الـدولـة الخـاسـرة

منذ مطلع الألفية الثالثة، لم تدخل في رهان إلا خسرته، ولم تخض معركة إلا خرجت منها بالهزيمة المهينة، فهل كتب عليها أن تجترح سياسة (حافة الهاوية)، وهل كتب عليها حليفها الإستراتيجي ـ الأميركي أن تختار المبدأ القاتل (من لم يكن معنا فهو ضدنا)، فطبّقته بحذافيره في علاقاتها الدبلوماسية، وفي خصوماتها، وفي رهاناتها السياسية.

كانت حتى قبل عودة الأمير بندر بن بوش الى الديار تتوسّل دبلوماسية هادئة، مواربة، ناعمة معتصمة بالرجاء والخوف، رجاء تحقيق مكسب ما، والخشية من تكبّد خسارة غير محسوبة. وللإنصاف، حققت بتلك الدبلوماسية الناعمة مكاسب جمّة، بالرغم من أن آثار أخطاءها الفادحة السابقة كانت تختفي سريعاً، لأنها كانت تجد وتجنّد من يحارب بالنيابة عنها، ولكن تغييراً فجائياً طرأ على الدبلوماسية السعودية عزّزتها ثلاث محطّات: سقوط نظام صدام حسين في أبريل 2003، وإغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير 2005، والعدوان الاسرائيلي على لبنان في يوليو 2006. عكست هذه المحطات نفسها على نسيج الدبلوماسية السعودية، وصاغت معيارية جديدة في الإستراتيجية العامة السعودية، ورسمت خطاً مائزاً بين معسكرين وضعت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس حدودهما حين صنّفت دول الشرق الأوسط إلى معتدلين وأشرار، قابله تصنيف آخر كرد فعل عليه، يقوم على القرب والبعد من الإدارة الأميركية، يعبّر عنه حالياً بمعسكري الممانعة والإستسلام.

حسناً، هل حقاً ما يقال بأن الوهن الكبير الذي أصاب العرش فتح المجال أمام الإجتهادات الشخصية بحيث بات الجيل الثالث يعكس منافساته وميوله على السياسة العامة للدولة، بحيث نرى لعبة خطوط قد بدأت داخل مؤسسة الحكم، وتعبّر عن تقلّبات حادة في السياسة الخارجية السعودية، فإلى جانب الخلاف بين الملك وغريمه السديري ممثلاً بصورة خاصة في الأمير نايف، ثمة خلافات أخرى إنتقلت إلى الجيل الثالث بين الأمراء بندر بن سلطان وتركي الفيصل كمثال بارز، ثم توسّعت لتشمل أمراء آخرين سواء داخل الدائرة السديرية أو بين الأخيرة والأجنحة الأخرى.

يلحظ من قراءة النهج السياسي السعودي خلال السنوات الخمس الماضية، أن النزوع الإختزالي المتسارع أفضى على نحو عاجل الى تآكل رهانات السعودية وخياراتها أيضاً، بل وأغلق مخارج الطوارىء المتاحة أمامها، بفعل قرارات أحادية صارمة وخشبية. هذا ما تعكسه خسارات متوالية في موضوعات ـ رهانات سياسية أولتها أهمية إستثنائية بدءً من مبادرة السلام التي أعلن عنها الملك عبد الله في قمة بيروت 2002، ومتوالياتها، ومروراً بموضوع الإحتلال الأميركي للعراق، والأزمة السياسية في لبنان.

الآن، وبمناسبة مرور ستين عام على النكبة، تبدو السعودية في وضع لا تحسد عليه، فمحاولة تحويل الأنظار من مركز جاذبية أساسي إلى مركز آخر وهمي، من فلسطين ـ القضية/المشروعية/الذاكرة الجماعية الى السلام/الإلهاء/البتر التاريخي/الاعتدال الأميركي لم يلحق بها سوى الخذلان، يضاف إليه الحديث المتصاعد عن علاقات وترتيبات سريّة إستراتيجية سعودية إسرائيلية.

هكذا، لم تقدر السعودية على صنع منجز تاريخي لافت، فقررت تعويض ذلك بحملة شعارات هوائية، منهوبة من معجمية النضال القومي والإسلامي القديم والمعاصر، من قبيل (صقر العرب)، و(صقر العروبة)، غير قابلة للصرف في معترك الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فيما تمارس الأفعال السياسية أضدادها في التماهي مع السياسة الأميركية، والإندماج التام في الرؤية الإسرائيلية حيال قوى الممانعة في المنطقة.

من غريب أطوار أهل الحكم، صرف النظر عن كل من يفكك الرؤية القاصرة التي حكمت علاقاتهم الإقليمية والدولية، فقد اطمأنوا من غير ضمانة واضحة إلى أن السياسة الأحادية المصحوبة بجرعة زائدة من الإعتداد الفارط بالنفس تظن نفسها بأنها ناجزة حقاً، وتدعي بأنها موضوعية ومثمرة، فيما ترفض كل ما له صلة بالتعدد والتعايش والتأقلم والإستيعاب. يدرك العارفون في السياسة بأن النزوع الأحادي في السياسة يعني تعطيل المصلحة الجماعية القائمة على أساس قومي أو وطني، وانحباساً في مصلحة الطبقة أو الفئة الحاكمة.

ولأنها واحدية، فإنها تفضي الى أعمال عمياء ومبتورة وأخيراً خاسرة، وهو ما تقترفه الطبقة السياسية السعودية، أو بالأحرى من يديرون دفة السياسة الخارجية في هذه الدولة. ولأنها واحدية، أيضاً، فإن رهانها مقطوع ونهائي ومغلق، كيفما كان هذا الرهان، وإن وقع على (الحصان الخاسر) كما مثّله دحلان في فلسطين، وعلاوي في العراق، والحريري وحلفائه في لبنان. لا ضير بأن تضع بعض الرهان على هؤلاء، كونهم، على أية حال، يملكون قواعد شعبية مؤثرة وفاعلة، ولكن ما هو رهان خاسر، أن يكون التعويل كله منصبّاً عليه وحده لا شريك معه، كيف وإن تطلب رهان ما قطع السبيل بصورة تامة مع الرهانات الأخرى كما فعلت في فلسطين والعراق ولبنان..

عقم الرؤية السعودية يكمن في الوظيفة السياسية المرجوة من المال المدفوع لصنع حلفاء أو حتى أصدقاء في بلدان أتقنت قواها السياسية فن الحصول على المال بلا مقابل سياسي جدّي، اللهم إلا قائمة وعود مبتورة. لقد بات واضحاً، أن المال قادرعلى تجنيد (مرتزقة) مؤقّتين، وليس حلفاء إستراتيجيين، وليس هناك من هو على استعداد للتضحية بالروح من أجل مال أريد له أن يحسن ظروف حياة لا أن يحفر القبور، وهو ما لا تريد الطبقة السياسية إستيعابه. فقد يوظّف المال لجهة تفجير وضع ما لا ينطوي على مغامرة بالروح، كزرع عبوة ناسفة، أو تفخيخ سيارة في شارع عام، أو حتى تمويل عملية إغتيال خاطفة، ولكن هذه لا تصنع، إن نجحت، معادلة.

إن وعي مثل هذا العقم في الرؤية السياسية السعودية يقودنا الى التنبّه لضروب الأحادية المتكررة في أشكال عدة، إحساساً من الطبقة الحاكمة بأنها تحقق ما تعجز عنه الأطراف المنافسة لها، والتي ترى مكاسبها بالعين المجرّدة، فيما تصرف النظر عن خساراتها المتوالية، في المواقع التي توافرت على فرص تاريخية قد لا تتكرر كيما تحقق ما يعجز الآخرون عن أداء مثله.. ولكن قاتل الله الغباء السياسي المحقون بإحساس وهمي بالقوة.

الصفحة السابقة