الإزدواجية السعودية في لبنان

من (طائف) التوافق إلى الفتنة الطائفية

محمد السباعي

الجملة النمطية (المملكة تقف على مسافة واحدة من الأطراف كافة) لم تصمد طويلاً في لبنان، خصوصاً هذه الأيام وفي ظل الإستقطاب السياسي الحاد، الذي رسم خطّاً فاصلاً وحاسماً بين خيارين ومعسكرين، ولم يعد ممكناً التلطي وراء دعوى الحياد، السلبي منه والإيجابي، فقد باتت نبرة الخطاب السياسي
علاقات متوترة انعكست على لبنان
المتشنّج بإفرازاته الأمنية اللاحقة محرّضاً فاعلاً على تحديد هوية الفاعلين الرئيسيين في الأزمة اللبنانية الراهنة.

مارس 2006، كان التهامس حول الدور السعودي الرعوي لفريق (الموالاة) مشوباً بالحذر الإيجابي، طمعاً في التوصّل إلى تفاهم يؤول إلى تحييد المفعولات السلبية للتدخّل السعودي. كان الخط الساخن مفتوحاً بين رئيس مجلس الأمن الوطني الأمير بندر ورئيس تيار المستقبل سعد الحريري طيلة جلسات الحوار، إذ لم تعد تصريحات الحيادية السعودية في الشأن اللبناني صالحة للإستهلاك الإعلامي فضلاً عن السياسي. إذ لا يكاد يحسم موقف، سلباً كان أم إيجاباً، من أي من الملفات المطروحة على طاولة الحوار دون ضوء أخضر سعودي، يكشف عنه التراجعات الفجائية عن مواقف الحريري ـ الإبن في قضايا كانت تقترب من نقطة التوافق. لا يعني ذلك تبرئة الدور السوري غير النزيه هو الآخر، فمازالت دمشق رقماً صعباً في المعادلة اللبنانية.

لم يكتب للحوار الوطني أن يستكمل جلساته، في ظل توافقات شكلية داخلية وعابرة تتناقض مع ترتيبات خارجية إنقضاضية. نتذكر الرحلات المكوكية التي كان زعيم اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط الى واشنطن وكذلك زعيم تيار المستقبل سعد الحريري الى الرياض والقاهرة وعمّان، والتي عكست عدّم جديّة الحوار الوطني رغم إصرار رئيس مجلس النواب نبيه على التبشير بمنجز (العيديّة) أول مرة، و(البحصة) المستورة في مرحلة لاحقة.

مهما تكن الأسباب، إنقطعت الوصلة الحوارية في 12 تموز 2006 بين الأفرقاء اللبنانيين، إثر إقدام الدولة العبرية على شن عدوانها الوحشي على لبنان، وجاء البيان السعودي الذي وصف خطف الجنديين الإسرائيليين بـ (المغامرة)، وتحميل حزب الله مسؤولية ردود الأفعال الناجمة عنه، وهو بيان إنفرد في صوغه الأمير بندر وحمّله على حكومة بلاده، ليضع الأخيرة في مواجهة مباشرة ومعلنة مع المقاومة اللبنانية وجمهورها في داخل لبنان وخارجه. وخلال ثلاث وثلاثين يوماً من الحرب، كان الخطاب المذهبي في الإعلام السعودي يعمل بلا انقطاع لتغطية الموقف السعودي الفاقد لأدنى حكمة، وأعيد بعث التراث السجالي المنتج في عقد الثمانينات من القرن الماضي، من أجل تطويق الدعم الشعبي العربي والإسلامي للمقاومة في لبنان.

لم يربح الرهان السعودي في الحرب، وشكّل إنتصار حزب الله صدمة مفزعة لكل من راهن على هزيمتها، ورغم محاولات (تهزيم) المقاومة في الحرب، عبر تكثيف الضوء على مشهد الدمار في الضاحية الجنوبية وقرى الجنوب والبقاع، ولكن خلف الكواليس السعودية كان يدور حديث آخر خلاصته (لقد خسرنا الرهان). لم تكن عبارة الملك عبد الله عن السيد حسن نصر الله بأنه (إبننا) من قبيل المجاملة البدوية، فقد حملت في باطنها إعجاباً مستوراً بقيادته وشجاعته.

محاولات تطويق إنتصار المقاومة في لبنان لم تتوقف، فقد لعب الأمير بندر بن سلطان دوراً إستثنائياً لجهة صنع واقع بديل، يحدّ من تداعيات الإنتصار على المستويين العربي والإسلامي. ولم يكن محض صدفة إنعقاد سلسلة لقاءات بين الأمير بندر ومسؤولين إسرائيليين، من بينهم رئيس الموساد مئير دوغان، في الاردن في سبتمبر وديسمبر 2006، وكانت تدور حول ضرورة التوصّل إلى إتفاقية حاسمة للسلام، تقلب المشهد السياسي في المنطقة. ولم تكن من قبيل الصدفة أيضاً، أن يتقاطر عناصر (فتح الإسلام) ذات العلاقة الحميمية مع شبكة القاعدة الى لبنان مباشرة بعد انتهاء الحرب، حيث كانت تستعد لخوض حرب داخلية تحيك خيوطها، وتمدّها بالمال والخطط عواصم الاعتدال بقيادة السعودية.

منذ بدء جلسات الحوار الوطني اللبناني في الثاني من
جنبلاط.. أيّ دور أوكلته له السعودية؟

في غضون ذلك، إنطلقت جلسات التشاور في نوفمبر 2006، في ظل تصدّع خطير في جدار الثقة بين الفرقاء المشاركين، عقب حرب مصيرية سقطت فيها رهانات وأهداف طموحة كالتي عبّرت عنها وزير الخارجية الأميركية رايس بولادة شرق أوسط جديد. بدأت المعارضة تطرح، وبقوة، الثلث الضامن، فيما شهرت الموالاة مجدداً سلاح المحكمة الدولية. وفي كل مرة، يخفق فيها الطرفان في التوصّل إلى حل توافقي، كان (الخارج) جاهزاً للحسم، وإن تطلّب أحياناً (ضحية) في الداخل. فثمة (جنازة سياسية) مطلوبة لإزالة إنسداد أفق الحل في الداخل، لتحريك المجتمع الدولي، وتبرير صدور قرارات دولية.

الفتنة المذهبية كانت فصلاً آخر، لم يكن غائباً في التجاذب الداخلي. فالتنظيمات السلفية المسلّحة التي تسلّلت بكثافة عالية عبر الحدود الجوية والبرية إلى داخل لبنان في الفترة ما بين تشرين الثاني وكانون الأول 2006، مثّلت الإحتياطي الإستراتيجي لأطراف محلية لبنانية وخارجية خليجية وأميركية. وقع الإختيار على شاكر العبسي، الضابط في المخابرات العسكرية الأردنية، الذي انتقل من الأردن بطائرة خاصة الى بيروت، حيث مكث أياماً في مخيم برج البراجنة، لينتقل بعدها الى عين الحلوة في محيط صيدا، في مهمة تجنيد أنصار من فلول التنظيمات الفلسطينية التي بقيت دون رعاية معيشية، لينتقل بعدها إلى مخيم نهر البارد في الشمال اللبناني عبر غطاء موالاتي أمني. قدّمت أيضاً الى لبنان مجموعات سعودية من منفذين جويين: دبي والمنامة في الفترة ذاتها، لتنفيذ مهمة خاصة، أوهموا بأنها لحماية (أهل السنة في لبنان!). وللمرء تخيّل كيف دخل العنوان المذهبي بعد حرب يوليو 2006، بعد أن كان غائباً، سوى ما يتم تهريبه من الخارج كتداعيات للوضع العراقي غير الملزم لأحد.

تفاصيل المواجهات بين مقاتلي (فتح الإسلام) والجيش اللبناني منذ البداية وحتى الخاتمة باتت معروفة، ولكن ما تم إغفاله أن ثمة توجيهاً مقصوداً لإدماج القضية ضمن لعبة المحاور، فيما كانت كثافة التمثيل السعودي، كماً ونوعاً، بين جماعة فتح الإسلام، كفيلة بفتح نافذة واسعة على مخطط له ذيول خارجية غير منظورة. قصص عوائل الضحايا من السعوديين تلفت إلى أن ثمة (أمر عمليات) صدر على نحو فجائي لأبنائهم، الأمر الذي جعل اختفاءهم مستغرباً، تماماً كما هو شأن فنائهم الذي مازال أولياء الأمور يبحثون عن أسراره.

على أية حال، ليس هناك غير الجيش اللبناني من هو قادر على الكشف عن نتائج التحقيق مع المعتقلين من عناصر فتح الإسلام، ويبقى الكلام حول مصير العبسي، الذي يقول مصدر أمني أردني بأنه مذخور لمهمة أخرى، قد تكون إشعال حرب المخيمات الفلسطينية في لبنان أحد الخيارات المطروحة في حال فشل الأطراف الخارجية في كسر إرادة (المعارضة) اللبنانية والقبول بخيارها السياسي.

في التصعيد السياسي والأمني الحالي ما يلفت إلى التجاذبات الخارجية، فالسعودية التي عارضت أية تسوية فرنسية ـ سورية حول لبنان، ونجحت في إفشالها عبر صفقة عسكرية سخيّة مع فرنسا، في سياق تحرّك أميركي مواز يديره ديفيد ولش وإليوت أبرامز على قاعدة أن لا حل في لبنان يؤول إلى منح المعارضة الثلث الضامن، كان الطريق الى القمة العربية في دمشق شديد الوعورة منذ انطلاق جولة الموفدين السوريين الى العواصم العربية لتسليم الدعوات. فقد خضع قرار المشاركة السعودية في القمة للمساومة السياسية على لبنان، وليس الربط المفتعل من قبل أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى بين نجاح (المبادرة) الخاصة بملف الأزمة اللبنانية، وانعقاد القمة العربية في دمشق سوى كشفاً غير مقصود عن إنحيازية واضحة لفريق لبناني على حساب آخر، تماماً كما أن الخطاب الناري الذي أطلقه سعد الحريري في الثامن من فبراير الماضي، ثم أضفى عليه وليد جنبلاط بعداً عملانياً في العاشر من فبراير، لينتهي إلى إشكالات أمنية إستعراضية في عاليه، وبيروت، والشمال، والبقاع، سوى رسالة سعودية واضحة للمعارضة من أجل الإذعان لعرض الأمير سعود الفيصل على السوريين بالقبول بصيغة الـ 13 + 7+10، وهو عرض ليس بمقدر السوريين فرضه على المعارضة، المتمسّكة بالثلث الضامن. ما لا يود الأمراء السعوديون رؤيته في لبنان، أن يسقط رهانهم ثانية، بعد رهان حرب تموز.

الحريري.. لازال سعودي الإنتماء والهويّة!

إن أخطر ما يواجه السعوديين في لبنان هو انفلات أمني على أيدي حلفائهم. فثمة ربط من نوع ما بين الخطاب الفتنوي الذي بات ملتحماً بالدور السعودي في لبنان وزيارة حلفائها الى الرياض، الأمر الذي يجعل طائف التوافق في مهب الفتنة الداخلية تحت الرعاية السعودية، وحينئذ تصبح المسافة الوازنة حجماً طائفياً.

كان تحذير السعودية لرعاياها من السفر الى لبنان عنصر الشؤم الذي أرسى مرحلة قلق جديدة، تم وضعه لاحقاً في سياق الحرب النفسية التي اشتعلت بخطة متقنة كأحد أدوات الضغط التي لجأت إليها السعودية وحلفاؤها في معسكر الاعتدال على المعارضة اللبنانية وحلفاؤها السوريين والإيرانيين. تحذير السعودية جاء منسجماً مع البوارج الأميركية في البحر المتوسط، وبالتقارير والتصريحات المكثّفة التي وردت من كل الإتجاهات الى الداخل اللبناني من أجل إشاعة جو هلع بين جمهور المقاومة، وتخويفهم من حرب إسرائيلية ستكون أشد شراسة من الحرب الأخيرة، وقد بلعت قيادات المعارضة طعم (التخويف) لتنقله إلى جمهورها، مع رواج أنباء عن مناورات عسكرية إسرائيلية على الحدود الشمالية، وحملات التسليح الكثيفة لبعض الفرق اللبنانية المعروفة بماض ميليشياوي مثل (الحزب التقدمي الإشتراكي، والقوات اللبنانية)، وحملات الضغط الدولية على سوريا وإيران، فيما كانت الإمبراطورية الإعلامية السعودية تعمل بأقصى طاقتها من أجل تلبيد الأجواء النفسية اللبنانية بهدف الترويع من حرب مقبلة، التي بات يعرف اللبنانيون أطرافها المحليين والإقليميين والدوليين، وبتفصيل أكثر ستكون حرباً تشارك فيها الولايات المتحدة والدولة العبرية، وتباركها دول الإعتدال العربي، ويتواطؤ فيها فريق السلطة في لبنان.

جرّبت السعودية أكثر من إختبار لإمكانية إستدراج الوضع اللبناني الى حيث تملي عليه خياراتها، من خلال إشعال توترات أمنية في شوارع بيروت، بعد أن أخفقت في إشعال مخيمات فلسطينية أخرى بعد مخيم (نهر البارد).

لم يكن من قبيل النافلة تشديد من اجتمعوا في نهاية فبراير الماضي في مديرية مخابرات الجيش اللبناني لمنع المواجهات بين الموالاة والمعارضة على (أن لا قرار بإشعال فتنة مذهبية)، وكأن هناك من يرى العنصر المذهبي في المعادلة الأمنية الجديدة. فمهما كانت محاولات تشتيت الإنتباه حول مصدر إندلاع الفتنة، فإن السعودية تبقى الأقدر على تثمير وتفجير العامل المذهبي في خلافاتها سواء مع إيران، أو سوريا، أو في العراق أو لبنان، بل قد تنقله إلى فلسطين، رغم غياب الأرضية المذهبية المناسبة.

كل ما كانت تقوم به السعودية في الشهرين الماضيين يخرج عن حدود المشكلة المراد معالجتها سواء كانت لبنانية أو سورية أو عراقية أو إقليمية، فقد بات المراقبون متّفقين على أن ثمة بعداً خارجياً للدبلوماسية السعودية، ويعبّر عن توجّه سعودي جديد يتناغم مع تموضعها السياسي الجديد في الإستراتيجية الأميركية، وشبكة التحالفات الجديدة التي انبنت بعد حرب يوليو 2006، وضمّت إليها الدولة العبرية.

جولة سعود الفيصل الدولية كانت هي الأخرى جزءً من مشروع دولي، لمواجهة تيار آخر في المنطقة، ومن المنطقي إدراج الدور السعودي الأميركي الإسرائيلي في الأزمة اللبنانية بل وأزمات المنطقة عموماً في سياق مشروع مشترك. وعلينا أن نراقب ما ستأتي به القمة، لنعرف طبيعة ومسار التحركات السعودية في المرحلة المقبلة والتي لن تخضد شوكتها إلا بتفكك معسكر الإعتدال.

الصفحة السابقة