صورة سياسية جديدة تتشكل في المنطقة

الخذلان الأميركي للسعودية والمعتدلين

محمد السباعي

هامش الحرية السياسية للسعودية بعد أحداث 9/11 انخفض بشدّة، بحيث ان السعودية ظهرت وكأنها تريد أن ترضي الحكومة الأميركية بأية قرار تتخذه، وكانت مستعدة لتقديم التنازل تلو الآخر في كل القضايا السياسية المطروحة على الساحة الإقليمية، من العراق الى ايران الى أفغانستان الى لبنان وفلسطين، فضلاً عن القرارات النفطية في الأوبك فيما يتعلق بارتفاع وانخفاض أسعار النفط. في تلك الفترة قادت أميركا حرب احتلالها لافغانستان من إحدى قواعدها في السعودية. وساهمت الأخيرة في حرب احتلال العراق وهي حرب لم تكن السعودية في الأصل راغبة فيها، وقدمت قواعدها في الشمال لاحتلال قواعد عراقية (اتش 1 و2). وتطابقت سياسات السعودية وأميركا بشأن الملف النووي الإيراني، وتقبلت السعودية كل المزاعم الأميركية عن السلاح النووي، كما وقفت السعودية مع اميركا واسرائيل في الحرب على لبنان وحزب الله بشكل صارخ كما هو معلوم، وتبنت فيما بعد اشعال الفتيل المذهبي الى أقصى غاياته، هذا فضلاً عن الحرب الإعلامية وغيرها. وفي الموضوع الفلسطيني قدمت السعودية مبادرتها العربية لتطبيع العلاقات مع اسرائيل (مبادرة الملك عبدالله) والتي أعيد إقرارها مرة أخرى. زد على ذلك، الموقف السعودي من سوريا ومحاصرتها ومحاولة اسقاط نظامها، وكذلك دعم محمد دحلان لاسقاط حكومة حماس ومحاصرة غزة.

الرابحان

كل هذه السياسات السعودية ما كانت لتحدث بهذا الحجم من الإنحياز الأعمى لأميركا وسياساتها لولا شعور السعودية بضغط آثار أحداث 9/11 عليها، ومحاولتها المستميتة إرضاء الولايات المتحدة بأي شكل كان. ولما كان على السعودية أن تتنازل لترضي (الإله الأميركي) فإنها وجدت من السهل عليها أن تتنازل عن قضايا لا علاقة لها بها بصورة مباشرة، أي أنه تنازل على حساب دول وشعوب أخرى، أي حصر التنازل في موضوع السياسة الخارجية بشكل كبير. وإذا كان هناك من تنازل سعودي محلي فليكن في الجانب الإقتصادي، وشيء من سياسات التجميل للضغط على حليفها الوهابي فيما يتعلق بتعديلات غير جوهرية على مسلكه، رغم أن هذا الحليف وفكره هما المتهمان الأساسيان بأحداث سبتمبر.

لهذا لم تقدم السعودية شيئاً في موضوع الإصلاحات السياسية الداخلية بالرغم من أن السنتين الأولتين بعد أحداث 9/11 شهدتا ضغطاً أميركياً (2001-2003) بغرض فك الإرتباط بين الوهابية وآل سعود، وتعديل المناهج، وإصلاح النظامين القضائي والسياسي وغير ذلك. كانت السعودية مستعدة لكل التنازلات إلا أن تخفف العائلة المالكة وحليفها النجدي/ الوهابي من قبضتهما على زمام السلطة، فيقبلا بمشاركة شعبية، أو يشركا القطاع الأوسع من المواطنين السعوديين في صناعة القرار.

بمجرد أن اطمئنت السعودية الى معاناة الأميركيين في مستنقعهم العراقي، وهي معاناة ساهمت السعودية نفسها عبر تمويل العنف الوهابي، وبمجرد أن تراجعت دعوات الإصلاح السياسي الغربي في المنطقة، وجد السعوديون نفسهم يعودون الى بعض مواقعهم الأثيرة القديمة كحلفاء استراتيجيين لأميركا في مكافحة الإرهاب بالطريقة الأميركية. وتشاء الأقدار أن تمنح آل سعود المزيد من السلطة في مواجهة الضغوط الخارجية ودعوات الإصلاح الداخلي، وذلك حين أخذت أسعار النفط طريقها الى الإرتفاع الصاروخي.

عودة بسواد الوجه!

أعطى آل سعود أميركا كل ما يمكنهم أن يعطوها إياه، وقد تبنوا أجندة الولايات المتحدة الإقليمية بشكل شبه كامل في كل الملفات الإقليمية. لن تجد ملفاً واحداً اختلف السعوديون مع الأميركيين بشأنه. حتى الملف الفلسطيني الذي حاولت السعودية لعقود أن تمسكه من الوسط، وحتى ذلك الهامش الصغير من الحرية المستقلة النسبية عن سياسة أميركا بهذا الشأن فرطت السعودية به، ووقفت ضد حماس وضد حقوق سوريا، بالرغم من أنها تنازلت عن قضايا ليست من شأنها ودون الرجوع الى المعنيين بالأمر فيها.

كان من الطبيعي ان تتوتر العلاقات الإيرانية السعودية، وأن تتوتر العلاقات السعودية السورية، وأن تتوتر العلاقات مع حكومة حماس المنتخبة، وأن تتوتر مع قوى الأكثرية الشعبية في لبنان (المسيحية والشيعية)، وأن تعدل بعضاً من تشددها بشأن الملف العراقي، بالرغم من أن رئاسة الإستخبارات السعودية تلعب في داخل العراق دوراً تخريبياً عظيماً بالتعاون مع أياد علاوي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق.

ولكن ماذا قبضت السعودية من ثمن، غير بقاء آل سعود في السلطة؟

خسرت السعودية سمعتها العربية والإسلامية الى أبعد الحدود. ولكن هذا لا يهم كثيراً عند ال سعود لولا انسحاب ذلك على تدني شرعية النظام داخلياً، وهو أخطر من أية خسائر خارجية.

أثناء انعقاد مؤتمر أنابوليس قال سعود الفيصل بأن أميركا وعدت السعودية بأن تنجح المؤتمر! فبعد أن سلم كل أوراقه وأوراق العرب (المعتدلين) لأميركا، توقع أن حليفته ستحفظ له ولرفاقه على الأقل ماء الوجه. إن سعود الفيصل يكرر تجربة جدّه (الملك عبدالعزيز) الذي قضى على الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939 اعتماداً على (حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية)!

عاد القوم ملطخين بالسواد، وحتى مبادرة السعودية التطبيعية الفاضحة، لم تقبل بها اسرائيل كما شهد بذلك خطاب أولمرت وتصريحاته فيما بعد. وما اوجع السعوديين ليس أن اميركا وقفت مع اسرائيل حيث اصر بوش في خطابه على (دولة يهودية) بل أن الحليفة الأميركية لم تحفظ للمعتدلين العرب وفي مقدمهم آل سعود (ماء وجه) يعودون به الى شعوبهم.

انتهى المؤتمر الى الفشل، وزاد تصلف اسرائيل وزيدت رقعة الإستيطان، وأخذ الإسرائيليون الإعتراف من العرب ولم يقدموا شيئاً واحداً.

لكن الخسارة السعودية ـ كما هي خسارة عرب الإعتدال ـ كبيرة فسرعان ما تراجعت أميركا في لبنان بشكل واضح وتخلت بقدر غير قليل عن حلفائها (14 آذار) وهم حلفاء السعودية، لتحقق المعارضة هناك (نصف نصر) حتى الآن.

وتتالت أحجار الدومينو الى السقوط. وإذا بإيران تخرج منتصرة سياسياً على الولايات المتحدة بشأن ملفها النووي وليفضح موضوع (السلاح النووي) الذي طبل له السعوديون والأميركيون. وليكتشف السعوديون أن ثمة اتفاقاً ضمنياً بين واشنطن وطهران جاء على حساب محور الرياض والقاهرة وعمّان، اتفاقاً قد يمتد ليشمل أمن الخليج والعراق والملف النووي ولبنان.

الخاسران

وحتى سوريا التي عمل السعوديون على اسقاط نظام الحكم فيها، تخلى الأميركيون عنه. بل تخلوا حتى عن حصار سوريا. وكان السعوديون ـ حسب الصحافة الإسرائيلية ـ قد طلبوا تعهداً من اميركا بأن لا تحضر سوريا مؤتمر أنابوليس، ولكن ها هي سوريا عادت كلاعب إقليمي بعد أن تكسر الحصار السياسي من حولها.

بعض المعتدلين (ملك الأردن مثلاً والى حد ما مبارك) بادروا لترتيب أوضاعهم في ظل التراجع الأميركي الجديد، لكن ال سعود وحدهم لا يزالوان غير قادرين على تغيير خطابهم بالسرعة المطلوبة.. فما عساهم يقولون الآن لسوريا؟ التي يحتمل بشكل كبير أن يبرئها تحقيق براميتز من مقتل الحريري، ويلصق التهمة بالسعودية نفسها، حيث أن كل الدلائل تشير الى أن من قتل الحريري مواطن سلفي وهابي سعودي، وهو ما أشار اليه بصورة من الصور تقرير براميتز السابق. إذا ما تمت تبرئة سوريا، ولو على النصف!، وإذا ما استعادت بعض دورها في لبنان، وإذا ما انتصر جناح المعارضة في لبنان، وفشل عباس في فلسطين، وأمنت إيران أية هجمة عسكرية عليها، بل قد تجري صفقة اميركية ايرانية، وإذا ما استقر الوضع في العراق.. إذا حدث كل هذا، ماذا تكون السعودية قد حققت من لهاثها وراء المشروع الأميركي؟!

إنه الخسارة والخذلان وسواد الوجه كما يقال!

قلنا مراراً في هذه المجلة، أن السياسة الخارجية السعودية قد التحمت بالسياسة الخارجية الأميركية، وأن أي نجاح تحققه الأخيرة ينعكس على السعودية نفسها. لكن إذا كان المشروع الأميركي الى أفول، فمن الطبيعي أن تأفل أدواته وملحقاته وتوابعه في المنطقة، سعودية كانت أم خليجية أم مصرية أم أردنية.

ولأن هامش الحرية للسياسة السعودية قد انخفض بعيد أحداث 9/11، فإن قدرة السعودية على استعادة ذلك الهامش من الحرية يحتاج الى وقت، كما أنها بحاجة الى وقت أطول لتجرب قدرتها على بناء سياسة مستقلة تنبع من مصالحها الخاصة لا من مصالح الأميركيين.

الآن، وبعد الإنحدار الأميركي والصدمة التي سببها بيان المخابرات الأميركية بشأن الملف النووي الإيراني، وكذلك تراجع قوى 14 آذار في لبنان، واعتراف السلطة الفلسطينية وأقطابها بفشل أنابوليس، يمكن أن نتوقع خريطة وصورة جديدتين للمنطقة، ستكون بعض معالمهما التالي:

1/ تراجع سياسة التشدد الخليجية تجاه إيران، وهو تشدد أميركي في الأساس، فإذا تراجع الأصل تراجعت الفروع. سنلقى خفوضاً (رسمياً) في الصوت الخليجي ولغة معتدلة فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، وبالتمدد السياسي الإيراني خاصة في العراق، إذ من المتوقع أن يحل الملف اللبناني. لكن سيبقى الإعلام السعودي والدائر في فلك السعودية يشحن الأجواء حول الخطر الإيراني. سيصيب العلاقات السعودية الإيرانية بعض الدفء، وكذلك الخليجية الإيرانية، وقد تجري في حال هدأت علاقات الصراع الإيراني الأميركي الى تفاهم أولي بشأن منظومة أمن الخليج، وزيادة في التعاون الإقتصادي بين ضفتي الخليج، وهو أمرٌ أسرعت اليه البحرين. وستخسر مصر بعض نفوذها في الخليج، وهو نفوذ قائم في الأساس على (تضخيم) الخطر الإيراني بغية ابتزاز دول الخليج ـ الإمارات بوجه خاص.

2/ قد نشهد في المرحلة القادمة تحسناً في العلاقات المصرية الإيرانية، حيث لاتزال مصر مترددة في إعادة العلاقات مع ايران، وكذلك تحسناً في العلاقات المصرية السورية، وكذلك السعودية السورية. أي أن هدف عزل سوريا، أو إسقاط النظام فيها لم يعد ممكناً.

3/ ستشهد المرحلة المقبلة جموداً في الملف الفلسطيني، حيث ثبت المرة تلو الأخرى ان اسرائيل ليست مهيئة لقيام سلام (عادل!) وأنها دولة لا يمكن لها أن تبقى أو تتماسك داخلياً دونما وجود خطر خارجي/ عربي يُنفخ فيه. بعد مؤتمر أنابوليس لن يقدم العرب مشاريع سلام، وبالتالي سيكون الأمر رهناً باسرائيل، التي لم تعتد تقديم مشاريع سلمية، خاصة في آخر ولاية بوش. أيضاً سنشهد تراجعاً من فتح، أي من محمود عباس، وسيكون هناك التقاء لحلحلة الأزمة بين حماس وعباس (دون شروط مسبقة) يجري خلالها تنظيم الوضع الفلسطيني بانتظار الإستحقاقات القادمة إن كانت هناك استحقاقات.

4/ سيشهد العراق وضعاً مستقراً بسبب الترتيبات الأميركية/ السورية/ الإيرانية، وستبدأ واشنطن في الفترة الوجيزة القادمة بسحب بعض قواتها، وسيتسارع الإنسحاب تمهيداً للإنتخابات الأميركية القادمة، وحين يأتي الديمقراطيون الى البيت الأبيض، ستزيد وتيرة الإنسحابات. وقد نشهد في العراق تفاهماً بين القوى السياسية بعد أن عضت جراح الحرب الأهلية جميع الأطراف، وسنشهد انفتاحاً عربياً على العراق وعودة الدبلوماسيين العرب وفتح السفارات العربية في مدة أشهر قليلة قادمة.

5/ من المرجح أن تتم حلحلة الملف الإيراني النووي من خلال قبول الغرب وأميركا بالتخصيب الإيراني مع وضع اشتراطات مشددة ومراقبة مكثفة على إيران حتى لا ينحرف برنامجها عن طابعه السلمي. مقابل ذلك ستسود لغة معتدلة الوسط السياسي الإيراني، وسيعترف لإيران ببعض ما تطالب به من دور في المنطقة، وستبنى اللبنات الأساسية لعودة العلاقات الأميركية الإيرانية.

6/ في المحصلة النهائية، قد تهدأ المنطقة لبعض الوقت ولكن على حساب النفوذ المصري والسعودي، ولصالح النفوذ الإيراني، ولصالح استعادة العراق لعافيته، ولصالح استعادة سوريا لبعض دورها في المنطقة. سيكون لبنان في وضع سياسي مستقر في المرحلة القادمة، ولن يشهد تدخلات سورية أو إيرانية أو سعودية أو أميركية/ غربية أو غيرها بشكل يخل بالتوازنات الداخلية. أيضاً ستكون إسرائيل واحدة من الخاسرين الكبار في المرحلة القادمة، فهي لن تحصل على السلام لا مع العرب ولا مع الفلسطينيين، ولن تتخلص من مشكلة وجود حربة في خاصرتها جنوب لبنان (حزب الله) ولن تستطيع أن تقلم أظافر القوة العسكرية الإيرانية، كما أنها ـ وإن كانت بحاجة الى بعض الوقت لهضم هزيمتها في 2006 ـ فإنها لن تكون قادرة على شن حرب على أحد، لا على سوريا ولا لبنان ولا غيرهما (ايران). وإذا ما استمر الوضع مستقراً لبضع سنوات، ستجد اسرائيل نفسها تخسر في موازين القوى الديمغرافية والعسكرية.

السعودية ستخسر المزيد من نفوذها بين دول الخليج، وستخسر بعودة سوريا أو استعادتها كما يقال للصف العربي، لأن المنهج السوري سيفرض نفسه على السعودية فيما يتعلق بموضوعة السلام، ولا يبدو أن سوريا ستضحي بعلاقاتها مع ايران مهما كان الأمر. أيضاً قد تربح السعودية بعضاً من النفوذ في حال استقر الوضع في العراق أكثر من دورها التخريبي الآن، وهذا مرهون بحكمة السعودية في إدارة الملف العراقي في المستقبل.

هذه مجرد تصورات وتوقعات للمرحلة القادمة إزاء الإنتكاسة الأميركية الجديدة ومعها انتكاسة قوى الإعتدال وفي مقدمها السعودية.

الصفحة السابقة