السعودية: استيعاب طالبان مجدّداً

مفاوضات سرية خشية الفشل

محمد فلالي

لم يطل أمد السريّة المحيطة بالانعطافة الحادة التي قامت بها الدبلوماسية السعودية في المسار الأفغاني، في محاولة للعودة الى لعب دور مركزي فيه، بعد أن تكبّدت خسائر فادحة في مواقع أخرى كانت ترجو السيطرة عليها بصورة شبه كاملة. واستناداً إلى تجربة طويلة تشتمل على الرعاية بأنواع متعددة مالية وشعبية وسياسية وأيضاً استخبارية، وجد الأمراء أنفسهم أمام فرصة سانحة تلوح من أفغانستان المثخن بجراح المحتل، والغارق في أزمته المزمنة الأمنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، من أجل التعويض عن إخفاقات متواصلة لم يخرجوا منها سوى بأذيال الخيبة.

طالبان تدقّ أبواب كابل عنفاً

فيما يغلق المشهد السياسي الأفغاني على معضلة خطيرة تواجه قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، حيث لا مجال للإنتصار والاستقرار، بدأت الحلول الاستخبارية والدبلوماسية بالانتعاش مجدداً لإنقاذ المحتل من هزيمة محققة.

ومن العاصمة البريطانية، حيث شرع المسعفون البريطانيون والسعوديون جولة مفاوضات لإنقاذ المريض الأفغاني، كشفت صحيفة (ذي أوبزرفر) في 28 سبتمبر الماضي عن وساطة سعودية بريطانية في مباحثات سرية شاركت فيها حركة طالبان والحكومة الأفغانية ودول اوروبية. أشارت الصحيفة الى أن الدور البريطاني في المفاوضات ينصبّ على إضفاء الشرعية والدعم الدبلوماسي للمفاوضات، في إشارة الى أنها لا تشارك بصورة مباشرة مع جهة مازالت موصومة بدمغة (الإرهاب)، فيما لم تشر الصحيفة إلى الدور السعودي، وإن كانت مصادر أفغانية وبريطانية ذكرت بأن الدور السعودي كان رئسياً بسبب الخبرة الطويلة في الشأن الإفغاني والعلاقة الوثيقة التي تربط الأمراء السعوديين بقيادات حركة طالبان.

من اللافت أن تسرّب نبأ المفاوضات أعقبه تصريحات من عواصم القرار تشدّد على التفريق بين تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لندن وحركة طالبان بقيادة ملا عمر، وأن ثمة أخباراً جرى الترويج لها بصورة مقصودة تدور حول أزمة ثقة تحكم علاقة القاعدة بحركة طالبان.

ولتأكيد الدور السعودي في مباحثات السلام، كما تصف الأطراف المشاركة فيها، وجّه الرئيس الأفغاني حامد كرزاي بصورة رسمية في 30 سبتمبر الماضي دعوة الى الملك عبد الله للمساعدة في في محادثات مع قيادات طالبان، في إشارة إلى انزعاج السعوديين من إعلان الخبر الأمر الذي اضطر كرزاي لإسباغ صفة رسمية على المفاوضات، وكأنها جاءت بطلب من الجانب الأفغاني.

على أية حال، فإن الكشف عن خبر المفاوضات تسبب في تصلّب مواقف حركة طالبان، وقد أكّدت الأخيرة على أن المباحثات في الأسابيع الأخيرة من سبتمبر فقدت بصورة كبيرة زخمها، ولم تعد قادرة على إحداث اختراق في المواقف.

وفيما نفى كرزاي نبأ المفاوضات مع طالبان، بدت لهجة ملا عمر متشدّدة وتمسّك بخيار الإستمرار في الحرب.

كرزاي قابل دعوة ملا عمر القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي بالإنسحاب من أفغانستان بمناشدة الى كل من طالبان والسعودية بالعمل من أجل إقرار السلام في أفغانستان والمنطقة. السعودية، بوصفها أحد الدول الراعية لحكومة طالبان، إلى جانب الامارات العربية المتحدة وباكستان، مازالت تراهن على علاقتها الوثيقة بقيادات طالبان في التوصّل إلى نتائج تعيد إحياء دورها في الشأن الأفغاني، وفي الوقت نفسه تقطع الطريق على النفوذ الإيراني.

كرزاي: فشل الحل العسكري

الرئيس الأفغاني كرزاي بدا بعد دعوته السعودية للتدخل لدى قيادات طالبان، أكثر انفتاحاً على خيارات التفاوض مع الأخيرة، حيث شدّد على أن تكون أفغانستان هي المكان الطبيعي لعقد المفاوضات، وليس السعودية، كما طالب قيادة وعناصر طالبان بالعودة الى ديارهم وأنه سيضمن حمايتهم.

أما قائد حركة طالبان الملا محمد عمر فله موقف مختلف، حيث بدا واثقاً من قدرته على العودة الى سدّة الحكم في أفغانستان، وقال بأنه (سيضمن أمن القوات الأجنبية في حال انسحابها من أفغانستان).

وسط هذين الموقفين المتقاطبين، بعد تسرّب نبأ المفاوضات، والذي تنظر إليه قيادة طالبان بأنه فعل مقصود بهدف الإضرار بسمعة الحركة وإحراجها أمام أنصارها، وكذلك توفير غطاء دولي لأية تدابير أخرى لاحقة، لا تجد السعودية في وساطتها ما يشجّع كثيراً وخصوصاً أن سقف الآمال بدا عالياً جداً ويهدف إلى تحقيق سلام شامل. السعودية التي خاضت تجارب فشل متواصلة في قضايا فلسطين، ولبنان، والعراق، وكذلك السلام في الشرق الأوسط تتردد كثيراً في رعاية مفاوضات (علنيّة)، تكاد تكون فرص فشلها أكثر من فرص نجاحها، خصوصاً وأنها ليست مسيطرة بصورة شبه كاملة على حليفها القديم ـ أي طالبان، فضلاً عن قدرة القوى النافذة في الشأن الأفغاني على استيعاب المواقف السعودية.

لم تعلّق القيادة السعودية على دعوة كرزاي لها بالتدخل، وأبقت الباب مفتوحاً كيما (توزن) الخيارات المتاحة من حيث الربح والخسارة، ولم تصل بعد إلى نقطة الحسم. ويميل الأمراء الى إبقاء المفاوضات قيد السريّة من أجل ضمان نجاحها وعدم تدخّل الأطراف النافذة في الشأن الأفغاني لتخريبها، والأهم من ذلك كله أن تخرج سالمة في حال فشلها.

حصلت السعودية على غطاء أوروبي وأميركي في المفاوضات، وكما هو شأن الدور السعودي المتوافق مع أدوار أوروبية وأميركية في قضايا أخرى مثل العراق ولبنان وفلسطين وإيران، فإن التنسيق السعودي البريطاني كان دائماً في أحسن حالاته.

ومهما قيل عن تصلّب المواقف في العلن، فقد بدت قيادة طالبان جاهزة للدخول في تسوية تعيد لها جزءً من سلطتها المنزوعة، وهو ما عبّر عنه كرزاي حين وعد بإدماج طالبان في حكومته وتسليمهم بعض الوزارات. لا يبدو أن طالبان على قناعة بقسمة زهيدة في السلطة، بالرغم من المرونة التي أبداها في الأسابيع الأولى من المفاوضات أحد قياديي حركة طالبان الذي كان يتنقّل بين كابل والرياض ولندن، وهذا ما يجعل السعودية مترددة في رعاية مفاوضات غير مضمونة النتائج مالم تحصل على (تعهدّات خطيّة) من كرزاي وملا عمر على الإلتزام بما يتم الإتفاق عليه بصورة علنية فور الإنتهاء من المفاوضات السريّة. وبعد ترتيبات قام بها نواز شريف، رئيس الرابطة الإسلامية في باكستان، جرت مفاوضات مكة المكرمة خلال أيام عيد الفطر بحضور ممثلين عن حركة طالبان ومسؤولين في حكومة حامد كرزاي لم تسفر عن نتائج حاسمة، ما تسبب في تصعيد جديد في لهجة قادة طالبان، بالرغم من تحديد السعودية لجولة مفاوضات أخرى تجري بعد شهرين من بدء الجولة الأولى.

ضعيف: كشف الوساطة أفسدها

إعتبر مراقبون إفشاء خبر المفاوضات دليلاً واضحاً على فشلها، كما تعكسه النبرة الحادّة والمتصاعدة لدى الجانبين (كرزاي وطالبان)، يضاف إلى ذلك ما أعلنته الصحيفة البريطانية آنفة الذكر عن أن المباحثات فقدت زخمها في الأسابيع الماضية، بسبب كثافة القتال وتصاعد وتيرة الهجمات من قبل طالبان (بحسب صحيفة صنداي تايمز فإن هجمات طالبان ، في تزايد مستمر، مشيرة إلى أن عددها قفز من سبعمائة شهريًا العام الماضي إلى ما يقارب الألف شهريًا في الشهرين الأخيرين)، وهو ما دفع بها لرفع سقف مطالبها في المفاوضات، والتي اشتملت على أحد عشر شرطاً من بينها تولي عدد من الوزارات السيادية منها الدفاع والداخلية ووضع جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية.

إزاء هذه المطالب العالية، يفضّل الأمراء العمل بعيداً عن الأضواء، بل تم إبلاغ الأطراف المشاركة أو الراعية مثل بريطانيا عدم زج إسم السعودية في المفاوضات، وهذا ما دفع متحدّث بإسم الخارجية البريطانية إلى نفيه العلم بوجود مبادرة سعودية (بحسب ما هو معهود في الدوائر الدبلوماسية)، في الوقت الذي أكّد أن الحكومة البريطانية تدعم بشكل جدي عملية المصالحة التي تجريها الحكومة الأفغانية. على أن مسؤولين أوروبيين أكّدوا على أن للسعودية دوراً فيما يجري من مفاوضات بين طالبان وحكومة حامد كرزاي، يضاف إليه طلب رسمي تقدّم به الأخير للسعودية للمساعدة في وساطة للحوار بين الطرفين، كما أقرّ كرزاي بأن مسؤولين أفغان زاروا السعودية لهذا الغرض.

عودة إلى رسالة الملا محمد عمر التي نشرت على شبكة الأنترنت في 29 سبتمبر الماضي، فإن إشارات ضمنية كانت تنطوي، بحسب اعتقاد بعض المراغبين، على رغبة غير مباشرة في التسوية، خصوصاً قوله (أن طالبان لا تشكّل خطراً على أحد في العالم)، وكذلك قوله (أعيدو النظر في قرار الإحتلال الخاطىء واسعوا الى خروج سالم لقواتكم). ولكن مالبث أن بدّدت قيادة طالبان في اليوم التالي (30 سبتمبر) هذه الآمال، بأنها ترفض أي نوع من المحادثات مع الحكومة الأفغانية بوساطة السعودية معتبرة أن الأنباء تلك مجرد (إفتراء على الحركة)، وأنها ترفضها رفضاً باتاً وأنه (لا وجود لهذا النوع من المحادثات بوساطة السعودية).

جدير بالإشارة، بدأت طالبان منذ العام الماضي (2007) باستعادة زمام المبادرة في القتال الدائر مع قوات الناتو (إيساف) بقيادة الولايات المتحدة، وأن للحركة وجوداً دائماً في أكثر من نصف المناطق الأفغانية ، فيما ذكرت صحيفة (صنداي تايمز) في نهاية سبتمبر الماضي بأن الحركة باتت على 20 دقيقة من العاصمة الأفغانية، كابل، وقد اعترف المتحدّت بإسم (إيساف) الجنرال كارلوس برانكو قبل عام بأن مقاتلي طالبان يشكلون خطورة بالغة، وهم التحدي الرئيسي.

وبالرغم من محاولة الإدارة الأميركية لخلق جبهة قتال أخرى تكون أطرافها أفغانية خالصة، عن طريق تجنيد عشائر أفغانية على غرار (نموذج الصحوات في العراق) لمقاتلة عناصر حركة طالبان إلا أن الخطة واجهت فشلاً ذريعاً، وهو تعبير عن فشل السياسات العامة التي اتبعتها قوات التحالف في إدارة أفغانستان، حيث لم تقم القوات الغازية بتقديم حلول للمشكلات الإقتصادية والإجتماعية، أو تحسين الخدمات العامة في مجال الصحة والتعليم وتوفير الغذاء أو حتى تطوير البنية التحتية في هذا البلد، الأمر الذي جعل كثيرمن الأفغان يميل إلى جانب حركة طالبان، وتبني خيار القتال لطرد القوات الغازية.

نواز شريف: الوسيط

تحوّلات مواقف الأفغان كشفت عنها استطلاعات الرأي في أفغانستان التي جرت في الفترة ما بين 2005 ـ 2008، والتي بدا فيها الرأي العام الأفغاني سلبياً تجاه الوجود الأميركي في أفغانستان، حيث ظهر أن أكثر من ثلثي الشعب الأفغاني متفق على أن مهمة القوات الأجنبية في أفغانستان لم تكن جلب الأمن والاستقرار أو تحسين الظروف المعيشية للسكّان بقدر ما كانت إحتلال البلاد. يبقى أن طالبان لم تحسن إدارة اللعبة السياسية جيداً، خصوصاً بعد تزايد قتل الأبرياء والمدنيين وهدم المدارس ومنع الناس من التكسّب أو حتى محاربة مشاريع إعمار البلاد الأمر الذي جعل كثيراً من الأفغان يتوجسّون خيفة من عودة طالبان الى السلطة.

على أية حال، وفي موازة ذلك فإن فشل حلف شمال الأطلسي أكّده فشل آخر حتى في أسلوب القتال وطبيعته، حين اقترفت قوات الناتو جرائم حرب ضد المدنيين عبر شنّ عمليات عسكرية ضد المنشآت المدنية والتي أدّت الى مقتل مئات المدنيين، ما تسبب في إحراج الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الذي وجّه إتهامات صريحة لقوات الناتو التي تقودها واشنطن بتجاهل التنسيق مع القوات الأفغانية ما تسبب في وقوع أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين. وقال كرزاي في رد فعل غاضب على هذه الأعمال الوحشية بأن (حياة الأفغان ليست رخيصة الثمن)، ما جعل متحدّث بإسم قوات الناتو للإعتراف بأن غضب كرزاي مبرر.

لهذا السبب وأسباب أخرى وجيهة، يمكن تفهّم الموقف المتصلّب لدى حركة طالبان من أية عملية تفاوضية، ويمكن أيضاً فهم خطورة مغامرة السعودية على رعاية مفاوضات قد تضعها في صف المحتّل ولا تحصل على مكسب سياسي في حال نجحت طالبان في العودة إلى السلطة، وهو أمر بات مطروحاً الآن بقوة، كما تشير إلى ذلك التقارير الميدانية التي تتحدث عن تصدّع في جبهة قوات الناتو وتقدّم طالبان باتجاه العاصمة كابل، حيث باتت عناصر الحركة على مقربة منها. وبعد هجوم أبريل الماضي خلال الاحتفال بالعيد الوطني وذكرى نهاية الحكم السوفييتي لأفغانستان والذي كاد أن يودي بحياة كرزاي، بات الحديث يدور حول عزم طالبان على البدء بمعركة تحرير كابول بعد أن أحكمت سيطرتها على أغلب مناطق شرق وجنوب أفغانستان.

الرياض التي تبدو مرتاحة الى حد ما في اختلال ميزان القوى الأفغاني، تريد ثمناً كبيراً بالرغم من أن طالبان ليست مستعدة للقبول به إذا كان سيأتي على حساب المجهود القتالي الذي بذلته منذ عام 2001، أو إذا جاء ضمن تسوية سياسية قد تملي عليها القبول بوجود القوات الأجنبية لتصفية حسابات مع دول أو جماعات معادية للولايات المتحدة. ولذلك، فإن طالبان تمسّكت حتى الآن بشرط جوهري في أية مفاوضات يزمع تنظيمها مع الحكومة الأفغانية وهو لا مفاوضات في ظل وجود المحتل، وبحسب قاري أحمدي، المتحدّث بإسم طالبان فإن (الحركة لن تتفاوض أبدأ مع السلطات الأفغانية قبل انسحاب كافة القوات الأجنبية من أفغانستان..).

وفيما تفقد باكستان دورها التاريخي في القضية الأفغانية، والذي يأتي لصالح السعودية، فإن إيران تعود مجدداً ولكن هذه المرة بالتنسيق مع باكستان لجهة التوصل إلى صيغة مشتركة تكفل مصالح الدولتين في أفغانستان، إذ لم تعد باكستان، التي تعيش وضعاً بالغ الخطورة يهدد بسقوط الدولة، قادرة بمفردها على إدارة الملف الأفغاني، فيما تفيد طهران من صمت الرياض حيال دعوة كرزاي للتدخّل، في مسعى لتأمين حدودها في الشرق قبل أن تتشكّل معادلة أخرى في أفغانستان، وعدم استغلالها من قبل أطراف أخرى للضغط عليها في مواقع أخرى، مثل العراق، وهو ما يشجّع السعودية على رعاية مفاوضات أفغانية استجابة لضغوط أميركية ومصالحها الخاصة لقطع الطريق على أي دور إيراني محتمل، بالرغم من أن علامات الفشل مازالت تحوم حول أي مبادرة سعودية محتملة. التباين الإيراني السعودي في مقاربة الموضوع الأفغاني بدا واضحاً بشدّة، حيث تمسّكت إيران بخيار دعم حكومة حامد كرزاي فيما تتمسك السعودية بدعم حليفها القديم طالبان، ولكن الأخير يخشى ان يقوده السعوديون إلى الأحضان الأميركية مرة أخرى.

الصفحة السابقة