران، وهذا الإختلال صحيح كان وسيبقى، فلا يجب أن تتوقع أن تكون السعودية بمستوى القوة العسكرية الإيرانية، حتى ولو اشترت كل أسلحة الدنيا. فالقوة البشرية الإيرانية والخبرات العسكرية والسياسة الوطنية في تصنيع السلاح، والطموحات السياسية الإيرانية كلها تجعل من إيران ـ كدولة وليس كنظام حكم فحسب ـ قوة يحسب لها ألف حساب. لكن ما أزعج السعودية، أنها لم تكن تنظر يوماً الى نفسها كندّ عسكري لإيران، بل كانت ترى في القوة العربية جميعاً بما فيها القوة العراقية تمثل عامل توازن بنحو أو بآخر. وحين أُسقط نظام الحكم في العراق، لم تشأ السعودية أن تدخل العراق ضمن منظومة الأمن الخليجي، وبالتالي أخرجته من مشاريع التوازن العسكري، إن لم يكن جعلته الى جانب إيران أكثر منه الى جانب السعودية نفسها.

المفاعل النووي الإيراني: انزعاج سعودي

3) والسؤال: لماذا تنزعج السعودية من اختلال التوازن العسكري مع ايران؟ إن لذلك انعكاس على دورها الإقليمي، فتضاؤل قدرة السعودية عسكرياً، بل وعجزها عن حماية نفسها كما تبين أثناء غزو العراق للكويت، أسقطها من أعين حلفائها، فهي لا تستطيع أن توفر حماية لنفسها فكيف بها توفر الحماية لغيرها. ولماذا يخضع الخليجيون الى السعودية كحام لهم، في حين أن أميركا تحميهم جميعاً؟ إذن ليتجهوا نحن (الإله الأكبر) ويعطوه القواعد العسكرية والتسهيلات كما في رأس مسندم، وقاعدة السيدية، وقواعد البحرين البحرية، وقواعد الكويت البرية.. وهذا ما حدث بالفعل منذ بداية التسعينيات الميلادية. فدول الخليج تعول على الحماية الأميركية، وليس السعودية، وبالتالي فإن نفوذ واشنطن زاد في الخليج، ولكن على حساب السعودية نفسها.

4) ما أزعج السعودية حقاً هو التمدد السياسي الإيراني، فالمنافسة الإيرانية على النفوذ مع السعودية تم اختباره، وتبين أن السعودية غير قادرة على المنافسة حتى وإن كانت مدعومة بقوى كبرى. إن النفوذ الإيراني في أفغانستان أكبر منه في السعودية، مع أن الأخيرة كانت الدولة الأولى في دعم المجاهدين الأفغان، فلماذا تغير الوضع معكوساً؟! السبب كان رهان السعودية على الطالبان فكانت ضمن ثلاث دول اعترفت بها بين العالم (اضافة الى الإمارات والباكستان) وبسبب التخلي السعودي عن قوى المعارضة الأفغانية الأخرى، في حين أن الرهان الإيراني كان على تلك المعارضة كبيراً. وخسرت السعودية العراق، لا بسبب شدّة المنافسة الإيرانية، بل بسبب سوء التخطيط السعودي، والإنغلاق في البوتقة الطائفية، وإلا فإن أكثر المعارضات العراقية القوية كانت على استعداد لفتح ذراعيها للسعودية وليس لإيران. أيضاً تخلت السعودية عن الورقة الفلسطينية فيما كانت ايران تستثمر فيها منذ انتصار ثورتها، ومن يدعم المقاومة الفلسطينية سيتحصل على نفوذ غير مسبوق، فما بالك بان تتخلى مصر والسعودية عن تلك الورقة؟! وأيضاً في لبنان فتحت ايران وسوريا علاقاتهما مع كل القوى هناك، فيما حشرت السعودية نفسها في أطر ضيقة، وأضاعت الرؤية الإستراتيجية، فخسرت وستخسر مستقبلاً.

5) بقي موضوع الملف الإيراني النووي. فالسعوديون يرون المشروع النووي الإيراني غير قابل للمنافسة، حيث لا تستطيع السعودية مجاراة إيران في هكذا مشاريع، فلا هي تمتلك مثل هذا الطموح، وليست لها القدرات العلمية، ولا تستطيع أن تتحمل دفع ثمن قرار (وطني) كهذا. إذن فهي لا تريد هذا المشروع الإيراني مهما تم التأكيد على سلميته، ولكنها ستصمت حين ترضى واشنطن عنه، أو تتفق ايران مع الغرب حول اشتراطاته الأمنية والسياسية. فالسعودية أولاً وآخراً تابع للسياسة الغربية. لكن السعوديين يتحدثون عن احتمالية تسرب الإشعاعات النووية، كمبرر لمعارضته، ويميلون الى أن إيران حين تمتلك الخبرة ستقوم بإنتاج قنبلتها النووية، فيختل التوازن العسكري الى أبعد الحدود. هنا يمكن القول بأن السعوديين يغارون من النجاحات الإيرانية العلمية، خاصة وأن التطور الإيراني انعكس على جمهور الحكومة السعودية نفسها وأظهرها بمظهر الفاشلة والتابعة.

صناعة السلاح الإيرانية

خيارات السعودية

على الصعيد السياسي: السعودية لا تستطيع منافسة النفوذ الإيراني في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان، لا لشيء إلا لأن خيار السعودية السياسي مختلف عن الخيار الإيراني. خيار السعودية غربي بالدرجة الأساس، ولا يتمتع بشعبية بين الجماهير العربية، وخيار الإيرانيين مقاوم مغر يجبر حتى الكارهين لإيران إظهار بعض الإحترام لها ـ على الأقل. السعودية في مواجهتها السياسية مع ايران ليست رأساً بل جزءً من مشروع يقوده آخرون غربيون، ويشاركها فيه دول عربية مثل مصر والأردن. في حين أن المشروع السياسي الإيراني تقوده ايران بنفسها وتتحالف مع الآخرين على أساسه، وعلى أساس مصالح مشتركة مع حلفائها، بعكس السعوديين الذين يدفعون ثمن تهور الأميركيين والغربيين. لهذا تكون ايران حاضرة في القضايا المختلفة وتمثل نفسها، في حين أن غياب السعودية لا يعني شيئاً كثيراً فهناك ممثلون أميركيون وعرب ينوبون في اتخاذ القرار عنهم، كما هو واضح الآن بالنسبة للبحث عن رئيس لبناني.

وعلى الصعيد العسكري: فإن السعودية تعلم بأن الأسلحة التي تشتريها لا ترقع التوازن العسكري المختل في غير صالحها مع إيران، والأخيرة عينها على واشنطن واسرائيل، في حين أن عين السعودية على إيران باعتبارها العدو المحتمل، في حين يتراجع العدو الإسرائيلي بعيداً عن الأنظار. ولذا فإن ما تؤمله السعودية هو أن تتضافر جهود واشنطن مع السلاح المخزن في السعودية مع القواعد العسكرية الخليجية لتصدّ أية احتمالات عدوان إيراني ـ إن وجد ـ وربما القيام بهجوم على ايران على النحو الذي يريده تشيني ـ بندر.

في الإتجاه نفسه، فإن السعودية في اجتماعات وزراء دفاع دول الخليج والذي انعقد في الرياض هذا الشهر، أشارت الى ضرورة التسلح والتنسيق الخليجي، لأن هناك تحولات في المنطقة أهمها أن هناك قوى إقليمية تهددها. ولكننا نعلم أن دول الخليج مجتمعة لا تشكل قوة عسكرية ذات بال، فضلاً عن أن معظم دول الخليج غير مقتنعة بالمواجهة مع ايران، خاصة عمان والبحرين والكويت، وترى التنسيق معها بدل استعدائها.

في الموضوع النووي الإيراني: اقترحت السعودية على لسان سعود الفيصل تشكيل محطة تخصيب تساهم فيها العديد من الدول بحيث تزود جميع دول المنطقة بحاجتها من اليورانيوم المخصب. واقترح سعود الفيصل ان يجري التخصيب في دولة محايدة مثل سويسرا. هذا الإقتراح هدفه ايران كما هو واضح، فدول الخليج ليست لديها مشاريع نووية، ولا يسمح لها بذلك، وليست لديها القدرة لا على التخصيب، ولا على استخدام اليورانيوم المخصب. فكل الإطروحات السعودية افترضت أنها ستقوم برد على ايران وتبني محطة نووية، وهذا من قبيل التهويش والمنافسة غير الواقعية.

الإيرانيون رأوا بأن من يستطيع التخصيب وهو يقوم به حالياً، سيكون ساذجاً إن قبل أن يبيعه الآخرون يورانيوم مخصباً ينتج خارج الحدود. ولهذا رفضوا العرض السعودي وقالوا بصريح العبارة إنه (إملاء أميركي)، وذكروا بأن إيران عرضت على دول الخليج وكل الدول العربية استعدادها لتوفير يورانيوم مخصب لها في حال أرادت ذلك وبسعر زهيد!

يبقى القول بأن الصراع مع ايران من قبل السعودية ودول عربية أخرى مفتعل، وهو لا يعدو انعكاساً للصراع الإيراني الأميركي. إن مبررات الصراع مع ايران ضعيفة بالنسبة للسعودية وحتى مصر والأردن، ولكن لأن المنطقة تعيش ما يشبه الحرب الباردة التي انتهت، فإن السعوديين على وجه التحديد لا يمتلكون قرارهم فيها ولا يستطيعون الوقوف على الحياد. ومع ذلك لا ننسى أن لدى السعودية هواجس عقدية وسياسية، ثم إن الأمراء السعوديين ينظرون الى أنفسهم بشكل مضخم، ويعتبرون أنفسهم أكاسرة جدد، ومثل هذا الغرور السياسي لا تقبل به إيران ولا تلتفت إليه، مع حرصها على علاقة طيبة مع السعودية. يدلنا على ذلك أن ايران لم تدخل في المهاترات الصحافية والإعلامية وقلما ردت على تصريحات السعوديين، كما أن ايران بعثت بمسؤوليها مراراً وتكراراً للرياض لتهدئة مخاوفها وتليين مواقفها، في حين لم يزر مسؤولون كبار ايران، اللهم إلا سعود الفيصل والملك عبدالله حين كان ولياً للعهد ولمرة واحدة فقط. في حين أن نجاد زار السعودية ثلاث مرات، وقبله زار خاتمي السعودية مرتين، وزار رفسنجاني السعودية مرة واحدة، فضلاً عن وزراء خارجية ايران وغيرهم من المسؤولين الذين يقومون بجولات مكوكية المرة تلو الأخرى.

هذا النشاط الدبلوماسي الإيراني فهمه السعوديون بشكل مختلف، فهذه الزيارات صورت لهم الإيرانيين الذين يزعجون الغرب كشخصيات ضعيفة تتودد للسعودية وتتوسل اليها، وتصوروا أن محورية السعودية هي الأساس وليس لأن إيران لها أجندة تعاون مع السعودية ولا تريد أن تخسر العلاقة معها.

الصفحة السابقة