بلوغ الحافات القصوى

السعودية تدخل مرحلة هستيريا سياسية

هاشم عبد الستار

زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل لواشنطن في الرابع عشر من فبراير واجراءه مشاورات مغلقة مع الرئيس بوش، وزيارته إلى فرنسا قبل ذلك للضغط عليها من أجل تشديد الضغط على سوريا أوروبياً وحشد الأطراف كافة لإفشال القمة العربية، ثم عودته في الثامن عشر من فبراير إلى باريس ولقائه بساركوزي وعمرو موسى وفؤاد السنيورة مجتمعين، كانت من أجل إيصال رسالة متعددة الأغراض: إنتخاب ميشال سليمان أولاً وأخيراً، إفشال القمة العربية في دمشق، والإستعداد للمواجهات المقبلة في المنطقة، والتي ستطال لبنان وسوريا وإيران..

في لبنان، تخطط السعودية إلى زرع الفتنة الطائفية لاضعاف الجبهة الداخلية لحزب الله فيما يستعد لخوض حرب على الحدود الجنوبية ضد الدولة العبرية. وفي العراق، تشارك السعودية في محفل الدم اليومي، وتدفع الأموال لتعطيل قانون النفط، وإيقاف تصديره عبر ميناء البصرة. وفي فلسطين، تحيك السعودية المخططات مع حكومة محمود عباس بالمال والتوجيه لإضعاف حكومة حماس وتصفية قياداته، وما المحرقة الإسرائيلية في قطاع غزة، وصمت المعتدلين العرب المشين سوى إشارة بالغة الدلالة على تواطؤ فاضح.

النشاط الدبلوماسي السعودي على المستوى الدولي، وهو بالمناسبة نشاط غير مسبوق، أثار سؤالاً كبيراً عن سر هذه الصحوة الهستيرية للطاقم الدبلوماسي السعودي، فيما وضعه آخرون في سياق رد سعودي على نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، الذي وصف الدور السعودي الإقليمي بأنه مصاب بالشلل؟

ما يبدو حتى الآن، أن الماكينة الدبلوماسية السعودية جرى شحنها بوقود ليس من سنخها. وصف البعض الطاقة المفرطة في جسد الدبلوماسية السعودية بأنها من النوع المهلك، كمن يثبّت أجنحة طائرة جامبو على سيارة صغيرة، بحيث تنطلق بسرعة قصوى لا تقوى كوابح من أي نوع على الحد من سرعتها، يضاف إليه الغرور غير المسبوق الذي أصاب الأمراء السعوديين، حتى باتوا يتصرّفون وكأنهم جبابرة، وعتاة في السياسة، والآمرين الناهين في كل شؤون المنطقة.

بات يعلم المراقبون لنشاطات السياسة السعودية في المنطقة، أن للأخيرة رجالاً، يأتمرون بأوامرهم، وينفّذون سياساتهم، فلهم في العراق رئيس وزراء العراق الأسبق إياد علاوي ورئيس جهاز المخابرات الوطني محمد الشهواني إلى جانب عدد آخر من القيادات العراقية المحسوبة على أهل السنة، ولهم في لبنان فريق السلطة من كل الطوائف، ولهم في فلسطين رئيس جهاز الأمن الوقائي السابق، ورئيس لجنة الداخلية والأمن في المجلس التشريعي الفلسطيني، ولهم في سوريا نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام..أما الدول العربية الأخرى فقد سيطروا على رؤوس بعضها، حتى باتوا هم حكّام الظلّ، حتى قيل بأن آل سعود يحكمون المغرب، وما محمد السادس إلا ملكاً صورياً.

أما لماذا أصيبت الدبلوماسية السعودية بهستيريا غير مسبوقة، وكأن العاملين عليها قد شربوا (حليب سباع) كما يقال في العاميّة، فإننا نلحظ جنوحاً غير مسبوق إلى السير نحو الحافات القصوى في العمل الدبلوماسي، حتى لم يعد خافياً تحريض السعودية على الحرب ضد سوريا وإيران، وحلفائهما، بعد أن كان سعود الفيصل نفسه الطرف المتشدد ضد قرار الحرب في مقابل الأمير بندر بن سلطان الذي عمل على تسهيل اندلاعها.

في 14 فبراير الماضي، كشفت صحيفة (كوميرسانت) الروسية عن زيارة خاطفة لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل لموسكو إستغرقت ساعات قليلة، والتقى مع رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين لمدة أربع ساعات. وفيما اكتفت مصادر الكرملين بالقول أن سعود الفيصل بحث مع بوتين الوضع في الشرق الأوسط والتعاون الثنائي بين روسيا والسعودية، فإن الصحيفة أشارت الى أن سعود الفيصل حمل رسالة من الملك عبد الله إلى بوتين تناولت تطورات الوضع في الشرق الأوسط. وقالت الصحيفة أن كل الدلائل تشير إلى أن الوزير السعودي حمل رسالة أخرى غير خطية تناولت القلق السعودي بشأن التعاون الروسي الإيراني، على أساس أن مثل هذا التعاون يؤدي إلى تقوية إيران، وبالتالي إلى زعزعة الإستقرار في الشرق الأوسط.

وتضيف الصحيفة بأن سعود الفيصل عرض خطة لدرء ما وصفه بالخطر الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، تقوم على مشاركة موسكو والرياض في لعب دور رئيسي لتنفيذها. واقترحت السعودية على روسيا صفقات متعددة إذا هي توقفت عن التعاون مع إيران، وخصوصاً في المجال النووي والعسكري. وكتعويض عن الخسائر المالية التي ستلحق بالجانب الروسي في حال أوقف تعاونه مع إيران، أبلغ الفيصل بوتين بأن السعودية تعتزم التعاقد على شراء ما تنتجه روسيا من معدات عسكرية، من بينها التوقيع على صفقة مدرعات (ب إم ب 3) بقيمة إجمالية تقارب 200 مليون دولار، وصفقة دبابات (تي 90 إس)، بقيمة إجمالية مقدارها 600 مليون دولار، وصفقة مروحيات بقيمة إجمالية تقارب 1.6 مليار دولار. كما ستدعو الرياض روسيا للدخول في تعاون إقتصادي إستراتيجي يرتقي بحجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 50 مليار دولار بعد خمسة أعوام. يضاف الى ذلك، ستكون السعودية على استعداد لمنح الشركات الروسية وضع الشركات الأجنبية الأكثر تفضيلا خلال العمل في المملكة. وتقول الصحيفة: من المنتظر أن يؤكد السعوديون جديّة نواياهم في مقابلة مع ممثلي الشركات الروسية الكبيرة في أقرب وقت من خلال مؤتمر لرجال الأعمال الروس والسعوديين.

ورغم التزام الطرفين الصمت حيال ما نشرته الصحيفة الروسية، إلا أن مصادر الكرملين أعلنت في الخامس عشر من فبراير بأن بوتين يؤيّد العرض السعودي. وقد فسّرت مصادر صحافية روسية بأن أول مؤشر على التأييد الروسي برز في الموافقة الروسية غير المشروطة على المرحلة الثالثة من العقوبات الدولية على إيران. ولفتت هذه المصادر الى أن الأخيرة سهّلت على الجانب الروسي الموافقة على العقوبات، على إثر تصريح سفير إيران لدى أذربيجان والذي ألمح فيه إلى إمكانية تأييد بلاده لفكرة طرحتها رئيسة الوزراء الأوكرانية تيموشينكو لتنفيذ ما أسمته بـ (مشروع خط الغاز الأبيض) وتوجيه طهران إنذار ضمني إلى موسكو التي أعلنت استعدادها للتصويت لصالح تبني مشروع قرار عقابي جديد بشأن إيران في مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي وظّفه سعود الفيصل على نحو عاجل، حيث أدرج موسكو في أجندة جولته الدولية وقام بزيارة قصيرة لموسكو استغرقت عدة ساعات، حمل فيها رسالة من الملك عبد الله إلى بوتين وتقديم العرض آنف الذكر.

من جهة ثانية، شنّت الدبلوماسية السعودية حملة ضارية من أجل إفشال القمة العربية المقرر انعقادها في نهاية شهر مارس الجاري، فتولى سعود الفيصل البعد السياسي فيما تولى رئيس الاستخبارات العامة مقرن بن عبد العزيز البعد الأمني. قام سعود الفيصل بجولة عربية ودولية من أجل قطع الطريق على إمكانية انعقاد القمة. وقد بدت الرياض في النصف الثاني من فبراير الماضي وكأنها تقوم بعملية اختطاف للقرار العربي، وتريد فرض إرادتها على أعضاء الجامعة العربية من أجل منعهم من المشاركة في قمة دمشق، بل قامت باستدراج البوارج العسكرية الأميركية الى الشواطىء اللبنانية والسورية للضغط على سوريا والمعارضة من أجل إرغامهما على القبول بالشروط الأميركية ـ السعودية.

تهويل سعودي

كرّت سبحة المواقف السعودية التهويلية فور وصول البارجة كول بالقرب من الشواطىء اللبنانية، بدأت أول مرة بإصدار الخارجية السعودية تحذيراً لرعاياها بـ (عدم السفر الى لبنان ضماناً لأمنهم وسلامتهم وعدم تعرّضهم لأي مكروه)، تحذير وصفته صحيفة (النهار) في 19 فبراير الماضي بأنه (أشاع جواً من القلق لدى اللبنانيين)، وأنه يحدد مسار الطريق الذي ستسلكه سوريا، حيث جاء التحذير (في لحظة تقاطع إقليمية دقيقة، على مستوى العلاقات السورية ـ السعودية) حسب الصحيفة. وكان التحذير السعودي فاتحاً لسلسلة بيانات تحذير مماثلة صدرت عن سفارات خليجية وغربية لرعاياها في لبنان، الأمر الذي أثار أجواء حرب نفسية بين اللبنانيين الذين استغربوا مثل هذه البيانات في هذا التوقيت، بالرغم من أن الوضع الأمني في لبنان لم يصل الى مستوى لهجة التحذير السعودي. مصادر لبنانية وصفت البيان بأنه يندرج في سياق الضغط المتواصل على المعارضة اللبنانية من أجل القبول بخيار انتخاب الرئيس أولاً، وليس تطبيق السلّة المتكاملة لمبادرة الجامعة العربية.

صحيفة (السفير) البيروتية ذكرت في 20 فبراير الماضي بأن التحذير السعودي بعدم سفر رعاياها الى لبنان (ترك أثره السلبي في الأوساط الدبلوماسية العربية والغربية في العاصمة السورية، لجهة ما ينبئ به من تشاؤم، خصوصاً، انه يأتي بعد جولة واسعة قام بها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إلى أوروبا والولايات المتحدة). ونقلت الصحيفة عن أوساط دبلوماسية غربية قولها أن الإنذار السعودي (جاء مفاجئاً في توقيته، خاصة أن المملكة لم تقدم على مثله، حتى في أكثر الأوقات توتراً على الصعيد اللبناني)، وقالت إن الأمر (ربما يؤشر إلى بدء مرحلة جديدة من التوتر)، وإن (هذا الإعلان يشكّل علامة فارقة، وربما يدل على رغبة المملكة في التدخل الميداني لبنانياً).

الخطوة الأخرى التالية تمثّلت في إعلان السعودية عن تغطية العجز الذي يعانيه تمويل المحكمة الدولية، مشفوعاً ـ أي الإعلان ـ بتسريب معلومات ذات طابع تهويلي، نسبت إلى مصادر أمنية غربية عن احتمال استهداف مصالح سعودية في لبنان، وصف بأنه رد فعل على دخول السعودية على خط المحكمة الدولية. أعقب ذلك، إعلان السفير السعودي في بيروت عبد العزيز خوجه عن تهديد أمني تعرّض له أحد موظفي السفارة، بالرغم من أن مصادر أمنية لبنانية أكّدت لصحيفة (النهار) بأنه (لم يرصد أي عمل يمكن أن يبنى عليه جديّاً)، بل ربطت المصادر التحذير السعودي بأنه يندرج في سياق الخلاف السعودي ـ السوري على القمة العربية، ويأتي ضمن محاولات الرياض لعزل دمشق، ويمكن النظر إليها على كونها نزوعاً سعودياً عاماً إزاء سوريا وإيران.

سعود الفيصل الذي قاد حملة دولية ضد سوريا وإيران عبر موضوع لبنان أثار أجواء توتر في كل أرجاء المنطقة، وانتقل من واشنطن الى موسكو مروراً ببارس من أجل حشد الدعم اللازم للمحكمة الدولية والتحرّيض على سوريا وإيران. أطراف لبنانية وسورية وصفت جولة سعود الفيصل بأنها (تهيئة لظروف حرب واسعة النطاق)، ستشارك فيها بصورة علنية هذه المرة، وقد تشعل حريقاً هائلاً في المنكقة.

مصادر صحافية ذكرت أن عواصم غربيّة، وخصوصاً موسكو ومعظم دول الإتحاد الأوروبي المشاركة ضمن قوات (اليونيفيل) رفضت التجاوب مع الأفكار السعودية التي حملها إليها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل لإحكام الطوق على سوريا عبر إحالة ملف لبنان الى مجلس الأمن مجدداً. ونقلت المصادر أن سعود الفيصل زار دمشق سراً في فبراير الماضي، وأبلغ القيادة السورية عرضاً سعودياً يقوم على منح فريق الموالاة الكفة الراجحة على أساس معادلة 14+9+7، ورفضت دمشق هذا العرض على أساس أنه يخالف البند الثاني من المبادرة العربية الذي يمنع أي طرف من الترجيح أو التعطيل، واعتبر سعود الفيصل قبول دمشق العرض السعودي شرطاً لمشاركة الملك عبد الله في القمة.

وما إن عاد سعود الفيصل الى الرياض حتى أعدّ الخطة البديلة، بأن قاد حملة دبلوماسية واسعة النطاق من أجل تضييق الخناق على دمشق. بالمثل، بدأت الإدارة الأميركية حملة موازية لعرقلة انعقاد القمة عبر تأجيج الخلافات العربية والتلويح بـ (تدويل) الأزمة الرئاسية في لبنان، وإعادة تصعيد موضوع المحكمة الدولية. تزامن ذلك مع تصريحات مكرورة لقيادات دول الإعتدال (أن سورية وحلفاءها في لبنان يتسببون في أزمة تعطيل الحل وانتخاب الرئيس)، فيما تزايد تنسيق المواقف بين ثالوث الاعتدال حيال النظام السوري. بيد أن ما أفشل سياسة العزل ضد سوريا، أنها جاءت تحت غطاء أميركي، وفي ظل عدوان إسرائيلي شرس على أهالي قطاع غزة، الأمر الذي وضع دول الإعتدال الثلاث في سياق التآمر على الشعب الفلسطيني الذي عانى من محرقة إسرائيلية في ظل صمت عربي مريب، وهو ما أسقط ورقة أميركية ـ فرنسية ـ سعودية في معركة ضد معسكر الممانعة، بالرغم من التصريحات الحادّة التي أطلقها حسني مبارك وعبد الله الثاني والأمراء السعوديون.

الصفحة السابقة