مقدمات الصراع السعودي ـ الإيراني على النفوذ

السعودية تدخل المعركة بعد أن انتهت!

عمر المالكي

تشحذ السعودية آلتها السياسية والإعلامية لتفتح صراعاً جديداً مع إيران، بعد نحو عقد من عودة العلاقات بين البلدين الى طبيعتها.

كل المؤشرات تدلّ على أن السعوديين يستعدون لمعركة من نوع ما.

هي بالقطع ليست معركة عسكرية.

فلا حلفاء السعودية الغربيين يريدون أو قادرون على إدارة معركة في عهد الرئيس الجديد أوباما، ولمّا تندمل جراحهم من العراق بعد. وإن كان هناك أملٌ سعودي بأن يجدوا جهة (ما) تقوم بعبء الحرب، ويتولون هم التمويل، شأنهم في ذلك شأن إسرائيل التي تتمنى هي الأخرى أن تقوم حربٌ غربية ـ إيرانية دون أن يتكلّفوا ثمناً لا مالاً ولا دماً. وحتى الآن فإن خيار الحرب مستبعد جداً، ولكن وقوعها ليس مستحيلاً بأية حال.

ولا السعودية من جانبها قادرة على شنّ حرب عسكرية على ايران، أو حتى مناوشتها عسكرياً، بالنظر الى موازين القوى.

إذن نحن بإزاء معركة سياسية/ دبلوماسية/ استخباراتية وحتى إقتصادية تستهدف منها السعودية:

1/ إعادة نفوذها الضائع في العالم العربي، وبالخصوص في لبنان وفلسطين، وربما في العراق الذي لاتزال تراه السعودية تابعاً لإيران، وإن كانت لم تخسر فيه نفوذاً، لأنه لم يكن لها في يوم من الأيام نفوذ في العراق، لا في العهد الملكي، ولا العهد الجمهوري، ولا العهد الجديد!

2/ محاصرة النفوذ الإيراني من التمدد أكثر وأكثر الى أماكن غير متوقعة.

3/ إضعاف إيران كنموذج منافس للدولة الناجحة والمتطورة والمؤثرة في محيطها الإقليمي.

طبيعة المعركة ليست إعلامية فحسب، وإن كان الإعلام أداة فيها وأول من يبشّر بها، حيث تضخّ لنا الآلة الإعلامية السعودية كمّا كبيراً لازال يأخذ صفة التصاعد ضد إيران.

ولأول مرة منذ عقد على الأقل، تنجرّ إيران شيئاً فشيئاً الى المعركة الإعلامية، بعد أن كانت ولمدة طويلة تبدي حرصاً (لم تعوّدنا عليه) بتجنبها، اعترافاً منها بمكانة المملكة السعودية، ومحاولة منها امتصاص التشنّج السعودي دون الردّ عليه. الآن يبدو أن الأمور اختلفت أو أخذت انعطافة مختلفة، حيث بدأ الإعلام الإيراني العربي والإنجليزي يتحرّك في اتجاه المواجهة مع السعودية، ساحتها الناطقون بلغة الضاد أو بلغة الأنغلو ساكسون!

مبررات المعركة بالنسبة للسعوديين هي التالية:

1/ إيران تتدخل في شؤون العالم العربي.

2/ إيران تبحث عن سلاح نووي لتهدد به دول الخليج وفي مقدمتها السعودية.

3/ إيران توتر الوضع الأمني في الخليج.

4/ إيران تعيد بعث امبراطوريتها الفارسية الكسروية!.

هذه القضايا جميعاً لا تهم السعودية وحدها، إن كانت صحيحة أو خاطئة، وإذا كان هناك من خطر إيراني فهو يشمل كل الدول العربية المؤثرة، فلماذا تأخذ السعودية المبادرة وتتنطع لقيادة المواجهة؟

السعودية تعتقد أنها (الزعيمة والقائدة) هي من تقرر العدو والخصم، وهي من يقود الآخرين لمواجهته.

بالنسبة لها: لا يحق لإيران ان تتدخل في الشأن العراقي، ولا اللبناني ولا الفلسطيني. فقضايا هذه الدول تهم العرب وحدهم وليس للأجانب شأن فيها. لم تعد قضية فلسطين قضية إسلامية كما كان السعوديون يرفعون شعارها مقابل شعار القوميين وخاصة الناصريين منهم. ولم يعد السعوديون يهتمون بتدخل اسرائيل وكل دول العالم في الشأنين العراقي واللبناني، بمن فيهم أميركا وبريطانيا وروسيا ودول الغرب الأخرى، فهذه الدول تبيح لها قوتها أن تتدخل، ولكن ليس إيران.

إيران المحاذية للعراق بحدود طويلة وبتجمعات سكانية أقرب الى طهران منها الى الرياض، يراد لها أن لا تتدخل في الشأن العراقي، حتى وإن كان الأميركيون صاروا جيراناً لها، ويهددونها. أما أن تتدخل السعودية فهذا مقبول لأنها دولة عربية، حتى وإن كان تدخلها سلبياً عبر ارسال أدوات القتل البشرية الوهابية السعودية والأموال والفكر التكفيري الذي كاد يشعل حرباً أهلية في ذلك البلد.

السلاح النووي الإيراني، إن صدق، وهو لم يصدق حتى الآن، فإن المعني به إسرائيل، وليس السعودية. لماذا لم تشكو سوريا أو العراق أو حتى مصر والسودان واليمن والجزائر والمغرب من السلاح النووي الإيراني القادم، طالما أن ذلك السلاح قادر على الوصول الى كل تلك الدول، حسب تجارب الصواريخ الإيراني ومدياتها البعيدة؟ لماذا نرى حماسة اسرائيلية وسعودية فحسب تروج لسلاح نووي ايراني، ولا تصدّق أو تريد أن تصدق بأن البرنامج النووي سلمي، على الأقل حتى الآن؟ لماذا تأخذ السعودية مزاعم اسرائيل والغرب على محمل الجد، في حين أن الغرب نفسه يعطي معلومات متناقضة عن البرنامج النووي الإيراني؟

والأكثر غرابة في المزاعم السعودية ما يتعلق بأمن الخليج. فإيران تطل على كل الشاطئ الشرقي للخليج العربي، في حين تتقاسمه سبع دول عربية على الضفة الأخرى، والخليج منفذ يهم كل الدول المطلّة عليه، وإلا كيف ستصدّر إيران نفطها، وهل يمكن لإيران أن توتر أمن الخليج بحيث تتضرر منه؟!

لم يقل لنا الغربيون لماذا الخليج بحاجة الى أمن، أولاً؟ ومن هو عدو هذا الأمن، ثانياً؟!

ليست هناك دولة خليجية، عربية أو أعجمية، تسعى للتوتر، حتى في عهد عراق صدام حسين.

المشكلة أن الغرب يخترع للسعودية وشقيقاتها ولهذا الخليج عدواً كل يوم. مرة الاتحاد السوفياتي، ومرة أخرى صدام حسين، ومرة ثالثة ايران، وليس غريباً ان كل المتهمين لم يكونوا على وفاق مع السياسة الأميركية.

السعودية لا تقبل مقولة (أمن الخليج توفره دوله) لأنها لا تريد البوارج الغربية والأميركية أن ترحل من مياه الخليج وقواعدها في كل الدول الخليجية. وهي لا تريد أن تكون إيران شريكاً في توفير أمن الخليج ولا حتى العراق (لا في عهد صدام ولا عهد خلفائه). وليت السعودية قادرة على توفير أمن الخليج لوحدها، أو بالتعاون مع شقيقاتها (الميني ستيتس! أو السيتي ستيتس). ثبت للسعودية أن الوجود الغربي المكثف لم يجلب الإطمئنان، ولم يلغ دور إيران، فهي أقوى قوة بحرية خليجية. والأنكى انه لا توجد للسعودية رؤية واضحة حول كيفية تحقيق (أمن الخليج المزعوم).

تبقى قضية بناء (الإمبراطورية الفارسية). وهذا الاتهام السعودي يعكس حقيقة أن السعودية تشعر بألم بالغ من نجاح التجربة الإيرانية في بناء الدولة وفي تطورها العلمي والتكنولوجي، بحيث بات النموذج السعودي الذي عادة ما يوضع مقابل ايران باهتاً. لا شك أن ايران تتمدد بنفوذها السياسي والإقتصادي والعلمي، ولا بدّ لمثل هذه الدولة أن تتمدد في مداها الإقليمي أياً كان حاكمها وكيفما كانت أيديولوجيته، فالوضع الديمغرافي لإيران لا بد وأن يؤثر في جواره.

إن الإعلام السعودي لا يشتكي من نفوذ ايران في البلاد العربية فحسب، بل أن كتابه ـ ولكي يثبتوا مدعاهم ـ يستشهدون بالنفوذ الإيراني في أميركا اللاتينية! ولم يتساءل أحدٌ منهم: ولماذا لا تفعل السعودية نفس الأمر، وتبحث عن حلفاء هناك أو في أي مكان في العالم؟ ثم إن الإمبراطورية الفارسية كما يسميها الإعلام السعودي لم تبن عبر احتلال أو ضم لدول، لأن لفظة الإمبراطورية تعني لدى السعوديين: (تحوّل إيران الى قوة إقليمية عظمى، أو حتى قوة دولية عظمى). وهذا ـ إن صدق ـ ليس اتهاماً، بل أمراً يدعو الى الأعجاب، ويدعو من جانب آخر الى مراجعة ماذا تفعل الدول العربية وفي مقدمها السعودية ومصر اللتان وصلتا الى الحضيض السياسي.

المشروع السعودي للمواجهة

يقوم المشروع السعودي في مواجهة إيران على ثلاثة عناصر:

1/ تخفيض الصراع ـ حتى السياسي منه ـ مع اسرائيل، واعتبار إيران العدو المباشر والأول، وهذا أمرٌ كان يطلقه الإعلام السعودي على خجل فيما مضى، أما الآن فيتبناه بشكل كامل.

2/ تحقيق إجماع عربي، ولو في الحدود الدنيا بين الدول المشرقية، ذلك أن السعودية تريد معركة سياسية أمنية اقتصادية كبيرة، لا تستطيع أن تقوم بها لوحدها، ولكي تفرض زعامتها لا بد أن يأتي ذلك عبر إجماع عربي ما.

3/ الخطوة الثالثة محاولة توجيه ذلك الإجماع باتجاه إيران كعدو. فالإجماع الذي يراد صنعه، لا يمكن أن ينشأ ابتداءًا بدون مقدمات اتفاق على مواضيع أخرى، كما هي الحال مع سوريا التي يريد السعوديون ضمها اليه، ليصار لاحقاً الى توجيهه الوجهة المطلوبة.

في كل المراحل الثلاث هناك مشكلات تواجه السعوديين، ما يجعل معركتهم ـ فيما يبدو ـ فاشلة.

أهم ما يعترض مشروع المواجهة السعودي لإيران التالي:

1/ أنه مشروع جاء متأخراً. أي أن التمدد الإيراني السياسي فات وقت محاربته، وأصبح راسخاً، وابتنيت عليه مصالح استراتيجية، بل أن المشروع الإيراني قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أهدافه في سوريا ولبنان وفلسطين وحتى في العراق. المشروع الإيراني واضح، ورابح. وكان يمكن للسعودية المنافسة لو تحركت في وقت مبكر، وليس الآن بعد أن خسر (حلف المعتدلين) معظم أوراقه.

2/ السعودية هي الأكثر حماسة لمواجهة ايران، ولا تشاطرها في ذلك معظم الدول العربية، بمن فيهم الدول الخليجية، بل ومن فيهم الدول الغربية الحليفة للسعودية. إن مشروع السعودية يسير عكس التيار، ففي وقت نشهد فيه انفتاح الغرب على حماس وحزب الله وعلى سوريا وايران، تأتي السعودية لتحارب بسيف من خشب وبعد أن شبعت نوماً!

3/ أن المشروع السعودي يتطلب حروباً صغيرة في أكثر من دولة عربية. في لبنان وفي العراق وفي سوريا وفي فلسطين والسعودية نفسها. فالسعودية التي تواجه إيران من زاوية عقدية (طائفية، وعنصرية قومية/ الصحافة السعودية تسميها جمهورية الفرس، وامبراطورية كسرى!) تسعى أيضاً لتسعير أفق الصراع مع حزب الله حيث انتهت المعركة لصالحه تقريباً (وقد يشكل مع حلفائه أكثرية في الإنتخابات القادمة). والسعودية بمنهجها الطائفي تفتح معركة في العراق، فهي لاتزال ضده ولم تفتح سفارة فيه، عكس دول الخليج الأخرى ومصر. العراق جزء من معركة السعودية مع ايران، ولا يمكن للعراقيين أن يعيدوا الكرة مرة أخرى فيخوضوا معركة بالنيابة عن السعودية ودول الخليج كما فعل صدام حسين. والسعودية لا تستثني حماس من معركتها، وإن كانت لديها القدرة على تأجيلها. كما أن المعركة التي تريدها السعودية بطابعها الطائفي تدخلها في صراع مع مواطنيها الشيعة في المنطقة الشرقية حيث آبار النفط وحقوله، بل ومع كل الشيعة العرب في الخليج، خاصة وأن الإعلام السعودي يروّج منذ فترة ضدهم معتبراً اياهم جزءً من ايران، وفي هذه الحالة لا يمكن لدول الخليج أن تنساق وراء مشروع كهذا يهدد بنيتها الداخلية.

4/ المشروع السعودي بلا أفق، فمبرراته التي تراها السعودية قوية، لا يراها الآخرون. ومكاسبه التي تراها السعودية هامة، لا يراها الآخرون.

من يريد أن يواجه إيران، عليه أن يقوم بما تقوم به. أن يصنع نموذجه الخاص به. أن يبني دولة حقيقية، وأن يستثمر في العلم والتكنولوجيا وفي البشر. والسعودية ليس لديها شيء غير المال، وحتى المال لم تستثمره بطريقة صحيحة، ولذا نجد نصف شعبها فقير، و60% منه لا يمتلك مسكناً، و70% من مدارسه بيوت مستأجرة. ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.

الصفحة السابقة