لقاء ميشال سليمان والأمير بندر بن سلطان في لندن

آل سعود للبنانيين: (المبادرة) أو نشعلها فتنة!

سعد الشريف

كانت فرنسا ممثّلة بوزيرخارجيتها برنار كوشنير تجهد لاستعادة دورها التاريخي في لبنان، عبر سياسة محايدة نسبياً، بالرغم من أنها لم تتخلص تماماً من ضغوطات واشنطن التي لحقت، أيضاً، المبادرة العربية. ولأن الدبلوماسية الفرنسية لم تشأ قطع السبيل مع قوى المعارضة، ذات الحجم الجماهيري الأكبر، فإنها تمسّكت بخيار الإنفتاح على الأطراف كافة. ورغم أن كوشنير شهر سلاح (التدويل) من الرياض، الداعم الأقوى لفريق 14 آذار، خلال زيارته في منتصف يناير الماضي، حين قال بأن الملف اللبناني قد ينقل إلى الأمم المتحدة في حال فشل المبادرة العربية، إلا أن الدبلوماسية الفرنسية عادت وسحبت خيار التدويل من التداول الفرنسي، لأن ذلك سيزيد في تعقيد الأزمة اللبنانية ولن يؤول خيار كهذا إلى حسم الخلاف. لبنان ليست ساحل العاج، فأي قوة دولية لن تستطيع ضبط الأوضاع الداخلية، في ظل وجود قوى سياسية ذات إمتداد شعبي وتسليحي واسع.

ساركوزي: تحت تصرّف الرياض

السعودية، التي تراهن على دعم واشنطن وفرنسا دولياً ومصر والأردن والجامعة العربية إقليمياً، ترى بأن أي مبادرة تنتهي إلى نيل المعارضة، وخصوصاً حزب الله، الثلث الضامن أو المعطّل يعتبر هزيمة أخرى لها في لبنان لا تقل عن خسارة رهانها في حرب يوليو 2006. ولذلك أصّرت الرياض على إفشال المساعي الفرنسية ـ السورية في التوصّل إلى تسوية في لبنان، وكان حصول الرئيس الفرنسي ساركوزي على صفقة بقيمة 20 مليار يورو خلال زيارته للرياض، المقابل الذي حصل عليه لقاء وقف المساعي الفرنسية ـ السورية، وتحميل دمشق مسؤولية فشل المساعي في تعيين رئيس للجمهورية، عبر حلفائها في لبنان، ما دفع بوزير الخارجية السورية وليد المعلم إلى عقد مؤتمر صحفي لتوضيح الموقف السوري، وكشفه رسالة تفيد بطلب فرنسي من دمشق من أجل القيام بمساع مشتركة لحلحلة الأزمة اللبنانية.

أفشلت السعودية تحرّكاً فرنسياً باتجاه سوريا لحل الأزمة في لبنان، وفي 28 ديسمبر الماضي تقدّم المدير العام للرئاسة الفرنسية كلود غيان بعرض لوزير الخارجية السوري وليد المعلم، وما لبث أن سحب غيان العرض بعد رفض سعد الحريري له بموجب إملاءات سعودية، التي رأت في العرض تحقيقاً لمطالب سوريا. قرر غيان السفر إلى الرياض لاستيضاح الموقف السعودي، في مسعى لإعادة إحياء العرض الفرنسي، قبل أن يتوجّه سعود الفيصل الى القاهرة للمشاركة في اجتمعات المجلس الوزاري العربي.

تخلّت باريس عن مساعيها مع دمشق، ونقلت ثقلها إلى المبادرة العربية تلبية لرغبة الرياض، وفي ذلك محاولة لحشر سوريا وحلفائها في لبنان في مسار محدد. فبعد أن وصف كوشنير المبادرة العربية بأنها ولدت ميتة، عادت المتحدثّة بإسم الخارجية الفرنسية باسكال اندرياني للقول بأن المبادرة العربية لم تفشل، وأن بلادها ستواصل دعمها الكامل للمبادرة العربية، وعادت باريس لتؤكّد موقفها هذا خلال زيارة سعود الفيصل إليها في الخامس من فبراير، أي قبل يومين من وصول عمرو موسى إلى بيروت، لاستئناف جهوده لإنجاح المبادرة العربية.

ولكن السعوديين لا ينظرون بجديّة للفريق الدبلوماسي الفرنسي بقيادة نيكولا ساركوزي، بنفس القدر الذي كانوا ينظرون إلى فريق جاك شيراك، والسبب يكمن في غياب رؤية فرنسية واضحة وجديدة لدى فريق ساركوزي حول لبنان والمنطقة عموماً، ما يدفع بالسعوديين إلى الدخول على خط الدبلوماسية الفرنسية بين حين وآخر من أجل تعديل وجهته السياسية بالطريقة التي تخدم أهدافها في لبنان.

أخفق ساركوزي في سياسة الإنفتاح الحذر على الجميع في لبنان، رغم أنه لم يغفل مصالح بلاده في عقد صفقات تجارية فلكية مع السعودية والإمارات، فيما قررت دمشق وقف تواصلها مع فرنسا بخصوص الملف اللبناني، بعد أن تبيّنت الطريقة المبتذلة التي أدارت بها باريس حوارها مع دمشق، ثم تحميل الأخيرة مسؤولية الفشل.

السعودية كانت ترى في التحرك الدبلوماسي الفرنسي محاولة لتسوية مع سورية على حساب مصالحها في لبنان، وقد نما إلى علمها بأن التسوية تتصمن المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري، ولكن الفرنسيين قرروا وقف تحرّكهم الدبلوماسي على الفور بعد رسائل عتب سعودي وتحذيري أميركي، وقرروا السير في منعطف حاد والدوران نحو المسار المقرر سعودياً ـ أميركياً، وأعلن ساركوزي عن تخصيص قريب لحصة فرنسا في تمويل المحكمة الدولية. لم يرق لدمشق هذه الإنعطافة البهلوانية الفرنسية، فقررت في لحظة ما الكشف عن كل المراسلات التي دارت بينها وبين باريس بخصوص الملف اللبناني، فيما وقعت الدبلوماسية الفرنسية في مطب الرؤية المؤامراتية السعودية حول ما تعتبره (توزيع أدوار) بين سوريا والمعارضة اللبنانية، ما دفع بالأخيرة إلى تأكيد إستقلالها في أكثر من مناسبة، تصريحاً وتلميحاً. في الوقت نفسه، رفضت المعارضة اللبنانية المبادرة العربية بحسب التفسير السعودي ـ المصري، وهو ما عبّره عنه رئيس تيار التوحيد اللبناني الوزير السابق وئام وهاب في الثاني من فبراير بقوله (إن عمرو موسى لن يحقق أي نتائج سياسية بالطروحات التي يحملها والأفضل ألا يأتي لأن هذه الطروحات تعبّر عن مواقف سعودية ـ مصرية.. نحن نقبل بمبادرة عربية على مسافة من كل الناس وعلى السعودية ومصر أن تضغطا على قوى الأكثرية للقبول بالحل ونحن ننتظر الفرج من مبادرة جديدة ربما تكون أوروبية وتؤدي الى مخرج من المأزق الحالي). السفير السعودي في لبنان عبد العزيز خوجه، أصدر بياناً في السادس من فبراير ردّ فيه على تصريح وهّاب وقال بأن بلاده تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف. وعلى أية حال، فإن القوى السياسية اللبنانية تدرك تماماً بأن السعودية تمثّل الراعي الرسمي لفريق 14 آذار، تماماً كما أن لسوريا حلفاء في لبنان من فريق المعارضة وخصوصاً حزب الله وتيار المردة الذي يتزّعمه وزير الداخلية السابق سليمان فرنجية.

حشدت السعودية بالتعاون مع حلفائها الإقليميين والدوليين كل الجهود وراء المبادرة العربية، وفق تفسير عمرو موسى للبند الثاني، ووظّفته في خلافها مع دمشق، وما إن إطمأنت الرياض إلى دعم الأطراف كافة للمبادرة العربية، حتى بدأت تلوّح بخيار إلغاء مؤتمر القمة العربية المقررة في دمشق في مارس القادم، والإستعاضة عنها بقمة طارئة تعقد في القاهرة لبحث الملفين الفلسطيني واللبناني، واقتفى عمرو موسى الخطوة السعودية محذّراً من أن فشل المبادرة العربية الخاصة بالأزمة اللبنانية سيكون له إنعكاسات سلبية على مؤتمر القمة العربية المقبلة. نظرت دمشق إلى التحذيرات تلك بأنها محاولة ابتزاز رخيصة، وردّت عليها برسالة واضحة مفادها أن إلغاء قرار القمة قرار يصدر عن القمة ذاتها.

ميشال سليمان: ورطة الترئيس

كيف أصبح ميشال سليمان رئيساً توافقياً؟!

وصل عمرو موسى في التاسع من يناير إلى بيروت في محاولة شبه حاسمة لحل الأزمة اللبنانية ممثلة في انتخاب رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة وتشكيل حكومة وحدة وطنية. وفيما كانت بوادر الإنفراج تلوح في أفق المساعي العربية، بعد موافقة رئيس تكتل الإصلاح والتغيير النيابي، ميشيل عون، بعقد إتفاق مع رئيس تيار المستقبل سعد الحريري في مجلس النواب، وهو ما أزال هاجس راود عمرو موسى إزاء إحتمال رفض عون القبول بالمبادرة العربية، ولكن صدمة عاجلة أودت بالمبادرة حين تبلّغ موسى قرار رفض فريق 14 آذار للمقترح، ولكن محاولات أخرى من أجل إتمامه بعد تعديله بإشراك طرف مسيحي للحوار، ممثلاً في الرئيس الأعلى لحزب الكتائب أمين الجميل. لكن الحوار لم يتجاوز الشكل، وبقي المضمون على حاله، فثمة إصرار لدى فريق 14 آذار على تطبيق بند الرئاسة فحسب، وتأجيل الحديث عن الحكومة التوافقية إلى ما بعد تثبيت قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.

السؤال: مالذي تبدّل في موقف فريق 14 آذار من العماد سليمان بعد أن كانت ترفضه خياراً رئاسياً، على خلفية قربه الى المعارضة منه إلى السلطة، خصوصاً بعد أن نجحت قوى المعارضة في تنظيم إعتصام شعبي واسع العام الماضي حظي بحماية الجيش من أية محاولات تخريب؟

مصادر سياسية وصحافية في العاصمة البريطانية، ذكرت بأن لقاءً جرى بين قائد الجيش ميشال سليمان بالأمير بندر بن سلطان، رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي، في لندن في ديسمبر الماضي، وجرى التباحث بين بندر وسليمان حول شروط قبول الأخير رئيساً للجمهورية اللبنانية، وما يلزم عليه فعله حال وصوله إلى قصر بعبدا في قضايا مثل: علاقته بالقائد الماروني ميشيل عون، وحزب الله، والحكومة المقبلة، والقوانين والسياسات السابقة التي تصّر المعارضة على مناقشتها ومراجعتها.

بقي خبر اللقاء بين ميشال سليمان وبندر بن سلطان طي الكتمان من جانب المعارضة، إلا أن زيارة سليمان إلى القاهرة في نوفمبر الماضي نبّهت إلى أن ثمة مياهاً تجري على تخوم خيمة المعارضة وتستهدف تطويقها، ما دفع بها إلى مراجعة عاجلة لمواقفها من المبادرة العربية. وفيما تتمسك قيادات المعارضة بالحفاظ على هيبة الجيش وإبعاده عن حلبة التجاذبات الداخلية، فإنها تعاطت مع أنباء محاولات إحتواء ميشال سليمان من قبل السعودية والتبدّل الفجائي لاحقاً في موقف 14 آذار اللبناني بقدر كبير من الحذر، فعادت للتأكيد على خيار (الثلث الضامن)، بهدف حماية نفسها من أية إنقلابات مستقبلية. وفيما عبّرت قيادات المعارضة عن خشية من تبدّل في موقف ميشال سليمان عبر إحتواء وزراء محسوبين عليه، بنفس الأسلوب الذي وقع فيه وزراء كانوا محسوبين على الرئيس اللبناني السابق إميل لحود، فإنها لم تشأ أن تدفع مواقفها المباشرة للتعريض بسليمان بوصفه رمزاً للمؤسسة العسكرية.

وبرز مؤشر لافت في تبدّل علاقة قائد الجيش بالمعارضة، ما دفع برئيس تحرير (الأخبار) إبراهيم الأمين أن يتساءل في السابع عشر من يناير الماضي: كيف يرفض سليمان ملاقاة عون ويزور جنبلاط وجعجع؟، وهو سؤال أنتجه تطوران لافتان: الأول زيارة ديفيد ولش منفرداً في المرة الأولى وبصحبة إليوت إبرامز في المرة الثانية والتي كانت تهدف إلى تصليب موقف 14 آذار، وتقديم تطمينات لأقطابه من أجل مواصلة السير لأشهر قلائل في طريق التشدد في المواقف السياسية مقابل فريق المعارضة، على أساس أن ثمة متغيرات دراماتيكية ستحصل في المنطقة (إشارة إلى حرب محتملة سواء بين واشنطن وطهران أو الدولة العبرية ولبنان)، وتقديم قيادات سورية إلى المحكمة الدولية. الثاني: مكالمة شهيرة بين وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس ونظيرها الفرنسي برنار كوشنير أثناء وجوده في بيروت، حيث طلبت منه مغادرة لبنان وعاتبته: هل تريد أن ينتصر أعداؤنا على الأصدقاء؟

هذان التطوران حصلا في وقت كان ميشال سليمان يتأهب للسير تدريجياً في الطريق المؤدية إلى قصر بعبدا، ولكنه سير يتطلب حذراً شديداً في التعاطي مع فريقي الموالاة والمعارضة. أشاع سليمان في الأجواء اللبنانية بأنه يرفض أية إتفاقيات أو تعهّدات مع أي طرف، وأنه يقف على مسافة واحدة من الطرفين، إلا أن ما عكّر تلك الأجواء قرار سليمان رفض تلبية دعوة مفوّض ومفاوض المعارضة ميشيل عون، فيما كان يلبي دعوات قيادات أخرى في الموالاة والتي خاضت في سنوات الحرب الأهلية مواجهات عسكرية مع الجيش وقتلت عناصره مثل سمير جعجع ووليد جنبلاط.

علاوة على ما سبق، فإن حوادث (الأحد الأسود) في 27 يناير الماضي كانت اختباراً حقيقياً للجيش وقائده ميشال سليمان، الذي وجد نفسه وجهاً لوجه مع جمهور المقاومة والمعارضة بصورة عامة، وربما هناك من أراد أن يحرقه مرشحاً في هذه المنطقة، بعد أن تكشّفت أسرار المحاولات السعودية لجهة دفعه للإصطدام بالمعارضة وجمهورها، وبالتالي تحميل الأخيرة مسؤولية إخراج ميشال سليمان من معادلة الرئاسة اللبنانية، وقد أشار إلى ذلك زعيم اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط، الذي زار الرياض في الثاني من فبراير لبحث الخيارات البديلة بعد فشل خيار (التصادمات السياسية والأمنية) بين حزب الله والتيار الوطني الحر، والمعارضة والجيش.

وفيما بدأت قوى سياسية تشحذ خيارها الميليشياوي بعد إخفاقها في الحصول على نتائج كبيرة من حوادث (الأحد الأسود)، كانت ثمة تعليمات تصدر عن الرياض وواشنطن إلى حلفائهما في لبنان بالإستعداد للأسوأ، وإن تطلب تعطيل إنتخاب الرئيس، وتفويض رئيس الحكومة فؤاد السنيورة صلاحيات إضافية، إستعداداً لمرحلة إضطرابات أمنية، يراد لها أن تبدأ بالجيش من أجل تفكيكه لتكون مقدّمة لاستبدال عقيدته القتالية، وتهيء الأرضية لاستدراج حزب الله للنزاع الداخلي بعد أن فشلت الدولة العبرية والحكومة اللبنانية في إضعاف قوته العسكرية.

ظلّ رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري متمسّكاً برؤية واضحة للحل تقوم على تفاهم جدي سوري سعودي، وهو وحده الكفيل بتسوية الأزمة وسحب فتيل الفتنة، والشر المستطير. ولكن المشكلة تكمن في أن السعودية مازالت تصرّ على تغريم سوريا مقابل ما تعتبره الرياض ضلوعاً سورياً مباشراً في مقتل قطبها الأكبر رفيق الحريري، ولابد أن تدفع ثمن ذلك، ولكن حقيقة الأمر أكبر من مقتل الحريري، فالتحوّلات الجيوبولوتيكية بعد الحرب الباردة، ومن ثم الحرب على العراق وتبدّل صيغ التحالفات السياسية الإقليمية وضعت السعودية في وجه سوريا بوصفهما قطبين متنافرين في الشرق الأوسط بحكم النظام العالمي الجديد الذي تقوده واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون. لم يكن محض صدفة خلاف الرياض ودمشق على ذات الموضوعات التي تختلف فيها الأخيرة إلى جانب طهران وقوى أخرى، مع واشنطن مثل: فلسطين ولبنان والعراق وإيران..

يبقى أن المقترح القطري مازال راجحاً كونه يرسم مسافة متساوية بين الموالاة والمعارضة، ويرى في الحل التوافقي المتوازن سبيلاً للخروج من أزمة الثقة بين الفريقين، حتى ذلك الوقت سيبقى خيار ترشيح قائد الجيش في غرفة الإنعاش حتى إشعار آخر، ونتمنى أن يكون الإشعار خيراً.

الصفحة السابقة