مهندّس الحروب في الرياض

تشيني يحصد ريح بوش

محمد فلالي

جولة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في المنطقة جاءت إستكمالاً لجولة رئيسه جورج بوش في فبراير الماضي، والتي وضع فيها حجر الأساس لمشروع توتير الأجواء السياسية في المنطقة، وتعزيز القطيعة بين معسكرين رسمت حدودهما واشنطن قبل سنتين، حين قسّمت الشرق الأوسط الى معسكر للمعتدلين وآخر للأشرار بحسب معايير خاصة.

ديك تشيني جاء للمنطقة لاختبار نتائج التوتير السياسي الذي بدأه الرئيس جورج بوش، وإمكانية البناء على الشيء مقتضاه، أي فحص إمكانية الذهاب في خيارات تصعيدية أخرى في حال أثمرت أجواء التوتير في صنع أرضية صالحة للسير في خيارات كهذه.

ما تغيّر بين جولة بوش وجولة تشيني هو نظام إقتصادي عالمي يوشك أن ينهار على رؤوس أصحابه، فجنون الأسعار يغزو كل زوايا العالم، فيما تتهيأ كبريات البنوك والشركات الصناعية وكذلك الأسواق النقدية لانهيارات متوالية، على وقع زيادة مضطردة في أسعار النفط، وزيادة السخط الشعبي العارم في المنطقة من أوضاع معيشية غير محتملة بسبب خلخلة عنيفة أصابت أسعار السلع الأساسية، وطالت كل جوانب الحياة، ما ينذر بانفجارات شعبية غاضبة تفقد حكومات المنطقة القدرة على كبتها أو إحباطها.. تشيني جاء الى المنطقة للبحث عن حلول لمشكلات بلاده التي توشك أن تغرق في أزمة إقتصادية خطيرة، بفعل التضخم بالرغم من محاولات (التبريد) عبر تخفيض سعر الفائدة. وتشيني يأتي الى المنطقة في وقت يفقد الناتو سيطرته على العاصمة الأفغانية كابول، بعد أن خرجت ثلاثة أرباع البلد من سيطرته ووقعت في قبضة طالبان والقوى الأفغانية المسلحة الأخرى، فيما تتزايد حوادث القتل في الجنود الأميركيين في العراق، وخصوصاً خلال جولة تشيني، وكأن هناك من أراد إيصال رسالة له بأن ما تحمله في جعبتك من تصوّرات مستقبلية قريبة أو بعيدة ليست صالحة للتطبيق.

على أية حال، جاء تشيني إلى المنطقة وفي جعبته ملفات عدة: إقتصادية وسياسية وأمنية، وبحسب تعريف فضل شلق له فإنه شخص تتقاطع فيه المصالح الأميركية الكبرى، بما فيها النفط، والأيديولوجية السائدة في الولايات المتحدة، مع وجهات النظر الإستراتيجية للقوى المسلحة، وهو كان أحد المحرّضين الأساسيين على شن حرب العراق وأفغانستان، إلى جانب المحافظين الجدد. الأرجح أن الإقتراحات التي سوف يرفعها للرئيس بوش سوف يؤخذ بها بقية هذا العام من رئاسة هذا الأخير. ويشرح شلق دور تشيني في المنطقة بأنه يتراوح بين الترغيب والترهيب، ويعلّق (وهذا أمر طبيعي في كل أنواع التفاوض. ليس صدفة أن التفاوض يأتي قبيل انعقاد القمة العربية. إذا لم تكن الدول العربية متفقة قبل وخلال وبعد القمة، فإن قيمتها في التفاوض ستكون ضئيلة، وسيكون التفاوض الحقيقي مع دول المنطقة غير العربية، وسيدفع العرب ثمن التفاوض سواء كانت الغلبة للترهيب والحرب أو للترغيب والتهدئة. إذا وقعت الحرب، سيصيب العرب دمار كبير، دون غيرهم، هذا إذا أصاب غيرهم. وإذا مالت الكفة نحو التهدئة مع انفراط العقد العربي، فسينتهي الأمر إلى تنفيذٍ لمشروع الشرق الأوسط الكبير).

أخفى تشيني الملفات الساخنة خلال جولته ومباحثاته مع الملك عبد الله وعدد من قادة الإعتدال لتكون مورد تداول في الجلسات الخاصة والمغلقة، وأبقى على لغة التوتير التي لهج بها الرئيس بوش طيلة جولته الأخيرة في المنطقة، بالرغم أن تشيني لم يعد بحاجة إلى التذكير بنفسه كأحد صقور ومهندسي الفوضى الخلاّقة. وفيما يبدو، فإن جولة تشيني تبدو أشد تعقيداً كونها تأتي في سياق مضطرب تتداخل فيه الموضوعات السياسية بالإقتصادية والأمنية بالإستراتيجية، في غياب مؤشرات واضحة عن إمكانية الخروج من المأزق بنصر حاسم. هناك ملفات شائكة أراد تشيني من السعودية أن تكون رافعة أساسية للتخفيف من الأعباء الملقاة على كاهل إدارة بوش. في الموضوع الأفغاني، على سبيل المثال، تشعر الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف الناتو بأن ثمة حاجة لعملية انقاذية، ويراد من السعودية أن تحقن أفغانستان باستثمارات إقتصادية تعين على استتباب الأوضاع الأمنية.

لقاء تشيني بالملك عبد الله في الرياض اشتمل على موضوعات رئيسية، كان قد ألمح إليها في زياراته لسلطنة عمان، والعراق، من بينها: الدور السعودي في تطويق النفوذ الإيراني في العراق عبر فتح سفارة لها في بغداد والمشاركة بدور أكبر في تدعيم جهود المصالحة العراقية على أساس تحقيق توازن قوى مقابل الدور الإيراني، الذي تخشى واشنطن أن يمضي الوقت على إدارة بوش دون أن تنجح في إحكام قبضتها على العراق. مسؤولون أميركيون وسعوديون تحدّثوا مراراً عن أن إيران هي المنتصر الأكبر في عملية إحتلال العراق من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا، وأن السعودية تشعر بمرارة فشل الإدارة الأميركية في الحد من النفوذ الإيراني، ولم تخف الرياض حتى للمسؤولين الكبار في الحكومة العراقية بمن فيهم المقرّبين من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إستعدادها لدفع أضعاف المبالغ التي قدّمتها للرئيس العراقي السابق صدام حسين من أجل إعادة الوضع الى ما كان عليها قبل التاسع من مارس 2003. وبالرغم من أن جهات أميركية وبريطانية تميل الى تقديم كل المساعدة الضرورية من أجل تسهيل دور سعودي في المعادلة العراقية، إلى جانب ما تقوم به المخابرات السعودية العامة بقيادة الأمير مقرن بن عبد العزيز ورئيس مجلس الأمن الوطني الأمير بندر من ترتيبات سريّة مع أطراف عراقية مثل رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي ورئيس جهاز الاستخبارات محمد الشهواني لجهة تخريب العملية السياسية، إلا أن المحاولات جميعها باءت بالفشل، بسبب إحباط الحكومة العراقية وأجهزتها الأمنية لمخططات سعودية أردنية كان يراد تنفيذها في مناطق الجنوب العراقي. وكان عثور الحكومة العراقية على وثائق ومعلومات واعترافات ذات صلة بالمخططات تلك قد أحدث ضرراً بالغاً في أي دور يمكن للسعودية أن تلعبه في الساحة العراقية، حيث ينظر المسؤولون العراقيون الى السعودية كأحد أبرز الأطراف الضالعة في دوامة العنف في العراق، إلى جانب الدور المتواصل لمجموعات سلفية قاعدية قدمت من السعودية بهدف تطبيق مفهومها الخاص للجهاد.

كان الأمير سعود الفيصل قد أعلن قبل أقل من عام بأن الرياض تستعد من أجل إرسال سفير لها في بغداد، بطلب من واشنطن، ولكن ما لبث أن تمّ تأجيل القرار السعودي، بحجة أن الأوضاع الأمنية لم تزل غير مناسبة للقيام بخطوة كهذه، إلا أن المصادر العراقية تتحدث عن أن قرار الرياض بالإحجام عن فتح سفارتها عائد إلى المعلومات التي أوصلها العراقيون الى الحكومة السعودية بخصوص ضلوعها في مخططات لتخريب العملية السياسية. ومهما يكن، فإن تشيني الذي طالب من بغداد الدول العربية وعلى رأسها السعودية بفتح سفاراتها في العراق قد استعمل نقطة بالغة الحساسية المتمثّلة في النفوذ الإيراني من أجل تحفيز قادة المنطقة على القيام بخطوة سريعة، مذكّراً إياهم بمعطيات على الأرض: أن الولايات المتحدة تواجه مأزقاً حقيقياً في العراق ولا سبيل الى الخروج منه إلا بمساعدة حلفائها عبر فتح سفاراتها، وتدعيم العملية السياسية، وثانياً أن المعادلة العراقية الراهنة لم يعد بالإمكان استبدالها، وعلى قادة هذه الدولة التعامل معها بإيجابية بدلاً من التفكير في خيارات راديكالية غير مضمونة، بل قد تنطوي على تداعيات أمنية خطيرة على دولهم.

في الملف اللبناني، وعلى العكس من الملف العراقي، فإن وجهات النظر بين تشيني وقادة دول الإعتدال تبدو متطابقة تماماً، فقد كانت الخطة التي تم الإتفاق بشأنها بين الأمير سعود الفيصل وفريق ديك تشيني في فبراير الماضي تسير وفق وتيرة ثابتة، بدأت بوصول الباخرة كول الى شواطىء لبنان وأعقبها تحذير سعودي للمواطنين بعدم السفر الى لبنان، في خطوة وصفت بأنها غير مسبوقة، مهّدت لأجواء حرب نفسية من أجل الضغط على سوريا والمعارضة في لبنان للقبول بانتخاب رئيس للجمهورية قبل الحديث عن حكومة وحدة وطنية وقانون إنتخابي جديد.

وفيما كانت الإدارة الأميركية توجّه نصيحة لحلفائها في المنطقة بالتريّث قبل إصدار قرار بالمشاركة في قمة دمشق، رسمت زيارة تشيني للسعودية خطاً فاصلاً في عملية صنع القرار لدى عدد من الدول وخصوصاً السعودية ومصر والأردن ولبنان. ما رشح قبل محادثات تشيني والملك عبد الله بشأن قمة دمشق يدور حول دفع الرياض نحو إعلان المقاطعة الكاملة للقمة، صدّقه القرار السعودي اللاحق بتخفيض مستوى المشاركة في قمة دمشق الى مستوى ممثلها في الجامعة العربية وهو موقف تكرر بالنسبة لمصر والأردن. من جهة ثانية، كان الخط الساخن بين رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة ووزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل مفتوحاً طيلة فترة جولة تشيني للمنطقة، من أجل متابعة آخر التطوّرات بشأن الملف اللبناني، وما يترتب عليها من قرارات.

كان الموقف السعودي الأميركي متطابقاً بشأن موعد الإستحقاق الرئاسي الذي حدّده رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في 25 مارس، حيث تأكّد لنائب الرئيس الأميركي وقوف الملك عبد الله خلف خيارات فريق 14 آذار الحليف لواشنطن. مصادر سعودية مقرّبة من العائلة المالكة ذكرت بأن تشيني طمأن الملك عبد الله الى أن فشل المبادرة العربية التي تدعمها الرياض والتي تملي انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، يتطلب مزيداً من الصرامة حيث ستكون الخيارات البديلة بالتخلي عن سليمان كمرشح توافقي وإعادة استعمال ورقة النصف زائداً واحد لانتخاب أحد مرشحي فريق 14 آذار حتى وإن أدى ذلك الى (تصادم) مع المعارضة. المصادرة لفتت إلى أن حملة فريق 14 آذار على نبيه بري قد تأتي في سياق التطمينات الأميركية الى القيادة السعودية بأن الأمور سائرة نحو التصادم، ولا خيار أمامنا سوى القبول بالتحدي، طالما أن المعارضة متمسّكة بمواقفها على أساس تفسيرها للمبادرة العربية. تشيني أبلغ الملك عبد الله أيضاً بأن البديل عن المبادرة العربية سيكون تشكيل حكومة مؤقتة تحظى بدعم دولي تفرض على المعارضة طريقاً محدداً في مناقشة الشراكة السياسية.

الميل الى إنتاج صيغة جديدة خارج المبادرة العربية يعكس نفسه في سلوك فريق الموالاة، بعد أن رفض الجانب الروسي إستعمال نفوذه لدى سوريا، من أجل إرغامه على القبول بتطبيق المبادرة العربية بحسب تفسير السعودية والولايات المتحدة. النداءات المتواصلة من قبل مسؤولين كبار في دول الإعتدال الى سوريا للضغط على المعارضة للقبول بخطوة الإستحقاق الرئاسي أولاً وأخيراً، لم تحدث أدنى تغيير في سلوك القيادة السورية، وكان ذلك قد أسقط ورقة قوية بيد خصومها من أجل استعمالها في موضوع المشاركة في القمة العربية. الجانب الروسي هو الآخر لن يقبل بتجاوز المؤسسات الدستورية اللبنانية ولا الهيئات الدولية، مع الحديث عن احتمال عقد مؤتمر دولي خارج إطار هيئة الأمم المتحدة لحشد الدعم لحكومة مؤقتة في لبنان يديرها فؤاد السنيورة ويكون بديلاً عن رئيس الجمهورية، من أجل ترتيب مجمل الأوضاع التشريعية والسياسية والأمنية في لبنان والتي تفيد في المرحلة المقبلة خصوصاً فيما يتربط بالإنتخابات التشريعية العام المقبل.

الجانب الروسي الذي رفض الضغط على سوريا، وأطلق تصريحين لافتين: الأول خاص بلبنان حين دعا الموالاة والمعارضة الى إنتهاج طريق الحوار والتوافق لإنهاء أزمة الملف الرئاسي وعدم الإنزلاق نحو الحرب الأهلية، والتصريح الآخر خاص بإيران حيث أكّد الجانب الروسي على أن نتائج الهجوم العسكري على إيران بهدف تفكيك منشآتها النووية ستكون كارثية.

معارضة الجانب الروسي للدخول في لعبة الإصطفافات الداخلية والإقليمية في الملفات اللبنانية والسورية والإيرانية، تم استبداله بتصعيد وتيرة الحرب الإعلامية والنفسية، حيث تجددت حملة الإتهامات بين رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري وقوى 14 آذار، على خلفية مبادرة ينوي بري تسويقها لبنانياً وعربياً ودولياً في حال فشلت قمة دمشق في إنتاج حل للمشكلة اللبنانية، فيما تصرّ قوى الموالاة على دعوة مجلس النواب الى جلسة عامة وقبول رئيس المجلس المشروط بعدم حضور الحكومة.

على أية حال، فإن تشيني الذي يجد نفسه غارقاً في ملفات أكثر خطورة، وتتعلق بالإقتصاد الأميركي ومطالبته السعودي برفع سقف إنتاجها من النفط يومياً للعبور من أزمة داهمة تعيشها الولايات المتحدة في الوقت الراهن، وكذلك الملف النووي الإيراني الذي لم ينجح فريق تشيني وحلفاؤه الأوروبيون في كسر إرادة الحكومة الإيرانية وإرغامها على وقف التخصيب، لا تجد واشنطن أفضل من الرياض في تحمّل بعض الملفات الأقل سخونة بالنيابة عنها، مثل لبنان، والمحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وكذلك عملية السلام بين الدولة العبرية والفلسطينيين بالرغم من أن الرياض خسرت كثيراً من مصداقيتها بعد أن أصبحت القاهرة وصنعاء شريكتين أساسيتين في تقريب وجهات النظر بين الفلسطينيين.

تشيني أمل في دور سعودي فاعل قبل حلول شهور مايو المقبل، حيث سيكون بوش ضيفاً لآخر مرة في المنطقة من أجل تسجيل، إذ صدق القدر، المنجز السياسي اليتيم في عهده الباعث على الضجر، أي بإطلاق مشروع الدولتين. إشارة يائسة أطلقها تشيني من رام الله حين قال بأن الدولة الفلسطينية كان مقدّراً لها أن ترى النور منذ زمن طويل لولا الصواريخ الفلسطينية. وفي ذلك تصريح إستباقي بتحميل مسؤولية عدم قيام الدولة الفلسطينية للفلسطينيين وحدهم، وليس لانحيازية الجهود المبتورة لإدارة بوش.

وسواء أسفرت جولة تشيني الى المنطقة عن حرب أو سلام، فإن عمر أي منهما يبدو قصيراً، وهو بعمر إدارة بوش التي لم تفلح حروبها في إنتاج سلام ناجح، فيما أفضى سلامها إلى فوضى عارمة على مستوى العالم، ولذلك فإن العالم سيكون أكثر أمناً بغياب بوش وفريقه بأكمله.

الصفحة السابقة