الرياض تتحوّل الى مطبخ مؤامرات

واشنطن تلوّح بالبوارج، والسعودية بالفتنة الطائفية

خالد شبكشي

زيارات، رسائل، لقاءات، إتصالات على مستويات عدة إقليمية وعربية ودولية محورها الرياض، وملفاتها الرئيسية لبنان، قمة دمشق، الملف النووي الإيراني، والوضع الإقليمي بصورة عامة في ظل الحديث المتصاعد حول حرب وربما حروب في المنطقة.

في جولة ناشطة شملت باريس وبرلين ولندن وموسكو وواشنطن ونيويورك قام بها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، كانت تستهدف تدويل ملف الرئاسة اللبنانية، وتعجيل إجراءات المحكمة الدولية في قضية إغتيال الحريري، وتشجيع هذه العواصم على فرض عقوبات على مسؤولين سوريين، واعتماد تدابير ضاغطة من اجل عزل سوريا وإيران إقليمياً ودولياً، والسير في طريق التهديد باستعمال الخيار العسكري إذا لزم الأمر.

ما إن عاد سعود الفيصل من جولته التحريضية في أرجاء العالم على سوريا وإيران، حتى بدأت الرياض تتحوّل الى قطب الرحى في مروحة التحرّكات الدبلوماسية والإتصالات السياسية الإقليمية والدولية..

لقاء مبارك ـ عبد الله في الرياض في 24 فبراير الماضي، ولقاء عبد الله ـ عبد الله الثاني في السابع والعشرين من الشهر نفسه، ومبعوثون دوليون يتوافدون تباعاً على الرياض، وتفاهمات عاجلة ثنائية ومتعدّدة الأطراف تجري بوتيرة متصاعدة، لاستكمال التجهيزات الضرورية لمرحلة جديدة تكون فيها لغة الحرب وسيلة التخاطب بين معسكرين: غربي متصاهر مع ثالوث الإعتدال الممثل في مصر والسعودية والأردن، وعربي ممانع ممثل في كل القوى والدول الرافضة للمشروع الغربي في العراق وفلسطين ولبنان والمنطقة بصورة عامة.

في مطالعة لسيرورة التحرّك السياسي السعودية خلال الشهرين الماضيين، كان ملف الأزمة اللبنانية الأكثف حضوراً في عملية التجاذب بين المعسكرين. ومنذ صدور التحذير السعودي في منتصف فبراير الماضي، والأوساط السياسية والإعلامية اللبنانية والعربية عموماً مشغولة بتفسير أبعاده، لكونه خطوة ناشزة ولافتة، ولا تعبّر بأمانة ودقة عن الأعراف السياسية السعودية. ويجمع المراقبون للشأن السعودي بأن التحذير مفردة في مشروع واسع تشارك فيه الرياض بدور محوري، ويأتي في سياق تأزيم الوضع السياسي ليس في لبنان فحسب، بل على مستوى المنطقة وقد يمثّل النسخة العربية لإستراتيجية المحافظين الجدد في تعميم الفوضى الخلاّقة والقائمة على إشعال الحروب كخيار حل، هذا في الخط العام والعريض لنهج المحافظين الجديد، وفي المدى القصير تم استعمال هذا الخيار كأداة عرقلة لأي عملية توافق عربي تكون القمة العربية أحد وسائله، وكذلك عزل سوريا وإحباط مساعيها لفك طوق العزلة المفروضة عليها.

إلتقى الأمير سعود الفيصل في 19 فبراير بأمين عام الجامعة العربية عمرو موسى في باريس لتنسيق مواقف المعتدلين العرب والعواصم الأوروبية في الموضوع اللبناني، كمدخل لحشد الضغط السياسي الدولي على النظام السوري.

في هذا السياق، جاء البيان السعودي التحذيري، والذي وصفه دبلوماسيون في الرياض على أنه (علامة محتملة على تفاقم الصراع الأهلى في لبنان)، أعقبه إنتشار أنباء عن عملية تسليح واسعة النطاق تقوم بها السعودية في لبنان. فقد ذكرت مصادر صحافية لبنانية في 20 فبراير الماضي بأن طائرات تابعة للحرس الملكي السعودي حطّت في مطار بيروت محمّلة بأسلحة، وذخائر ومدافع هاون 120 ورشاشات ماغ إم 16، وبي 7، إضافة إلى ما يربو عن 20 طنٍ من قنابل مسيّلة للدموع، وعصي كهربائية، وغاز ومسدسات صغيرة مختّصة لمواجهة التظاهرات.

من جهة ثانية، وصفت تصريحات سعود الفيصل في 20 فبراير الماضي والتي حملت نعياً للمبادرة العريبة ودعوته بتدخل دولي، بأنها خروج بمسدس أجنبي الصنع لإطلاق رصاصة الرحمة على المبادرة العربية، عبر التهديد بسوء العواقب واحتمال وصول لبنان الى أسوأ العواقب ويجلعه على شفير الحرب الأهلية. مصادر صحافية لبنانية استغربت لهجة سعود الفيصل في نقد التدخل الأجنبي في الشأن اللبناني فيما هو يدعو الى (تدويل) و(تدخل كل الأطراف) في الأزمة اللبنانية بقوله (حان الوقت كيما يتحمل العالم العربي والدولي مسؤولياته تجاه إنقاذ هذا البلد الذي يشكل نموذجاً فريداً في التعايش).

في هذا الصدد أيضاً، لحظنا تلميحاً من رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون بإمكانية استصدار قرار جديد من مجلس الأمن الدولي حول لبنان، وقال بعد اجتماعه مع رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة في 18 فبراير الماضي (نحن قلقون من هذه التطورات ونناقش مع جهات في المنطقة (في إشارة إلى السعودية)، ما يمكن أن نقوم به حيالها وما إذا كانت هناك قضية لاستصدار قرار جديد في الأمم المتحدة وما إذا كنا سنحصل على الدعم لفعل ذلك).

المثير في الأمر، أن سعود الفيصل أراد إيصال رسالة الى المعارضة اللبنانية بأن عدم قبول خيار انتخاب الرئيس سيؤول إلى إشعال الحرب الأهلية، وهي ما سعت القيادات الرئيسية في المعارضة اللبنانية إحباط فرص نشوبها. اقتفى عمرو موسى ذات الخطوة بتحذيره من (العواقب الخطيرة لاستمرار الفراغ الرئاسي). وانعكس الموقف المتصلّب للسعودية على مواقف حلفائه الذين رفضوا أي تفسير متوازن للمبادرة العربية ما لم يكفل، فحسب، إنتخاب ميشال سليمان رئيساً للبنان، ورفض السلّة الكاملة، التي تمنح المعارضة الثلث الضامن أو المعطّل، بل اعتبر قادة فريق الموالاة صيغة (المثالثة) التي يقترحها رئيس مجلس النواب نبيه بري بأنها (هرطقة) بحسب جنبلاط، أو (ذات منشأ سوري) على حد سعد الحريري، أو (نقيضة للطائف) على حد فؤاد السنيورة، ولوّحوا بدلاً عن ذلك بخيار النصف زائداً واحداً. المعارضة بدورها ممثلة في رئيس تكتل التغيير والإصلاح النيابي ميشال عون، ألمح إلى دور سعودي سلبي، كما يبدو في التبدّلات الفجائية في مواقف سعد الحريري، ورجوعه المتكرر الى (التوجيه) السعودي عبر الهاتف خلال الحوار الرباعي في فبراير الماضي.

وبصورة عامة، فقد وظّفت السعودية كل المؤسسات العربية والدولية لجهة تنفيذ خطّتها، فكانت تستغل كل مناسبة لحشد الدعم لمواقفها. ففي اجتماع وزارء خارجية الدول العربية ودول أميركا اللاتينية في العاصمة الأرجنتينية في فبراير الماضي، خاطب سعود الفيصل المجتمعين بـ (تسهيل نجاح المبادرة العربية) في لبنان، وقال (حان الوقت بأن يتحمل العالم العربي والدولي مسؤولياته..)، وطالب (كل من له تأثير أن يستخدم نفوذه فى لبنان لتنفيذ المبادرة العربية). عمرو موسى وصف لبنان بأنه (مشكلة إقليمية خطيرة جداً)، وتبنى موسى موقف الموالاة بقوله يجب إجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية في أقرب وقت، من أجل التوصل إلى حكومة وحدة وطنية، وتفادي العواقب الخطيرة لاستمرار حالة الفراغ الرئاسي).

وإذا كان ثمة نجاح حققته السعودية في محاولاتها للضغط على المعارضة اللبنانية، فإنه يظهر في المناخ النفسي الضاغط على الشارع اللبناني من احتمال اندلاع حرب أهلية أو حرب بين إسرائيل وحزب الله أو كليهما في وقت واحد. أجواء نفسية كهذه من شأنها أن تعيد رسم خطوط تماس في الداخل البناني، ولكن هذه المرة لن تكون على أساس طائفي وإنما على أساس سياسي، بالرغم من محاولات أطراف عدّة محلية وإقليمية ودولية إلى تحويلها الى حرب طائفية.

وما تشكيل لجان أمنية مشتركة بين المناطق التي يحتمل أن تكون مسرحاً لحوادث أمنية، سوى رسالة بالغة الوضوح بأن ما تحذّر منه السعودية قد يكون واقعاً، ما لم تحل أطراف أخرى دون السماح بصبّ الزيت وإشعال عود الثقاب في التجاذبات السياسية اللبنانية التي مازالت محكومة بضوابط سلمية. حجم التورّط السعودي في الملف اللبناني لم يعد مجهولاً، ولا مغفولاً، تماماً كما هو شأن إنحيازها الى المشروع الأميركي ليس في لبنان فحسب، بل في كل الملفات الساخنة في المنطقة وعلى مستوى العالم، وبالتالي فلا يحتاج المرء إلى عناء كبير لتحديد موقع السعودية في التجاذب اللبناني الداخلي، وكذلك الرسائل التي تنوي إيصاله من خلال توتير الأجواء الأمنية في لبنان، بل إن الإنطباع الجديد الذي خلقته الممارسات السعودية لدى الأوساط السياسية والإعلامية في لبنان وفلسطين والعراق أن السعودية باتت محوراً لمؤامرات متوالية يقودها تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة.

الأوساط نفسها تنظر الآن الى السعودية بوصفها دولة فتنوية، وتحمّلها مسؤولية إشعال الفتن الطائفية. وتنطلق هذه النظرة من واقع امتلاك السعودية لسلاحٍ فتّاك لا تقدر دول أخرى على استعماله، وهو صالح للتوظيف في أي مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران أو حتى مع سوريا وقوى الممانعة. سلاح الفتنة المذهبية الذي تلجأ إليه السعودية حينما تكون الأسلحة الأخرى عاجزة عن كسر إرادة الطرف الآخر، يراد له تحقيق هدف مزدوج: تطويق الخصم الذي مازال متفوّقاً عليها في كونه غير خاضع لمشروع أميركي ـ إسرائيلي، وبالتالي فإن الفتنة وحدها قادرة على أن تنسج رواية تضليلية تلهي الضحايا عن التأثيرات الكارثية للدور السعودي في هذا المشروع، والهدف الآخر، هو إشغال الساحات العريبة والإسلامية بالإنقسام الداخلي بدلاً من التفكير في مشاريع التحرر والمقاومة والإستقلال الحقيقي.

تخبر التجارب السابقة التي دخل فيها العامل المذهبي، بأن السعودية تسير إلى الحافات القصوى حتى وإن أفضت إلى كارثة سياسية وأمنية على غرار إحتلال العراق للكويت، ووقوع خضّات أمنية واسعة. ما تصرّ الدولة السعودية على تجاهله، أن لجوءها إلى خيار الفتنة الطائفية لن ينقذ الداخل من ارتداداتها السياسية والأمنية، فالجيل الذي اكتوى بنار الطائفية السعودية في الثمانينات مازال باقياً، وهو العامل الحاسم في تقرير طبيعة العلاقة مع السلطة، ولن يتردد هذه المرة في السير نحو خيار راديكالي، من قبيل إحياء دعوات إستقلالية داخلية، يحلو للنظام السعودي أن يطلق عليها حركات إنفصالية.

مصادر غربية ذكرت بأن ورقة الفتنة الطائفية كانت من بين أهم الأوراق التي حملها سعود الفيصل في جولته الأوروبية والأميركية، وبدت على لهجته الدبلوماسية نكهة مذهبية سواء في حديثه مع الرئيس الفرنسي ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني غوردن براون، خصوصاً وأن الفريق السياسي المحيط بالأخير يميل الى عودة المعادلة العراقية السابقة.

وقد أبلغ سعود الفيصل من زارهم في واشنطن وباريس ولندن بأن بلاده لن تقبل باستمرار المعادلة الحالية في العراق، ولن تتحمّل خسارة أخرى في لبنان، وأن السماح لسوريا وإيران بلعب دور في الملفين العراقي واللبناني يعني زعزعة الإستقرار في المنطقة، على قاعدة ضعف العامل السني. رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة أضفى مصداقية على أحاديث ـ هواجس الفيصل حين تحدّث لنظيره البريطاني عن (خطر شيعي) تقوده إيران، مستفيداً من تصريحات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عن (الحرب المفتوحة)، وأنها تهدد أمن الدولة العبرية، كما تهدد المصالح الغربية في لبنان، والمنطقة بصورة عامة.

وفيما لا يزال أطراف من المعارضة والموالاة في لبنان يبذلون أقصى الجهود من أجل الحيلولة دون إضفاء طابع طائفي على الحوادث الأمنية المتقطّعة، فإن هناك من يريد تعميمها عبر الحديث عن مشاريع طائفية ومذهبية. الرسائل الخطيرة التي وصلت عقب حوادث أمنية أنذرت كل من له مصلحة من الفريقين بعدم الإصغاء لنداء الخارج، وخصوصاً القادم من الرياض بعدم الإنخراط في المستنقع الطائفي، لأن ذلك من شأنه إحراق الأخضر واليابس، كما بشّر بذلك زعيم الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، الذي كان حتى وقت قريب يعتقد بأن البقاء على قمة الجبل أسلم.

بكلمة، لم يعد كافياً التصريح بأن السعودية تسعى الى تعزيز الإستقرار والتوافق في لبنان، فقد باتت طرفاً ضالعاً في التوترات الداخلية، وباتت حاضرة في زواريب بيروت، ولن يخفي حملة السلاح بهوياتهم اللبنانية الراعي الرسمي لهم من خارج الحدود، مهما تخفّت وراء شعارات كبرى حيادية.

الصفحة السابقة