تنافس سعودي مصري في الصمت حيال حصار غزّة

السعودية: مراهنة الإحتكار وخسارة النفوذ

محمد فلالي

كان مشهد والد الطفل المريض الذي يعيش على التنفس الإصطناعي، وهو يضغط يدوياً على منفخ لدفع الهواء في حنجرة طفله المريض يستحضر مشهد النفط العربي الذي يتدفق بغزارة في شرايين الحياة الاسرائيلية، فيما يضنّ على مرضى غزة من الأطفال والشيوخ والنساء..أسدل الظلام ستاره الموحش على الحياة في غزة ومؤسساتها، دون أن يستثني المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية، وكأن قراراً بموت جماعي قد صدر إسرائيلياً وحظي بتأييد أميركي وأوروبي وصمت عربي.

كل ما يصيب غزة من حصار وقتل وهدم للمنازل من الجانب الإسرائيلي في ظل بكم عربي مشين ومهين، يهدم مصداقية السعودية، التي راهنت طويلاً على احتواء الملف الفلسطيني، واحتكاره في مقابل ما تعتبره نفوذاً إيرانياً. ولكن ما يجعل السعودية عاجزة عن الفوز بموقع الرعاية للقضية الفلسطينية أنها تفتقر إلى خيارات مرنة تسمح لها الإنزياح عن السياسة الأميركية فضلاً عن الاعتراض عليها.

منذ بدأت الدولة العبرية فرض حصار شامل على قطاع غزة في 17 يناير الماضي، كان الشعب الفلسطيني ومن ورائه الشعوب العربية والإسلامية بانتظار رد فعل عربي، وخصوصاً من معسكر المعتدلين (السعودية ومصر والأردن)، فيما كانت نبرة الغضب تتصاعد بوتيرة متسارعة حيال ما يتعرّض له أهالي قطاع غزة، من أخطار وجودية طالت الدواء والغذاء، وقضى العشرات من المرضى والأطفال بعد أن نفذ الوقود من خزّانات القطاع.

مشعل في الرياض: فشل ضغوط السعوديين

وكما حصلت الدولة العبرية على ضوء أخضر ومباركة في حرب يوليو 2006 على لبنان، حين نالت بيانات المعتدلين العرب (السعودية ومصر والإردن بوجه خاص) من المقاومة في لبنان لتبرير العدوان الإسرائيلي، وفي الوقت عينه تغليف خذلانها المزمن لقضايا الشعوب، فإن المعتدلين العرب تركوا غزة تواجه مصيرها منفردة، فلا بيان استنكار، كما عوّدنا البيانيون العرب، وفوق ذلك منعوا الشعوب العربية من الصراخ نيابة عن الشعب الفلسطيني، فقد أرادوا موت ضمير الأمة. لم نسمع من السعودية شجباً ولا عوناً لقطاع غزة، وكأنهم قد أبلغوا بقرار الحصار الإسرائيلي قبل وقوعه، فمنحوه صمتهم في العلن وتأييدهم في السر، ولولا تفجّر الشارع العربي والمصري وإصرار الشعب المحاصر على كسر الطوق لما قرر الرئيس المصري حسني مبارك فتح معبر رفح لأيام قلائل كيما لا يبوء بإثم الحصار على شعب أعزل يموت أمام أعين العالم جوعاً ومرضاً وقتلاً وتدميراً..

كانت البوصلة السياسية السعودية تشير إلى غير وجهة فلسطينية، فوضعت نصب عينها كسر إرادة الشعب الفلسطيني كيما تفرض نفسها وصيّاً عليه، فتساوم على جوعه، ودمه، وجراحه. ألم يكن مستغرباً، أن تطلب الرياض من قادة حماس التنازل بعد أن نفّذت الدولة العبرية أهدافها في الحصار، وكأن لعبة (توزيع أدوار) قد جرت في الغرف المغلقة، بأن يفرض الإسرائيليون الحصار الشامل على غزة، لتقوم مصر والسعودية والأردن في وقت لاحق من أجل جني الثمار، والحصول على تنازلات من قادة حماس.

مصادر فلسطينية كشفت بأن السعودية مارست ضغطاً على قيادة حركة حماس من أجل إرغامها على التراجع عن سيطرتها على قطاع غزة وتسليم جميع المقرّات الأمنية للرئيس محمود عباس كخطوة أولى على طريق بدء الحوار بين حركتي فتح وحماس، بينما تواصل القيادة المصرية ضغوطها على حماس عبر حوار منفرد كيما تتخلى عن السلطة في غزة والإذعان لقيادة عباس وتسليم المقرّات الأمنية في غزة لحكومة سلام فيّاَض. بعد عودة وفدي حماس من القاهرة والرياض، صدرت تصريحات عن رئيس المكتب السياسي خالد مشعل، ووزير الخارجية في حكومة إسماعيل هنيّة، محمود الزهار، بأن حماس مستعدّة لتسليم المقرّات الأمنية والحكومية في غزة لمحمود عباس ولكن عبر حوار وطني.

في زيارة خالد مشعل الى الرياض في 27 يناير الماضي ما يحمل مؤشّرات على دور سعودي منافس للدور المصري، رغم ما يقال عن التنسيق بين البلدين بشأن الملف الفلسطيني كجزء من عملية استبعاد إيران عن الشأن الفلسطيني، وخصوصاً العلاقة الوثيقة التي تربط إيران بعدد من حركات المقاومة الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي. مصادر فلسطينية ذكرت بأن السعودية مارست ضغطاً كبيراً على السيد خالد مشعل والوفد المرافق له، من أجل إنتزاع الموافقة على تسليم المقرّات الأمنية الخاضعة تحت سلطة حكومة حماس بقيادة هنيّة للرئيس عباس، وإقناعها بضرورة البدء الفوري في حوار فلسطيني للخروج من الأزمة التي تعصف بالفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، على قاعدة أن السعودية تضع ثقلها كأحد الدول العربية المؤثّرة على قرار حركة حماس والراعية لاتفاق مكة الشهير بين قيادة حركتي فتح وحماس.

مشعل الذي التقى وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في 28 يناير تلقى طلباً سعودياً مشروطاً، حيث أكّد على أن رفع الحصار يتوقف على تسليم السلطة في غزة لمحمود عباس، كما هو الحال في عودة الحوار مع حركة فتح الذي هو الآخر يتوقّف على تسليم حركة حماس للمقرّات الأمنية، ووعد سعود الفيصل خالد مشعل بمساعدات سعودية سخيّة في حال وافقت حماس على ذلك الشرط. مصادر سعودية ذكرت بأن في جعبة السعوديين أمراً آخر لم تفصح عنه لقيادة حماس، وتنتظر الظروف المناسبة لطرحه ألا وهو مبادرة السلام المعدّلة والتي تم طرحها في قمة الرياض في مارس العام الماضي، والقاضية بإسقاط مبدأ حق العودة وتسهيل مشروع التوطين، وهو ما ترفض حركة حماس المساومة عليه أو بحثه، لأن ذلك يتناقض مع عقيدتها الدينية والسياسية، بل يضرّ بمصداقيّة الحركة على المستويين الفلسطيني والعربي.

وبالمثل، سمع وفد حركة حماس الذي زار القاهرة للقاء القيادة المصرية رسالة بالفحوى ذاتها، مع أن البحث تركّز في بدايته على حل أزمة معابر قطاع غزة، وضغطت القيادة المصرية من أجل عودة المراقبين الأوروبيين أي العودة الى صيغة الإتفاقية الموقّعة من اللجنة الرباعية (إسرائيل، السلطة الفلسطينية، مصر، الإتحاد الأوروبي) التي تشرف على المعابر بشروط وقيود صارمة للغاية، وهي ما رفضتها حركة حماس بشدّة لأنها ترهن قرارها بيد من هو أقرب الى الإسرائيلي، ما يجعلها في مرمى المساومات السياسية والأمنية المذّلة بصورة دائمة. يقول قادة حماس بأن تفاهمات عام 2005 حول المعبر تمّت بصورة خادعة وخلسة من دون معرفة الشعب الفلسطيني، وقد انتهت سنة 2006، ثم جدّدت لاحقاً واستمرت حتى منتصف العام 2007 دون علم الحكومة التي يرأسها إسماعيل هنيّة أو المجلس التشريعي، ولذلك فإن الإتفاقية غير قانونية بصرف النظر عن الأشخاص الذين وقّعوا عليها، وعلى رأسهم رئيس جهاز الأمن الوطني محمد دحلان. اللافت أن الإتفاقية الخاصة بمعبر رفح صيغت لحماية وتحصين الدولة العبرية، بما تحتوى على تدابير صارمة مذّلة للشعب الفلسطيني بحيث لا يدخل ولا يخرج من قطاع غزة إلا من يحمل وثيقة فلسطينية فحسب، وأن يتم إيصال معلومات تفصيلية للحكومة الإسرائيلية عن كل مغادر أو قادم من المعابر، على أن تتولى القوة العسكرية الحدودية المصرية مسؤولية مراقبة معبر رفح لمنع دخول الأسلحة أو المسلّحين إلى القطاع، وجعلت الدولة العبرية من الملحق الأمني الخاص باتفاقية فيلادلفيا الخاص بالمعابر جزءً لا يتجزأ من إتفاقية كامب ديفيد مع مصر سنة 1979.

وفد حركة حماس في القاهرة أدرك بأن ثمة أهدافاً تكمن وراء دعوة القاهرة والرياض لقيادات فلسطينية من حركة حماس، فقررت ألا تعطي إلتزاماً يكبّل خياراتها السياسية، وتفادت إجراء لقاءات ثلاثية بين حاس وفتح ومصر، لأنها قد تحيل حماس الطرف الأضعف، وهي تدرك سلفاً بأن مصر ستكون ممثلاً نموذجياً للأطراف كافة: الأميركية، والاسرائيلية، وكذلك سلطة محمود عباس. إكتفت حماس بالموافقة العلنية على الحوار الثلاثي، وإن جعلته مقتصراً على إدارة المعابر في قطاع غزة، ولكن دون فرض شروط مسبقة لعقد الحوار، كما لم تقبل حماس بأن يكون ثمن الحوار تسليم السلطة في غزة لمحمود عباس، وكأنّها تمنحه رقبتها مرة أخرى، بعد أن عتقتها من جهازه الأمني الذي قاده محمد دحلان.

قادة حماس عبّروا عن أملهم في أن تلعب مصر دوراً محايداً في مداولاتها مع فتح وحماس، ولكن ما ترفضه سلطة محمود عباس أن لا حوار مع حركة حماس قبل تراجعها عما تسميّه (الإنقلاب) في غزة، وبحسب المتحدّث بإسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة (إن موقف الرئيس عباس كما أعلنه مراراً وتكراراً هو أن الحوار مع حماس يأتي بعد التراجع عن الإنقلاب)، في إشارة إلى سيطرة حماس في منتصف يونيو 2007 على قطاع غزة.

وفيما يبدو أفق الحوار الداخلي في فلسطين مسدوداً حتى الآن، خصوصاً في ظل تمسّك محمود عباس بشروط صارمة تجعله طرفاً وليس راعياً، فإن قرار (العملية العسكرية) الإسرائيلية الذي وافقت عليه الدول العربية المعتدلة: السعودية ومصر والإردن في أكتوبر الماضي، يقترب من مرحلة أشد شراسة، فيما تحذّر أطراف وقوى فلسطينية من مغبة الضغوطات التي تمارسها دول عربية مثل السعودية ومصر على حركتي فتح وحماس، في وقت تشتدّ معاناة الشعب الفلسطيني جراء الحصار الإسرائيلي الشامل على قطاع غزة الذي فرض مجدداً بعد إعادة إغلاق معبر رفح في الرابع من فبراير، وفي ظل إصرار محمود عباس على رفض الحوار ما لم تسلّم حماس السلطة بالكامل لحكومة فيّاض.

مشكلة الحكومة السعودية تكمن بصورة محددة في أنها تريد فرض وصاية على الشعب الفلسطيني لمجرد أنها تملك مالاً وفيراً تشتري فيه آثار الحصار الخانق على قطاع غزة. تختفي صورة السعودية عن مشهد الحصار اليومي على غزة، حيث لم تكسر هذا الحصار بتقديم المساعدات أسوة بمؤسسات خيرية في مصر ودول الخليج، ولم تتقدّم بمذكرة إحتجاج لدى الأمم المتحدة بوصفها عضواً فيها، دع عنك إستعمال سلاح النفط للضغط على الولايات المتحدة والغرب عموماً من أجل إدانة سياسة العقاب الجماعي التي تتبعها الدولة العبرية.

وفيما يشتدّ الخناق على سكّان قطاع غزة من الجانب الإسرائيلي، تبدو المنافسة السياسية شديدة بين السعودية ومصر على وضع اليد على القضية الفلسطينية. ثمة ما يخفيه كلا الطرفين السعودي والمصري وراء التنسيق الظاهري في الجهود المشتركة من أجل إعادة فتح وحماس إلى طاولة حوار، تدرك الأخيرة بأنه حوار إملاءات يلزم الحركة بالتخلي عن كل ما في يدها من مقدّرات من أجل تهيئة الأرضية السياسية لتمرير مشروع سلام وفق مقاييس أنابوليس المقرر في نهاية نوفمبر الماضي، والتي ترسم خارطة طريق جديدة لسلام ظالم، يحرم الفلسطينيين من حقوق مشروعة أقرّتها هيئة الأمم المتحدة وصدرت بشأنها قرارات دولية مثل 242، 338، 194، وينصّ القرار الأخير على حق العودة للشعب الفلسطيني.

الحوار الوطني الذي عقدته الفصائل الفلسطينية في دمشق وغابت عنه حركة فتح في يناير الماضي لم ينل قبول المعتدلين العرب، كونه يعيد التأكيد على ثوابت القضية الفلسطينية، فيما تملي خارطة أنابوليس المتجاوزة لحدود مبادرة السلام السعودية على أن تتخلي الفصائل الفلسطينية عن ثوابتها الثابتة والمؤقّتة، ومنها حق العودة وإقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقّتة، والقبول بمشروع الدولة اليهودية.

السعودية التي قبلت طائعة أو مرغمة بمقررات أنابوليس، تبدو عاجزة عن استقطاب حماس والجهاد الإسلامي وفصائل فلسطينية أخرى ترفض المساس بحقوق تاريخية دفعت من أجلها دماء غزيرة، ولذلك فإن المنافسة بينها وبين مصر تصبح خارج المضمار الفلسطيني الأصلي، ما لم تقدم السعودية على خطوة إنقلابية إزاء مشروع أنابوليس، أو خطوة إلتفافية توحي وكأنها أقرب الى الجانب الفلسطيني منها الى الجانب الإسرائيلي، كأن تقبل بمقترح إجراء إنتخابات تشريعية ورئاسية شاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو مقترح لا يبدو بريئاً من وجهة نظر حركات المقاومة الفلسطينية، خصوصاً حين يحظى بقبول محمود عباس الذي يتمسّك بشرط نزع سلطة حماس من غزة وتسليمها إليه قبل أي خطوة أخرى، سواء كانت حواراً أم إنتخاباً. توفّر حكومة أولمرت كل الدعم المطلوب لموقف عباس من هذه الخطوة، وهو بدوره يطلب من القاهرة والرياض أن يمارسا ضغطاً على حماس من أجل القبول بتسليمه القطاع، على قاعدة أن أولمرت يرفض التفاوض معه لأنه لا يسيطر على كل الأراضي الفلسطينية.

خلاصة الأمر، أن السياسة المزدوجة التي تتبعها السعودية في قضايا المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية لا تبدو ناجحة، فالاستقطاب الحاد يجعل هامش المناورة والقفز المتواصل بين الجبهات ضئيل الفائدة والجدوى، كما لا يمكن أن تشهر السلاح بيد وتحمل الوردة باليد الأخرى، في زمن لا مجال فيه للعبث بوعي وبصر الضحايا.

الصفحة السابقة