العقيد القذافي ينتقم بطريقته من الملك عبد الله

فصل من التهدئة قبل معاودة التأزيم

سعد الشريف

فجأة ودون سابق تنسيق، دخل الرئيس الليبي معمر القذافي على خط كلمة رئيس الدورة الحالية للقمة العربية أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ليرد على كلام غير منضبط لغوياً سمعه قبل ست سنوات من الملك عبد الله، وقال (أتوجّه للأخ عبدالله بالقول، ستة سنوات وانت خائف ولا تواجه، وبعد مرور هذه السنوات ثبت أن الكذب وراءك والقبر أمامك، فبريطانيا من صنعك وأميركا تحميك). وتابع العقيد القذافي مداخلته: (أدعوك الى حلّ الخلافات الشخصية بين شخصينا، وأدعوك لزيارة ليبيا كما لا مانع لدي بزيارة المملكة العربية السعودية).

فور هذه المداخلة العاجلة، تحرّك الأمير القطري لاحتواء تداعيات الموقف واستغلال الإشارة الإيجابية التي ختم بها العقيد القذافي مداخلته، وجمع الطرفين في جلسة خاصة لترطيب الأجواء. ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية أيه إف بي في 30 من مارس الماضي عن مصدر رسمي مقرّب من الزعيم الليبي معمر القذافي أن الخلاف الذي طبع العلاقات بين ليبيا والسعودية (أصبح من الماضي). وقلل المصدر من شأن العبارات الأولى من مداخلة العقيد القذافي وقال بأن (العبارات التي وجهها القذافي الى الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز جاءت على لسان الملك عبد الله في قمة شرم الشيخ منذ ست سنوات). وأضاف أن (العلاقات الليبية - السعودية ستشهد تطورا ملحوظا خلال الأيام القادمة بما يخدم قضايا الامة وما تتعرض له من مخاطر وسيكون لهذه المصالحة العربية -العربية أثر إيجابي كبير). فهل الحال كما يصوّره المصدر الليبي؟

في الرؤية الاستراتيجية، لا تبدو العلاقات السعودية الليبية مرشّحة للاستقرار في أي وقت، لأسباب عديدة من بينها التناقض الأيديولوجي بين البلدين، حيث تصنّف القيادة الليبية الحكومة السعودية على الأنظمة الرجعية المتخلّفة التي تجاوزها الزمن، وترى من وحي علاقاتها الجديدة مع الغرب بأن السعودية ليست أكثر من بنك ضخم بلا أفق واضح، ولا مكان له في عالم شديد التحوّل، ولذلك ترى بأن السعودية نموذج قديم انتهت مدة صلاحيته ولا بد من تغييره. في المقابل، ترى السعودية بأن موقعها الاستراتيجي في المنطقة يجعلها القوة النافذة في النظام العربي الرسمي.

صراع النفوذ بين الرياض وطرابلس ليس وحدّه المحرّض النشط في الخلافات بين البلدين، ولكن هناك محرّضات أخرى لا تقل أهمية. فبالرغم من التباعد الجغرافي بين البلدين، حيث لا خلافات حدودية تقليدية، ولا تداخل إقتصادي وثقافي واجتماعي، وكذلك وقوع ليبيا بعيداً عن بؤرة الصراع الحقيقي في المنطقة أو ما يسمى سابقاً بقوس الأزمات، إلا أن التنافس بينهما يبقى حاضراً دائماً، على قاعدة تباين مشروعين سياسيين بامتدادات خارج الحدود، وأنصار، وأيديولجية عابرة للجغرافيا.. وهناك أيضاً رؤيتان متناقضتان لدى كل منهما في مقاربة قضايا المنطقة عموماً، وغالباً ما تظهر التباينات في مبادرات الوساطة لحل مشكلات عالقة في بلدين عربيين أو أفريقيين. ليبيا التي تقدّم نفسها بهوية قاريّة، وأنها دولة زعيمة في المجال الأفريقي، ترفض تدخّلات السعودية في تسوية مشكلات دول أعضاء في الإتحاد الأفريقي، وترى القيادة الليبية بأن ذلك تدخّلاً في الشؤون الداخلية ليس في القارة الأفريقية، بل وفي المجال الحيوي الليبي. ولذلك غالباً ما تصل مبادرات السعودية في تسوية ملفات أفريقية إلى الفشل أو الإنقطاع المفاجىء، لأن هناك إصراراً ليبياً مدعوماً من دول أفريقية أخرى مثل السودان بضرورة بناء تحالف أفريقي قادر على تسوية مشكلات القارة، ومواجهة التحديات الوافدة من الخارج.

وفيما يبدو، فإن الزعامة الليبية لم تشأ منذ مراجعة التسعينيات أن تعود بثقل مالي وتنظيمي بارز في مناطق الاستقطاب، بل حتى نشاطها الإعلامي لم يكن بالقدر الذي يمثّل منافساً حقيقياً لإمبراطورية إعلامية تديرها السعودية في العالم. وبالرغم من أن القيادة الليبية تدرك بأن الخطاب السياسي والديني السعودي ليس منسجماً مع روح العصر ومتطلبات التغيير في منطقة الشرق الأوسط، فإنها تحاول أن تتقي محاولات سعودية متكررة لعبور حدود ليبيا عبر عناصر ليبية مرتبطة بتنظيم القاعدة. وتدرك الرياض ماذا يعني أن تكتشف طرابلس أدلة على تلك المحاولات، إذ أن الليبيين يتحيّنون فرصة الانتقام من الذي ركّب فيلم مؤامرة اغتيال الملك عبد الله قبل سنوات، وتوريط عناصر ليبية بهذه التهمة.

السعودية مستائة من التطلعات القيادية لدى العقيد القذافي، فقد اعتادت احتكار حتى مجرد التطلعات، ولو كانت ليبيا محاذية للمملكة لتفجّرت بصورة تلقائية النزاعات والخصومات كما حصل بالنسبة لمصر عبد الناصر، وعراق صدام حسين، ولبلغت التوترات بين البلدين حدي الفناء والبقاء.

حتى حضور القمة لها طعم خاص وحسابات خاصة بالنسبة لقيادتي البلدين، وحتى الزيارات المتبادلة لها تقديرات من نوع شخصي، ولذلك كان العقيد دقيقاً حين وضع الخلافات الليبية السعودية في إطارها الشخصي.

في زيارته للسعودية عبر الحدود البريّة قادماً من سورية ثم الأردن في أكتوبر 2000، كان العقيد القذافي قد فرض النظام البروتوكولي الخاص به، في جولة استغرقت 2000 كيلومتراً. وكان يلتقى مع الأهالي في مروره على المدن والمحافظات الشمالية وصولاً الى الشرقية حيث أمضى ليلة في حفر الباطن قبل أن ينتقل الى الرياض.. جدول لم يعتده السعوديون، وبعكس ما قيل عن خلو قرارات العقيد القذافي من عنصر المفاجأة، فإن فريق التشريفات الملكية بقي في حالة استنفار دائمة طيلة فترة إقامة الزعيم الليبي..قيل حينذاك، بأن الزيارة قد فتحت صفحة جديدة في العلاقات السعودية الليبية بعد فترات من التشنج والقطيعة. في ذلك الوقت، كانت الحركات التقدمية في بعض العواصم العربية تراقب بقلق ذلك التقارب غير المتكافىء بين رمز اليسار التقدّمي ورمز اليمين الرجعي بحسب تصنيف الأدبيات الحزبية..وكان يساور كثير من الكوارد القيادية في الأحزاب القومية واليسارية العربية حزن عميق كون التقارب الليبي السعودي سيفضي الى زوال هامش الخيارات التي يمكن التعويل عليها في دعم قضايا العرب..

تلك الصفحة الجديدة لم يكتب لها أن تنغلق حتى عادت لتفتح مجدداً صفحة أخرى أشد إلتهاباً، حيث تسللت النار الى نسيج العلاقات الليبية السعودية في أواخر فبراير 2003، بعد قيام السعودية باستدعاء السفير الليبي في الرياض، بعد خلاف سعودي ليبي اندلع في قمة شرم الشيخ، حيث تشابكت المواقف السياسية بين القيادتين الليبية والسعودية، بخصوص موضوعات: فلسطين والعراق والأمن الإقليمي، ووجود القوات الأجنبية، والتي تمثل نقاط اشتباك بين الرياض وطرابلس. ورغم محاولة العقيد الليبي تخفيض نبرة التوتر لدى القيادة السعودية، وقوله عن الملك عبد الله (تربطني به مشاعر مودة كبيرة وتعاطف، وقد كنت في زيارة لهم منذ فترة، وقد قام بزيارتنا في ليبيا وقد استقبله الشعب الليبي بالترحاب). وقال مصدر ليبي بأن (ليبيا والسعودية لا تختلفان حول أهمية التركيز على دعم الأواصر العربية).

لم يقدّر لهذه المساعي أن تطوي صفحات التوتر بل بقيت عبارة (فتح صفحة جديدة) تتردد بعد كل دورة توتر تشهدها العلاقات الليبية السعودية، وهذا يعكس حالة عدم الاستقرار الدائم التي تشهدها روابط البلدين. بطبيعة الحال، كانت مبادرات، أو بالأحرى مفاجئات العقيد القذافي وحدها التي كانت تدفع بالمياه في قنوات الروابط بين البلدين، بالصرف النظر عن المتسبب في توتير أو قطع العلاقة، فقد اعتادت القيادة السعودية وشعوراً منها بالإكتفاء عما في أيدي الآخرين، تصوّر مقامها باعتبارها قبلة ومحط حاجات الدول والشعوب.

على أية حال، بقيت العلاقة منذ قمة شرم الشيخ في 2003 وحتى قمة الرياض في مارس 2007 متوتّرة، رغم انصراف القيادة الليبية الى قضايا الوحدة الأفريقية، ولكنها تدرك تماماً بأن مجالها الحيوي هو القضايا العربية، ما يفرض عليها التزامات أدبية وتاريخية ودينية. وفيما كانت التوقّعات تشير إلى أن العقيد القذافي لن يشارك في قمة الرياض، واذا بالموقع الرسمي للقمة، والتابع لوزارة الخارجية السعودية، يدرج إسم العقيد ضمن قائمة المشاركين فيها.

وغالباً ما يتم استغلال القمم العربية لتنشيط مبادرات المصالحة والوساطة بين القيادات المتخاصمة، خصوصاً بعد مرور نحو أربع سنوات على تدهور العلاقات الليبية السعودية. وكانت القيادة المصرية، المستفيدة دائماً من مبادرات الوساطة، تقتنص فرص العلاقات المتدهورة بين ليبيا والسعودية لتعاود التدخل بغرض تعزيز دورها كوسيط، والحصول على مكاسب خاصة.

وتمثّل الوساطة السعودية في قضية لوكربي حالة استثنائية لها حسابات خاصة للغاية، فقد لعب رئيس مجلس الأمن الوطني الحالي الأمير بندر بن سلطان، والأثير لدى إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، والذي تربطه علاقات وثيقة مع حكومات غربية، دوراً محوريّاً إلى جانب جنوب أفريقيا، في عهد الرئيس المناضل نيلسون مانديلا، لتسوية القضية عبر تعويض الضحايا، فيما حصد بندر بن سلطان وقتها ما يقرب من مليار دولار مقابل وساطته. ولذلك، لا يذكر السعوديون قضية الوساطة ضمن قائمة (النعم) التي يجودون بها على غيرهم، لأنهم يعلموا جيداً بأن تلك (صفقة مدفوعة الثمن)، وأن القيادة الليبية كانت سخية مع السعوديين بدرجة تلجمهم عن المفاخرة بالوساطة.

على أية حال، فإن المشادّة الكلامية الحادة والعلنية بين العقيد القذافي وولي العهد (حينذاك) الأمير عبد الله، وخلال انعقاد جلسات القمة العربية في منتجع شرم الشيخ بمصر في مارس 2003، أغلقت أفق أية تسوية دائمة في العلاقات بين الرياض وطرابلس، وماجاء بعد تلك المشادّة أكّد ذلك، فبدأ بتهمة ليبيا بالتخطيط لاغتيال العاهل السعودي عبد الله، وتعرّض الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية للضرب على أيدي ليبيين في أحد فنادق القاهرة الفخمة، لتشتعل الحرب الإعلامية طيلة سنوات، بعد أن استكملت العاصمتان إجراءات سحب السفراء وقطع العلاقات.

في قمة الرياض في مارس 2007، وهي الأولى من نوعها منذ احتضان الرياض لقمة عربية مصغّرة في 6 أكتوبر 1976، كانت ثمة رغبة شديدة لدى كل دول معسكر الاعتدال ومن ورائه الإدارة الأميركية بأن تحقق القمة إجماعاً تاماً على مستوى المشاركة والتصويت على مبادرة السلام المعدّلة. في القمة الأولى تم توفير الغطاء العربي لدخول قوات الردع العربية السورية إلى لبنان لاستعادة الأمن بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وفي القمة الثانية، كان الهدف توفير غطاء عربي لمبادرة الملك عبد الله للسلام في الشرق الأوسط، يمنح الكيان الاسرائيلي حقا حصرياً بإقامة دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية، ويحرم الشعب الأصلي من حق العيش على أرضه، بل وتحرم شعب الشتات من العودة الى دياره..وبالرغم من الوساطتين المصرية واليمنية لإقناع العقيد القذافي لحضور قمة الرياض، إلا أنه تمسّك بموقف سلبي ورفض المشاركة، وكان السبب في ظاهره احتجاجاً على نقل مقر القمة من مصر الى السعودية، ولكن هناك من المصادر الليبية الثورية من تعتبر قمة الرياض حفلة زور جماعي، والمصادقة الجماعية عل إلغاء حق العودة للمهجّرين الفلسطينيين..

حضر أغلب قادة العرب، باستثناء قلة نادرة من بينها القيادة الليبية، وكان التصويت بالإجماع، وهو ما أرادته السعودية من كسر حاجز القطيعة مع ليبيا، ولكن لم تفلح المحاولة، وغابت طرابلس عن حفلة الزور السعودي، الذي يراد تغطيته عربياً. في أكثر من قمة يكشف العقيد القذافي عن البيان الختامي قبل انعقاد القمة، بما يؤكد على أن القرارات تطبخ وتصنّع وتستورد من خارج مقر انعقاد القمة..وهذا ما يجعل الليبيين أقل الوفود اكتراثاً بانعقاد القمة..

كل تلك السنوات الماضية، أي منذ 2003 وحتى 2009، كان العقيد القذافي يتربص بالملك عبد الله الدوائر، بعد أن شرح له خبراء اللهجات البدوية ما عناه بحكمته التاريخية (الكذب وراءك والقبر قدامك)، فأعاد استعمالها بعد إجراء بعض التحديث والتعديل في قمة الدوحة لتسدل الستار على فصل من التشنج دام ست سنوات، بانتظار فصل آخر.

الصفحة السابقة