اتهامات (الآخر) بالعمالة لأعداء الإسلام

بريدة (التوحيد) تحتضن سفير الإسلام الأميركي!

محمد فلالي

لا يقوم ممثل من السفارات الأجنبية بزيارة منطقة أو مدينة أو يلتقي بفاعلية إجتماعية أو حفلاً ثقافياً أو غيره، إلا وتنطلق الشتائم ولغة التخوين من (حراس الفضيلة) في نجد. ويذكّر أقطاب المركز الديني والسياسي مواطنيهم بأن هذه الزيارات إنما هي أدلّة واضحة على تواطؤ مجموعات سكانية في المنطقة الغربية والشرقية خاصة مع (النصارى) و (اليهود) ضدّ أهل الإسلام (الصحيح!).. وهي دلالة على عدم ولاء تلك المجموعات السكانية التي تمثّل (أكثرية) في البلاد لنظام الحكم السعودي القائم.

السفير الأميركي في الغاط

ونظام الحكم القائم، وجد نفسه عاجزاً عن إيقاف ممثلي البعثات الدبلوماسية في الرياض وجدة والظهران من القيام بجولاتهم وزياراتهم، والتي تضاعفت بعد أحداث 9/11، خاصة من الجانب الأميركي والبريطاني، ففضّل مواجهة الطرف الأضعف وهم المواطنون أنفسهم، الذين ـ في كثير من الأحيان ـ يفاجؤهم قنصل أو سفير أو موظف سفارة في مجالسهم المفتوحة، فلا يستطيعون طرده، وغالباً ما يتم التعرّض لسياسات بلاده وغيرها.

أجهزة أمن آل سعود، اعتادت التحقيق مع المواطنين، ومتابعة ما يجري من مناقشات علنيّة، وأحياناً التهديد الصريح بالإعتقال. وكان الأولى بها، إن كانت تعتبر تلك اللقاءات خارجة عن المألوف الدبلوماسي، وهو أمرٌ لا تستطيع السعودية القول به، خاصة لدى سفراء الدول الكبرى، وخاصة أن السفراء السعوديين يقومون بنفس الأفعال في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وغيرها.. كان الأولى بها، أن تقول للسفراء والقناصل والموظفين الدبلوماسيين: كفى! فهذا يخرج عن الإطار الدبلوماسي!

لكن الطرف الأضعف هو المواطن، ولكن ليس أية مواطن.

المواطن غير النجدي، هو المتهم في الولاء، وهو المتهم في ديانته، وهو الذي يتآمر مع الأجنبي على حكم آل سعود الذي ما قام إلا بدعم أجنبي غربي بريطاني، وما استمرّ في البقاء إلا بدعم أميركي صريح حتى اليوم.

لماذا يخاف آل سعود من حركة الدبلوماسيين الغربيين وزياراتهم للمناطق والمدن غير النجدية؟

يجدر بنا أن نعود الى أحداث سبتمبر 2001م مرة أخرى.

مفاجأة ذلك الحدث انعكست على السعودية. فالغرب الذي يعتقد أن في السعودية (بلد الإعتدال): إسلام معتدل، إسلام حليف ضد الشيوعية، وقبلها ضدّ القومية العربية، وبعدها ضد الراديكالية العربية المعادية لإسرائيل والغرب، وما بينهما معادية للتشيّع.. الغرب هذا، وجد نفسه بحاجة الى عملية إعادة اكتشاف جديدة: إعادة اكتشاف الشعب السعودي؛ وإعادة اكتشاف (الدين السعودي/ الوهابية)، وفوقهما إعادة اكتشاف ما يمكن اقتناصه من فهم جديد للعقلية السعودية الحاكمة، والتنوّع السعودي، وإمكانيات تثميره لصالح السياسة الأميركية بالخصوص، على الأقل لرسم الخطوات القادمة تجاه هذا البلد الذي انطلقت منه (غزوة مانهاتن) البنلادنية.

وسط التهديد بتقسيمها ومعاقبتها، اضطرت الحكومة السعودية لفتح أبوابها وإعادة التعريف (بمذهبها الرسمي المعتدل) و النأي بنفسها عن الفكر القاعدي المصدّر من بريدة والرياض. لهذا جاء التسامح السعودي جبراً للصحافيين بأن يأتوا الى السعودية، وطاف الدبلوماسيون لمعرفة أية نوع من الثقافة يروّج له في هذه المملكة الوهابية التي أنتجت أحداث سبتمبر، وفرّخت قبلها صيصان القاعدة الذين قاموا بالغزوة (المباركة)!.

ولما كانت إدارة بوش، المنطلقة عنفاً باتجاه الإنتقام مما حدث تبحث عن ضحية قادتها الى أفغانستان ثم العراق لتحتلهما، فإنها وجدت في السعودية (مركز الشر) ولكنّها لمصالح استراتيجية حوّلت ذلك الشر فوصمت به إيران وسوريا وكوريا الشمالية (محور الشر)، واكتفت من السعودية أن تصلح (وهابييها) و (مناهجها الدينية التعليمية) وأن توسع هامش (حرية التعبير الصحافي) وأن تقوم بخطوات بناءة في ميدان (الإصلاح السياسي).. وهي مطالب تتماشى مع خطة دمقرطة المنطقة التي لا حلّ لعنفها ـ من وجهة نظر واشنطن ـ إلا بالديمقراطية. لكن تلك الإدارة سرعان ما تراجعت عن سياستها تجاه حلفائها في مصر والسعودية، ووجهت سهامها الى حزب الله وسوريا وحماس وإيران، خالطة بذلك الأوراق.

في تلك الفترة، زار السعودية آلاف الكتاب والصحافيين ورجال المخابرات وأعضاء الكونغرس. وانشغلت أقسام السفارات ورجالاتها بالتفتيش عما وراء الإعتدال السعودي السياسي، فكان الدبلوماسيون يطوفون بالمجالس والديوانيات، ويجتمعون علناً مع الفئات الإجتماعية، ويدخلون المجالس من نوافذها بدون استئذان، والحكومة صامتة لا تستطيع أن تقول كلمة: كفى. وكيف لها أن تقول ذلك وهي المهددة بالإنتقام، وربما التقسيم حتّى؟!

ومع أن الدبلوماسيين الأميركيين بالخصوص لم يقتصروا في جولاتهم على فئة أو منطقة أو مدينة، إلا أن (حكم الأقليّة النجدي) توجّس من تلك اللقاءات التي تجري في الحجاز والمنطقة الشرقية حيث يوجد الشيعة. فهل هناك مؤامرة يراد طبخها لتقسيم المملكة؟ أم هي مجرد لقاءات تستشف ما يجري في مملكة الصمت والغموض؟ وهل هناك شيء لا يعرفه الأميركيون، أو مستجد يريدون معرفته عبر الإتصال المباشر بالجمهور؟ هل كانت المعلومات والتقديرات التي تأتي ـ رسمياً ـ من المخابرات السعودية مضللة عن الوضع المحلي السعودي، فأنتج كارثة سبتمبر؟

المتنطعون الوهابيون وجدوا في نشاط البعثات الدبلوماسية ـ كما العائلة المالكة ـ خطراً قد يتهدد مصالحهم الفئوية. وطفقوا يشتمون ـ لا السفراء والقناصل ـ وإنما أولئك الذين التقوا بهم جمعاً أو فرادى، أو سمحوا لهم بدخول منتدياتهم ولم يقوموا بطردهم. بدا للوهابية ولآل سعود أن هناك احتمال إضعاف القبضة النجدية على السلطة، سواء من خلال الدعوات التي كانت تنطلق من أجل الإصلاح، أو من خلال محاولات مراجعة استباقية للمناهج الوهابية التي اتهمت في الصحافة بأنها فرّخت العنف والإرهاب والقاعدة، أو من خلال محاولات الضغط الأميركي على العائلة المالكة لفك ارتباطها بتوأهما الوهابي.

بيد أن حركة الدبلوماسيين تلك لم تصل الى عمق نجد، الى حيث (عش الوهابية) في بريدة، وإن كانوا التقوا حتى بمشايخ وهابيين في الرياض، فضلاً عن ليبراليين وموظفين حكوميين، اتهم بعضهم بأنه عميل للسفارات الأجنبية، وكأن هناك عمالة توازي عمالة آل سعود أنفسهم للغرب الأميركي والبريطاني.

السفير الأميركي في عنيزة

لكن ما خفف الوطأة شيئاً فشيئاً لدى رجال الحكم السعودي واشعرهم ببعض القوة، غوص الأميركيين في المستنقع العراقي، وهو مستنقع ساهم في ترتيبه الوهابيون وآل سعود، عبر دعم الحرب الطائفية والتفجيرات ومد العنف بزخم من المال والرجال المنطلقين من بلاد التوحيد (نجد). هنا تقلصت دعوات الإصلاح الى أن وصلت الى نهايتها، وتقلصت الضغوط الأميركية حتى صار وجود النظام السعودي جزءً أساسياً من الإستراتيجية الأميركية، خشيت معه من سقوطه، واستطاع آل سعود ترقيع العلاقات التي هزتها أحداث سبتمبر بالمزيد من التنازلات السياسية (مبادرة عبدالله العربية!) والتنازلات الأقتصادية في مجال النفط وتخزين الأرصدة في ديار العم سام.

اليوم وبعد أن وضع دعاة الإصلاح خلف القضبان، وكممت الأفواه، وعزز الفساد والنهب، جاء الأميركيون ليزوروا (واحة التوحيد النجدية).. محافظة محافظة، ومدينة مدينة، يلتقون فيها الأهالي، ويستلمون من أعيانها الصور والهدايا التذكارية، ولم يتحدث أيّ من الوهابيين عن مؤامرة لصالح الصليبيين واليهود كما كانوا يقولون بالأمس عن أكثرية المواطنين.

خلال الشهر الماضي، ظهر وكأن هناك هجمة دبلوماسية قام بها السفير الأميركي في الرياض، فورد فريكر، حين زار المجمعة، وبريدة، وعنيزة، والغاط، وغيرها، وهي معاقل نجدية وهابية. لم تكن الحملة تلك لها نفس الأهداف الماضية، بل جاءت وكأنها مصالحة مع من اعتبروا خزّان القاعدة البشري والمالي. وقد تمت اللقاءات في وضح النهار، وبتغطية من الصحافة والإعلام، وشارك فيها مسؤولون وأعيان، لقي فيها السفير الأميركي المديح والإحترام والشكر والعرفان، وفوقها هدايا تذكارية!

بدأ السفير جولته بزيارة المجمعة، التي يسيطر رجالها ورجال جارتها سدير على مفاصل الحرس الوطني. ثم انتقل الى عنيزة، حيث استقبله محافظها مساعد السليم، وصالح الصويان رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية وعدد من المسئولين. فور وصوله أعدّ له حفل خطابي، حيث تم الترحيب بالسفير والوفد المرافق له، فقد سعدت! عنيزة! بلقاء الأميركي كما يقول المحافظ؛ أما عادل الزنيدي، أمين عام الغرفة التجارية، فاستعرض أمام السفير إنجازات آل سعود! فما كان من السفير الا أن عبر عن سعادته وشكره للحضور على حسن الإستقبال وكرم الضيافة، واعتبر زيارته ترجمة لعلاقات الصداقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة، مبيناً بأنه يعشق مثل هذه الاجتماعات، ومشيراً الى أن الملحق التجاري الأميركي سيطلع على المشاريع في عنيزة في مجال النخيل وانتاج التمور! لينتهي الحفل بإهداء السفير تذكاراً له.

بعدها قام السفير بزيارة الجمعية الخيرية بعنيزة، وقرية الحمدان التراثية، حيث شاهد طريقة عمل القهوة العربية (وكأنه سيطلع على صناعة الصاروخ أو التكنولوجيا الحديثة!).. ثم زار سوق المسوكف وبيت البسام التراثيان وقدم عرض ملابس تقليدية، وفي كل مكان يطل فيه كان يستقبل من المسؤولين المحليين بالترحيب والتكريم. كما قام السفير بحضور حفل غداء أعده له المحافظ، ومرة أخرى أهدي عملاً تذكارياً، وبعد الغذاء زار مزرعة الغزيلية للنخيل، ثم منتزهات الغضا، ليعود السفير فيتعشّى بدعوة من الغرفة التجارية في مزرعة رئيس لجنة أهالي عنيزة محمد الصيخان، واحتفي به بالعروض والفنون الشعبية. باختصار قام أهالي عنيزة بما كانوا يقومون به للملك! لأنهم يعلمون أن فوق الملك عبدالله ملك آخر!

ومن عنيزة، بنت عم بريدة!، زار السفير الأميركي الغاط، حيث لم يضيع السفير وقتاً، فصباح اليوم التالي، غادر الى الغاط، وتناول طعام الإفطار مع محافظها عبدالله السديري بمزرعته، ثم زار السفير مركز الرحمانية الثقافي واستقبله هناك المحافظ نفسه! وثلة من آل السديري أصهار آل سعود، ثم ألقيت كلمات ترحيب بالسفير الذي أُهدي عدداً من الكتب والمطبوعات، ولوحة تذكارية. لينطلق السفير بعدها الى بلدة الغاط القديمة، التي يحافظ ال سعود على آثارها، بعكس آثار النبوة والإسلام في الحجاز، ثم توجه الجميع لمنتزه الغاط الوطني، لينتهي يوم السفير بحفل غداء في مزارع الفاخرة لدى أبناء الأمير عبدالرحمن السديري.

بعدها توجه السفير الى بريدة حيث استقبله أمير القصيم الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز، بحضور نائبه الأمير فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز. وهناك شهد السفير فورد فريكر مباراة كرة قدم! كما لبّى وسكرتيرته دعوة عشاء من أسرة المشيقح، وقبلها حضل حفل عشاء أقيم في برج بريدة برعاية الغرفة التجارية. أيضاً، زار السفير المجلس البلدي في بريدة، والتقى برئيسه وأعضائه، وتم اطلاعه على منجزات المجلس، وكأنه ملك غير متوج، وناقش معهم هموم العمل البلدي! ثم ـ كما يفعل آل سعود ـ أشاد بجهودهم، والى تطوير العلاقات السعودية الأميركية، وشكر حكومة (خادم الحرمين الشريفين) على جهودها، كشهادة منه على نجاحها فيما تقوم به!.

الخلاصة.. لو أن أية منطقة قامت بما قامت به القصيم، فاستقبلت السفير، وبإذن وموافقة من آل سعود، فإنها وشعبها سيتهمون بالولاء لأعداء الإسلام من نصارى ويهود!، ولكن لا أحد يتهم الفئة المدللة ديناً ودنياً بأنها تعمل خلاف مصالحها وخلاف مصالح آل سعود. لهذا لم نسمع نقداً او اتهاماً من قبل وهابيي آل سعود، بل أعادونا الى مربع (المصلحة العامة) والفوائد التي يجنيها الشعب من العلاقات مع أميركا.

شكراً لكم على التوضيح!، فقد نسينا أقوالكم بأن هناك مؤامرة تختبيء وراء كل حجر وحبّة رمل تريد أن تتخطفكم!

الصفحة السابقة