مخاوف الرياض من تفاهم إيراني أميركي

قلق الخروج السعودي من الموسم السياسي

محمد السباعي

ماذا لو قررت واشنطن فتح قنوات الحوار مع طهران؟ وماذا ستخسر الرياض التي لا تملك سوى قوة مالية يضعف جهازها الدبلوماسي عن إدارته بصورة صحيحة، فضلاً عن استخدامه كورقة ضغط من أجل تحقيق مكاسب سياسية محددة؟ حتى الآن، يجري توظيف المال النفطي في خدمة السياسة الغربية، بالرغم من خساراته الفادحة إقليمياً، فكل خسارة أميركية على المستوى السياسي ينعكس مباشرة على السياسة السعودية، وبالتالي يشكّل خسارة إقتصادية، وحتى الآن لم ينجز المال النفطي مكسباً لافتاً ما خلا بعض (التشويش) في ساحة هنا وموقع هناك.

يراقب كثيرون سيرورة المباحثات العلنية والسريّة التي تجري بين واشنطن وطهران وانعكاساتها على الأوضاع السياسية في المنطقة من أفغانستان وصولاً إلى لبنان. كان الدور الإيراني الفاعل في تسوية مشكلات ما بعد سقوط حكومة طالبان قد شكّل أول دليل على كفاءة الدبلوماسية الإيرانية، ثم جاءت اللقاءات الثنائية المثمرة للبحث في الملف الأمني العراقي ليبعث قناعات بائتة بضرورة تطوير علاقة من نوع وثيق مع طهران في مرحلة لاحقة بالرغم من الإرجافات السياسية في العلن بشأن الملف النووي الإيراني.

بمرور الوقت، ثبت أن طهران تلعب دوراً مركزياً في ملفات المنطقة، بالرغم من الضغوطات المتراكمة ضدها للحد من نفوذها الإقليمي، ونجحت إيران في إقناع الغرب عموماً والولايات المتحدة على وجه الخصوص بأن العامل الإيراني أساسي في النظام الإقليمي، وثمة ضرورة لتثميره في تحقيق الإستقرار. هكذا بدت نتائجه المقنعة في أفغانستان في سنوات سابقة وظهر مؤخراً في العراق ولبنان.

محاولات الرياض، وتحديداً منذ بدأت المباحثات الأميركية الإيرانية حول الأوضاع الأمنية في العراق لم تسفر عن تقليص للدور الإيراني في العراق، بل ازداد الأميركيون قناعة بأن لا إستقرار قابل للديمومة دون تعاون فاعل من الجانب الإيراني.

مراكمة الضغوط الدولية من قبل السعودية على إيران خلال الأعوام الثلاثة ساهمت في توليد إنطباعات جديّة بأن المال السعودي صالح للإستعمال الظرفي، ولكنه بالتأكيد يعجز عن صنع تغيير، وحتى العمليات التخريبية التي دخل فيها المال السعودي لزعزعة حكومة نوري المالكي عن طريق تمويل تنظيمات سنيّة وشيعية تهدف إلى إشاعة الفوضى وتصديع العملية السياسية تنتهي دائماً إلى نتائج عكسية، حيث تتعزز أسس الحكم الجديد في العراق، وتتراجع فرص سقوطه.

الحال نفسه ينسحب على لبنان، حيث أن المال السعودي الذي تم إغداقه بسخاء، كشف عن حجمه مسؤولون إسرائيليون وقدّروه بنحو 12 مليار دولار خلال العامين الأخيرين تم إنفاقها على حلفاء السعودية سجّل إخفاقاً ذريعاً في الواقع السياسي، وخرجت الرياض بخيبة أمل بعد السابع من مايو ومتوالياتها (مؤتمر الدوحة ونتائجه العملية: تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وتحقيق الثلث الضامن للمعارضة)، وكل ذلك لم يتم إلا بعد تفاهم متقدّم بين طهران وواشنطن. وقد أشار رئيس مجلس الشورى في إيران علي لاريجاني في يوليو الماضي بأن الإدارة الأميركية اختبرت التعاون الإيراني في العراق ولبنان أخيراً.

فجأة تراجعت وتيرة العنف في العراق، بعد أن سحب التيار الصدري مسلّحيه وقرر وقف العمليات العسكرية، في إطار تفاهم إيراني عراقي أميركي، أظهر نتائج فورية على الأرض، فيما فتح باب واسع أمام ترتيبات جديدة لتعزيز العملية السياسية بعد موافقة جبهة التوافق على العودة الى الحكومة، وكذلك انحسار الوجود العسكري للتيار الصدري في إطار تفاهم مع قيادة التيار، جرى في طهران بعد عمليات البصرة الأخيرة قبل ثلاثة شهور.

نتائج كهذه لم تأت بفعل القوة العسكرية الأميركية التي ما فتئت تفقد مفعولاتها السياسية والأمنية لوجود مقاومة شرسة تتلقى دعماً مفتوحاً من إيران وسوريا إضافة إلى دول أخرى بما في ذلك السعودية والإمارات والأردن ومصر، وكل له غاياته الخاصة. ولكن حين نأتي على الدور الإيراني في دعم المقاومة يصبح الكلام حول قدرة أمنية وعسكرية يتم تقديمها للتيار الأكثر شعبية في العراق، والقادر على إحداث عطل كبير في المعادلة السياسية والأمنية.

كان لافتاً ذلك التحوّل الأمني المفاجىء في العراق خلال الشهور القليلة الماضية، ولم تستغرق عملية إستكشاف العوامل المساهمة في ذلك التحوّل زمناً طويلاً، فقد توصل المراقبون إلى أن تعاوناً أميركياً إيرانياً كان وراء إنفراج الأوضاع الأمنية في العراق ثم مالبث أن تمدّد ليشمل ملفات أخرى في المنطقة شملت بصورة مباشرة لبنان، بل زاد المراقبون على ذلك بأن الإعلان عن المباحثات السورية الإسرائيلية في تركيا كانت إحدى الثمار التي أينعت مؤخراً في تفاهم طهران وواشنطن وكذلك الحال بالنسبة لصفقة التبادل بين حزب الله والدولة العبرية.

ويذهب مراقبون إلى أن تلك المنجزات المتواترة لا تثبت فقط نجاح التفاهم الأميركي الإيراني بل تلمح إلى مرحلة جديدة من التعاون والتنسيق على مستوى إقليمي وربما دولي في مرحلة لاحقة.

بحسب مصادر سياسية رفيعة المستوى، إن ما يجري من تصعيد في النبرة الأميركية بشأن الملف النووي الإيراني يستهدف بدرجة أساسية الضغط على طهران لتسهيل إبرام الإتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، ولذلك قامت طهران برد فعل مماثل حيث شجّعت وموّلت عدداً من المؤتمرات الشعبية في العالم العربي والغرب لحشد رأي عام عربي وإسلامي ضاغط على واشنطن للحيلولة دون توقيع الإتفاقية الأمنية.

وفيما أصبح الملف اللبناني خارج إطار التجاذب بعد أن فقدت الرياض أوراقاً هامة منذ السابع من آيار، إذ خسرت السعودية ما اشتغلت عليه طيلة سنتين من ترتيبات أمنية وسياسية، فإن العلاقات الإيرانية الأميركية تسير في اتجاه يثير مخاوف جديّة لدى الرياض، وهي التي ما فتئت تحشد الحلفاء القريبين والأصدقاء البعيدين من أجل تطويق أية محاولات تقارب بين طهران والغرب كيما لا تفقد الرياض مكانتها التقليدية في السياسة الدولية على المستوى الإقليمي.

وبخلاف ما كان متوقعاً من طهران، فإن الإتجاه الراديكالي في الحكومة الإيرانية ممثلاً في الرئيس محمود أحمدي نجاد بدا مرناً بصورة لافتة حيال الحوار المفتوح مع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بالرغم من تصاعد الضغوطات على إيران لوقف الأنشطة النووية بصورة عامة. فقد التقى المبعوث الأميركي بيرنز المسؤول الإيراني جليلي الذي جاء الى جنيف في 22 يوليو الماضي للتباحث في موضوع الحوافز الغربية لإيران.

كان لافتاً أيضاً قبول الجانب الأميركي التفاوض مع إيران بدون شروط مسبقة، كما كانت تصرّ واشنطن على لسان وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، قابله الرئيس الإيراني بموقف مماثل حين أعلن عن رغبة في الحوار مع واشنطن. كل ذلك يلمح إلى مفتتح جديد في علاقة ظلّت متوتّرة منذ الثورة الإيرانية عام 1979، الأمر الذي يلفت إلى مناخات حوارية إيجابية بين إيران والولايات المتحدة.

فقد نقلت وكالات الأنباء الإيرانية والعالمية في 15 يوليو الماضي عن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، أي قبل أيام من لقاء جنيف بمشاركة موفد أميركي، بأن محادثات الولايات المتحدة وإيران (ممكنة في مستقبل قريب)، وأوضح نجاد في مقابلة مع التلفزيون الإيراني العام (من الممكن إجراء محادثات في مستقبل قريب مع الولايات المتحدة حول مواضيع مختلفة). وأشار نجاد إلى أن (بعض الأمور ستحصل) في الأشهر المقبلة، وأضاف: مهما كان الحزب السياسي الذي سيفوز في الانتخابات (الرئاسية) في الولايات المتحدة عليه أن يدرك قوة إيران غير القابلة للتجاهل من أي طرف، وقال (لقد تلقينا عدة رسائل بهذا الخصوص). بل ألمح الرئيس الإيراني إلى أن ثمة مناقشات تجري لتهيئة الدخول في مفاوضات رسمية.

من الطبيعي أن تثير هذه التطوّرات الهامة حفيظة الرياض التي خصّصت جزءً أساسياً من ثروتها النفطية من أجل إعادة بناء تحالف إستراتيجي مع الولايات المتحدة بما تطلّبه من تنازلات سياسية، وصفقات تجارية وعسكرية ضخمة، من أجل أن تستعيد دورها في الخارطة الجيوسياسية الأقليمية، في ظل صعود قوى جديدة وخصوصاً في العراق ولبنان وفلسطين.

إن التقارب الإيراني الأميركي يشكّل دون ريب تحديّاً كبيراً للسعودية، إذ سينظر إليه على أنه تجاوز عليها، وخرقاً لأسس التحالف الإستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة، تماماً كما هو شأن المفاوضات الجارية بين سوريا وإسرائيل، حيث تقطع الطريق على استثمار سياسي سعودي محتمل. يشير هذان التطوّران إلى أن السعودية ليست أثيرة دائماً لدى حلفائها، وأنهم ليسوا على استعداد للمراهنة على خيار هزيل لم يحقق اختراقات سياسية لافتة طيلة السنتين الماضيتين، أي منذ الإعلان عن تشكيل حلف المعتدلين.

فما سعت إليه السعودية خلال تلك المرحلة حقّقته طهران وواشنطن في غضون شهرين، بحيث عكست نتائجه الفورية على العراق ولبنان والمنطقة عموماً. بل عكس المناخ الإيجابي في حوار الغرب مع إيران نفسه أيضاً على أسعار النفط في الأسواق العالمية حيث انخفض سعر البرميل بوتيرة لافتة، وهذا يشكّل بارومتر آخر في تأثير العلاقات بين إيران والغرب على الإقتصاد العالمي.

كل ما تخشاه السعودية من هذه التطوّرات يتلخّص في تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة، ولذلك تقوم ما أمكنها ذلك بكل ما يمنع تأثيراته. تراجع الدور السعودي سواء في العراق أو في لبنان او حتى في فلسطين يجعل فرص نفوذها الإقليمي ضئيلة، ولذلك تلوذ بخيارات راديكالية أحياناً دونما رؤية سياسية واضحة، فهي أقرب الى المواقف الإنفعالية منها إلى الواقعية والعقلانية. ونلحظ ذلك بوضوح بعد انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان الذي كان مبرر المقاطعة السعودية لسوريا دبلوماسياً، حيث واصلت الرياض سياسة القطيعة مع دمشق، وأبقت الأبواب مغلقة بإحكام أمام أي فرص للتقارب، بل راهنت على تشديد الطوق المفروض على سوريا من قبل الغرب، والذي انكسر بعد زيارة الرئيس بشار الأسد إلى باريس في يوليو الماضي.

لابد هنا من الإشارة إلى ما جنته السعودية من مخطط إسقاط النظام السوري، والذي جلب عليها سخطاً شعبياً عارماً، حيث باتت حظوظ الرياض في أن تستعيد صورتها بوصفها عاصمة الوفاق العربي والحليف الوفي لدمشق ضئيلة بل شبه معدومة، وهناك من يهمس في مجالسه الخاصة إلا أن الممارسات السعودية غير الأخلاقية والمتعارضة مع القيم العربية تدفع سوريا إلى تحيّن الفرصة لرد إنتقامي يتناسب مع المؤامرة التي أفضت إلى زعزعة الإستقرار الداخلي لعدة شهور وكادت أن تطيح النظام.

إستعادة النظام السوري للامساك بزمام الوضع الأمني الداخلي وتصفية العناصر المرتبطة بالسعودية عبر قيادات سورية معارضة، عزّزت من صدقيّة التحالف الإستراتيجي بين إيران وسوريا، وإذا ما قدّر لتفاهم إيراني أميركي أن يواصل تطوّره الإيجابي فإن السعودية ستجد نفسها أمام حقائق جديدة ليست قادرة على العبث بها، خصوصاً وأن تلك الحقائق تمثّل ضرورات أساسية للغرب في المنطقة.

فكما جلب التفاهم الأميركي الإيراني تحسّناً كبيراً في الوضع الأمني داخل العراق، وأزال الإنسداد السياسي في لبنان، وفتح أفق جديد في المفاوضات بين سوريا والدولة العبرية، فإنه قابل لأن يستوعب ملفات أخرى ساخنة، بما في ذلك الملف النووي الإيراني، والإتفاقية الأمنية مع العراق، وقد يكون الملف الفلسطيني جزءً أساسياً في التفاهم الإيراني الأميركي.

كان بإمكان التفاهم الإيراني السعودي أن يحول دون ذلك كله، خصوصاً وأن طهران بادرت إلى الرياض في أكثر من مناسبة لتقاسم النفوذ، ولكن السعودية إختارت سبيلاً آخر، يقوم على توظيف تحالفها الإستراتيجي مع الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، من أجل الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، ولكن هذا النفوذ يتحقق الآن في سياق عملية تفاهم بين طهران وواشنطن. هناك من يرى في التفاهم أبعاداً إنتخابية، سواء قريبة في الولايات المتحدة أو بعيدة في إيران. فثمة في الأخيرة من يعمل على إنضاج تفاهم مع الإدارة الجمهورية كيما تواصل مسيرة علاقات بدأت تركب سكة صحيحة ثابتة، بدلاً من المراهنة على الديمقراطيين الذين قد يجنحون إلى تبديل أجنداتهم السياسية بعد الفوز بالإنتخابات، لا ننسى الإشارة إلى أن الثورة الإيرانية إندلعت في ظل إدارة ديمقراطية.

رفضت الرياض التسليم بحقيقة أن لإيران نفوذاً إقليمياً يجب القبول به أو على الأقل التعامل معه بطريقة صحيحة، وبما يجعل تثميره في القضايا الجدلية ممكناً. في المقابل، بدأت المواقف الأوروبية والأميركية تنزع نحو واقعية إيجابية، بحيث تقرّ بهذا النفوذ، ولكن في الوقت نفسه تعمل الدول الأوروبية والويات المتحدة على (ترشيده) أو (ضبطه)، حتى لا يكون مهدّداً لمصالحها أو متعارضاً مع سياساتها في المنطقة.

هناك من يعتقد بوجاهة جديرة أن التقارب الإيراني الأميركي لن يقود إلى تقارب إيراني سعودي، ببساطة لأن الأول من وجهة النظر السعودية متعارض مع توجّهاتها وأهدافها، بل تنظر إليه على أنها المستهدف المباشر منه. ولهذا السبب، فإن المرشّح في العلاقات بين الرياض وطهران هو التدهور والتصادم في مواقع الإحتكاك الراهنة خصوصاً في لبنان، إضافة إلى ملفات أخرى يشارك فيها الطرفان بحماسة عالية حيث لا أثر لمعارك مادية، منها التصعيد المذهبي ضد إيران في لبنان وفلسطين، وتهويل الخطر الإيراني النووي، واحتضان تنظيم مجاهدي خلق، وشن حملات إعلامية مركّزة ضد إيران، في مقابل تحريك إيراني لحلفائها من أجل الكشف عن خطر السعودية على مصالح الأمة، وتحالفها مع الدولة العبرية، وضلوع الوهابية في التحريض الطائفي وشق وحدة الصف الإسلامي.

الصفحة السابقة