التجاذب السعودي ـ الإيراني

(إستعلان) صراع النفوذ

محمد الأنصاري

ترتيبات أمنية وسياسية سريّة، وروابط دبلوماسية مشوبة بالحذر والشك، وتوافقات مضطربة جزئية في ملفات سياسية ساخنة، هكذا كانت العلاقة السعودية ـ الإيرانية طيلة سنوات التأزم التي بدأت منذ سقوط نظام الحكم في بغداد في أبريل 2003، وتصاعد الخلاف بين طهران وواشنطن على خلفية الملف النووي. ثمة خلاف سعودي إيراني يضطرم خلف واجهات أخرى في القضايا الساخنة سواء في فلسطين، أو لبنان، أو العراق، أو على مستوى إقليمي ودولي. ولكن التطورات الأمنية والسياسية في لبنان قدحت شرارة مواجهة سعودية ـ إيرانية جديدة، تفتح في طريقها كل القضايا الخلافية بين البلدين.

في الملف العراقي، الذي لايزال يشعر الأمراء بأنه يمثّل خسارة فادحة بالنسبة لهم، وهم الذين اسثمروا مالاً ضخماً من أجل كبح تمدد النفوذ الإيراني فيه، ثم سكبوا العبرات على زوالها في أبريل 2003، وعبّر عن ذلك الأمير سعود الفيصل بأن الولايات المتحدة لم تحفظ لمن وقف معها في الثمانينات لمنع تصدير الثورة الإيرانية. ولكن السعودية التي نأت بنفسها عن الشأن العراقي بانتظار لجوء الفرقاء العراقيين إليها طائعين طلباً للعون، وجدت نفسها أمام قوى أساسية تمارس نفوذاً واسعاً وتقرر مسار الأمور في الساحة العراقية، الأمر الذي اضطر الإدارة الأميركية لفتح حوار مع طهران، اللاعب الرئيسي في المعادلة العراقية. وكان موقف السعودية من الحوار الأميركي ـ الإيراني حول الوضع الأمني في العراق سلبياً في الغالب، لأن ذلك ينطوي على إقرار بدور إيراني في الملف العراقي، وقد يفضي إلى ترتيبات أميركية إيرانية على حساب السعودية وحلفائها في المنطقة. فقد عارضت الحوار في أغسطس من العام الماضي، خشية صدور تقرير سبتمبر سلبياً بحيث يتحوّل الى عامل ضغط على إدارة بوش من أجل الانسحاب من العراق أو جدولته، على أساس أن كل الخيارات قد استنفذها، وليس هناك خيار سوى ترك العراق، ما يعني من وجهة نظر السعودية انتصاراً إيرانياً. لا ترغب السعودية في نجاح الحوار الإيراني ـ الأميركي، بحيث تقدّم إدارة بوش العراق هدية للإيرانيين.

الا أن السعودية التي سجّلت إخفاقاً كبيراً في النفوذ الى العراق عبر أطراف هامشية مثل إياد علاوي وقيادات عراقية متواشجة مع المسلّحين داخل العراق، أو إثارة قضايا بالغت الخطورة (الحركات المهدوية في منطقة الزرقاء، والبصرة والناصرية وغيرها)، لم تعثر حتى الآن على منفذ يعينها على الوصول الى دائرة الحكم والتأثير فيها، فقد اختارت الخاصرة الأضعف للضرب فيها لفتح ثغرة تنفذ منها الى الساحة العراقية، أضف الى ذلك كله، أن الأطراف التي اعتمدتها السعودية في الشأن العراقي أفادوا إلى حد كبير من المال السعودي، دون أن يحقق نتائج سياسية لافتة على الأرض، والشيء ذاته يقال الآن عن الأطراف اللبنانية التي تغذت على مائدة المال السعودي.

مصادر مقرّبة من حكومة المالكي ذكرت بأن على السعودية أن تتخلى عن العامل المذهبي في موقفها من الحكم الجديد، فهي إن تعاطت مذهبياً معه، فإنها في حال انسحاب الأميركيين من العراق تكون قد ارتكبت خطأ فادحاً في تغذية الإنقسام داخل العراق الذي لن يكون إلا على قاعدة: مذهبية وقومية.

لم تر الرياض بديلاً عن كسر النفوذ الإيراني سوى الحرب عليها من قبل واشنطن، ولكنها بقيت أسيرة لكابوس مزدوج: كابوس الحرب على إيران وكابوس النفوذ الإيراني، فإن قبلت بخيار الحرب فعليها تحمّل نتائجها المدمّرة، وإن قبلت ببقاء النفوذ الإيراني وتمدّده فعليها أن تكتوي بآثاره أو القبول بالتعاطي معه كواقع لابد من اجتراح خيارات جديدة للتخفيف من انعكاساته.

كانت الرياض متردّدة في المشاركة في حملة التوتير الأميركية ضد إيران، يعكسه توجّهان متقابلان في العائلة المالكة من هو مع الحرب ضد إيران ويدفع بها، ويحرّض عليها، ومن يعارض خيار الحرب ويمنع فرص وقوعها. ولكن، يبدو أن التطورات اللاحقة منحت الجناح المحرّض على الحرب رجحاناً، كلما ازداد الخوف من تصاعد النفوذ الإيراني، فقد كانت الخارجية الأميركية التي راهنت حتى سبتمبر من العام الماضي على خيار الضغط الدبلوماسي بدأت تميل الى تصعيد الخيار العسكري، على قاعدة أن إيران مهيمنة وتثير القلق على دول الخليج. في هذا السياق، يأتي تصريح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في سبتمبر الماضي بأنه يرى (نذر مواجهة) بين إيران والغرب بشأن برنامج طهران النووي. ولا شك أن الأمير يريد إيصال رسالة الى إيران للضغط عليها من أجل تخليها عما أسماه (الحديث الخطير للغاية) لإيران عن استعداده ملء الفراغ الناشىء عن الإنسحاب الأميركي من العراق.

العلاقات الى أين؟

في رد فعل السعودية على تصريحات الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، كان سعود الفيصل يمسك العصا من وسطها، حين قال بأنه يرى نذر مواجهة تتبلور بين إيران والغرب، وفي الوقت نفسه يدعو إلى حل دبلوماسي للموضوع، منتقداً النفوذ الإيراني في لبنان والعراق، وأن بلاده لن تستسلم للهيمنة الإيرانية. وكانت رايس قد ذكرت في محطة فوكس التلفزيونية في سبتمبر من العام الماضي بأن (دول الإعتدال العربي لا تجاهر بأنها في حالة مواجهة مع ايران لكي تبذل كل جهدها للتصدي لنفوذها المتنامي في المنطقة).

شاركت السعودية بكثافة عالية في حملة (تخويف) إيران من الحرب، على أمل الحد من نفوذها الإقليمي وخصوصاً في لبنان، إلا إن تلك الحملة تم إستيعابها إيرانياً، عن طريق دبلوماسية هادئة ومتقنة ومواربة، من أجل إحتواء التهديدات، وتمرير الوقت ريثما تنتهي ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش ولوردات الحرب المحيطين به. السعودية لم تخفِ موقفها من إيران، فقد عبّر سعود الفيصل عن ذلك مراراً مما وصفه بتدخل إيراني في العراق ولبنان وأنها (مسألة لا تلقى استحسانا في العالم العربي، والدول العربية ستحمي مصالحها).

لوّحت السعودية بسلاح (القوى الدولية) كجزء من حملة الضغوطات على طهران في موضوع ملفها النووي، ولكن نبرة المواجهة بين الرياض وطهران ما لبثت أن أخذت منحى تصاعدياً حين بدأت تقترب من نقاط التماس الحساسة في الساحة الإقليمية، وفي موضوعي العراق ولبنان على وجه التحديد. فبعد محاولات مضنية لصنع تحالف مع قوى سياسية عراقية هامشية، وتحريض أميركي متواصل على قاعدة التهديدات الإيرانية للمصالح الحيوية للغرب في المنطقة. شعرت السعودية بأنها خسرت العراق كمنطقة نفوذ، وعليها فعل ما من شأنه الحد من تمدّد النفوذ الإيراني عن طريق دعم (الفوضى) الأمنية، وتشكيل جبهة إقليمية لتطويق التحرّك الإيراني.

على الجانب الإيراني، كانت اللهجة الدبلوماسية الهادئة واضحة في التعاطي مع تصريحات السعودية، وكان المتحدّث بإسم وزارة الخارجية الإيرانية محمد علي حسيني علّق في أكتوبر من العام الماضي على تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل حيال تدخّل إيران بشؤون العراق ولبنان، مؤكّداً على العلاقات الوديّة التي تربط طهران والرياض. وقال حسيني في تصريح خاص لقناة (العالم) الإخبارية في الثاني من أكتوبر (إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تربطها علاقات ودية مع السعودية، لذا فإنها ترى أن أي تصريحات تتنافى مع هذا المسار لا تخدم العلاقات الثنائية). وأضاف حسيني (إن التصريحات المثيرة للتوتر من جانب الأصدقاء السعوديين غامضة وبعيدة عن التوقعات، وان طرح مثل هذه التصريحات يتناقض مع روح العلاقات الثنائية بين البلدين). وقال (نعتقد أن مواقف الأصدقاء الإقليميين يجب أن تأخذ في الاعتبار خدمة المصالح العليا للمنطقة والعلاقات بين دولها، وان تحول دون وصول الأعداء إلى أهدافهم البغيضة والتوسعية).

على أية حال، لا يبدو أن الخلاف السعودي ـ الإيراني الذي يلوذ دائماً بمحاولات (التبريد) قد بلغ نقطة المواجهة العلنية والمكشوفة والساخنة. فمنذ الثامن من مايو بدأ فصل جديد في الخلاف السعودي ـ الإيراني، وهذه المرة من لبنان الذي يشهد تحوّلاً دراماتيكياً خطيراً بعد إعلان المعارضة خطوة تصعيدية لإرغام حكومة فؤاد السنيورة على التراجع عن قراريها الشهيرين والعودة الى طاولة الحوار.

وكما هي العادة، فما تخوّف منه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، فقد أطلقت السعودية سلاحها الإستراتيجي المتمثّل بالمذهبية، حيث بدأت تغذي المكائن الطائفية في إمبراطوريتها الإعلامية، ومؤسستها الدينية، وحوّلت الصراع السياسي الى صراع مذهبي. كان الصدام اللفظي بين سعود الفيصل والمندوب السوري للجامعة العربية في الحادي عشر من مايو والذي كان يدور حول دور إيراني، وظّف فيه الفيصل لغة تشنيج لافتة، متسلّحاً بـ (الشرعية الدستورية) المتمثلة في حكومة السنيورة، ومصوّباً سهماً نارياً على المعارضة وقيادة حزب الله، ومن ورائها إيران.

لم تكن لغة الفيصل الحبلى بعبارات ناريّة بنت لحظتها، فهي تعكس بوضوح إحتقان سعودي عميق حيال خسارة موقع نفوذ أنفقت عليه مبالغ طائلة كيما لا تتكرر تجربة العراق وغزة في لبنان. لم تتردد السعودية في تشخيص هوية خصمها، وهو ليس تشخيصاً جديداً، فقد اعتبرت المواجهة على الساحة اللبنانية مع إيران وليست سوريا، فالأخيرة، في الرؤية السياسية السعودية، باتت في المجال الحيوي الإيراني، وليست هي من يقرر في الموضوع اللبناني. وبالرغم من أن التشخيص السعودي ليس دقيقاً، بل لا يستبعد أن ينطوي على عنصر مفتعل كون المواجهة السعودية ـ السورية تسقط السلاح المذهبي، وتعلي من شأن البعد القومي العربي الذي لا يمكن للسعودية أن توظّفه في معركتها ضد سوريا، في ظل اصطفاف سعودي ـ أميركي ـ إسرائيلي. ولذلك، يبقى السلاح المذهبي وحده القابل للتثمير في معركة النفوذ على الساحة اللبنانية.

على أية حال، تخوض السعودية سباقها السياسي الأخير في لبنان، قبل مغادرة الرئيس جورج بوش البيت الأبيض، وقد تكون الفرصة الأخيرة لتوظيف السلاح المذهبي في السياسة، خصوصاً وأن ردود فعل عربية وإسلامية بدأت بالإنفراز تدريجياً ضد الإستغلال المفتوح للعاطفة الدينية في صراعات سياسية محض. يستهجن كثير من القيادات القومية والإسلامية هذا الإستغلال كونه يغطي جرائم حرب وقعت على أيدٍ أقطاب فريق الموالاة اللبناني، من بينهم سمير جعجع قائد (القوات اللبنانية) المسؤول المباشر عن مجزرة (صبرا وشاتيلا) ضد الفلسطينيين واللبنانيين، ورئيس حزب (الكتائب) اللبنانية أمين الجميل، المعروف بعلاقاته التاريخية مع قادة إسرائيليين مثل أرييل شارون، وشمعون بيريز، وإيهود باراك، وزعيم (الحزب التقدمي الإشتراكي) وليد جنبلاط، أحد أبرز لوردات الحرب الأهلية، والمحتفظ بعلاقات وطيدة مع شخصيات إسرائيلية.

التجاذب الإيراني ـ السعودي في الموضوع اللبناني يبدو بالغ الخطورة، بالنظر الى ما يراد تعريفه والأدوات المراد إستعمالها، والأطراف المراد إقحامها، ولن يكون من السهل الخروج من عملية كهذه بمكاسب مضمونة. فمذهبة التجاذب ستكون لها انعكاسات داخلية وخارجية، فيما يسعى الآخرون بمن فيهم أطراف عدة في دائرة الخلاف السياسي اللبناني إلى رفض التوظيف المذهبي.

سعود الفيصل حذر في مؤتمره الصحافي في 13 مايو إيران من تداعيات دعمها لما إسماه (إنقلاباً) في لبنان قاده حلفاؤها في لبنان، في سياق دعمه لحكومة السنيورة وفريق الموالاة. ورفض أي تفاهم مع إيران وسوريا حول الوضع في لبنان، بعد خمسة أيام من إتصال بين الفيصل ونظيره الإيراني متكي بخصوص الأزمة اللبنانية.

وجدت الرياض نفسها أمام تحدٍ جدي لنفوذها في لبنان، الأمر الذي دفعها لأن تخوض معركة مفتوحة وبصورة علنية مستعملة كل أسلحتها السياسية والأمنية والإعلامية. تخلّت القناة الإخبارية السعودية الأبرز (العربية) عن المهنية الإعلامية.

من جانبه، وجّه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في مؤتمر صحافي في نفس اليوم نقداً لاذعاً للأمير سعود الفيصل الذي وصفه بأنه (متوتر)، ويخالف توجيهات الملك عبد الله. وقال: بأن سعود الفيصل يقول شيئاً وحين يكون في حضرة الملك عبد الله يقول شيئاً آخر. وعلّق على اتصال الفيصل بنظيره الإيراني متكي بأنه لم يتقدّم برؤية، وإذا كان لديه رؤية فليتقدم بها ونحن على استعداد للإستماع إليها.

من الواضح، أن الرياض وطهران دخلتا في مواجهة علنية إنطلاقاً من الأزمة اللبنانية، وهما المحوران الرئسيان في هذا البلد، وإن أية تصعيد أمني محلي وإقليمي (كحرب إسرائيلية أو أميركية على حزب الله) سيدخل السعودية ليس كمصدر شرعنة، ولكن شريكاً أساسياً في الحرب، وقد تدخل المجموعات السلفية المتطرّفة المتمذهبة على خط المواجهة هذه المرة، تحت غطاء ديني كثيف من علماء المؤسسة الدينية الوهابية، وفي ذلك مخاطرة كبيرة كونها تضع كل رأسمالها السياسي والمذهبي في مواجهة مع قوى الممانعة وقطاع كبير من المتعاطفين معها على الساحتين العربية والإسلامية، وستظهر الوهابية في خط إستواء مع الغرب الأميركي والإسرائيلي، وهذا مقتلها.

الصفحة السابقة