بعد خسارة العراق ولبنان

هل خسرت السعودية أفغانستان؟

فؤاد المشاط

بعد إسقاط حكومة طالبان في نوفمبر 2001، لم تكن القيادة الأميركية تدرك تماماً بأنها ستواجه مأزقاً حقيقياً في أفغانستان، فكانت ترى بأن خيار القوة المفرطة كفيل بأن يجلب الإستقرار لهذا البلد، ما يتيح للولايات المتحدة وحلفائها إعادة تشكيل الدولة الافغانية على أسس جديدة تتوافق مع الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى لحلف الناتو. ولكنها تفاجأت بأن سقوط حكومة طالبان لم يكن نهاية الحرب، بل مثّل بداية كابوس طويل، لم تكتب له القوة العسكرية الضخمة نهاية حاسمة، وأن كل التقارير تشدّد منذ سنوات على أن طالبان تحقق انتصارات في أغلب المعارك التي خاضتها في المناطق الأفغانية، باستثناء العاصمة كابل التي تغدو كمدينة معزولة في المساء.

إزاء معادلة غير قابلة للتغيير بسهولة، شعرت واشنطن وحلفاؤها بأن ثمة قوى إقليمية تمارس نفوذها على الداخل الأفغاني، بل وتجري صراعاتها فيه. لم يعد خافياً أن طهران والرياض تخوضان حرباً ضروس من أجل الإمساك بالورقة الأفغانية. وإن الكلام عن دعم إيراني لحكومة كرزاي في مقابل دعم سعودي لحركة طالبان يعكس وجه الصراع المحتدم بين البلدين. السعودية لا تريد لإيران أن تمسك بالورقة الأفغانية لأنها تمثّل بالنسبة لها أحد أدوات النفوذ السياسي والديني، وأيضاً أحد أدوات الضغط على طهران من أجل التفاوض في ملفات أخرى. مصادر مقرّبة من الحكومة السعودية قالت بأن زيارة وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي الى الرياض في 15 مارس الماضي كان من بين استهدافاتها الاتفاق حول ملفات أفغانستان وفلسطين ولبنان، وهو ما دعى وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل إلى الطلب من إيران الدخول الى الموضوع الفلسطيني عبر بوابة الشرعية العربية الممثلة في السعودية ومصر.

في الموضوع الأفغاني، تواجه السعودية تحدياً من نوع آخر، وهو الاتفاق الأميركي ـ الإيراني على مستقبل أفغانستان، والذي قد يقطع دابر نفوذ سعودي للأبد. ولذلك فإن السعودية تعمل على مسارين متناقضين: إلتزماتها في الحرب على الإرهاب، والحفاظ على المصالح السياسية الخاصة.

تشعر السعودية بأنها أمام خسارة محقّقة في ظل الترتيبات الجديدة التي أعلنت عن بعض ملامحها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وترى بأن أي تفاهم أميركي إيراني سيفضي بلا ريب إلى خسارة مصالح السعودية في أفغانستان.. فقد خسرت في العراق ولا تريد أن تخسر في أفغانستان، ولذلك لحظنا بأن نبرة عالية وغير مسبوقة في الخطاب السياسي السعودي حيال إيران للحيلولة دون بتر ذراعها في الموضوع الفلسطيني كما بترت في لبنان في السابع من آيار/مايو 2008.

مبادرة الملك عبد الله في رمضان الماضي لانتزاع المبادرة في المسألة الأفغانية بدعوة الحكومة وحركة طالبان الى المملكة وتحقيق مصالحة سياسية لم تنجح، لافتقارها إلى الغطاء الدولي، وأيضاً إلى ضمانات مؤكّدة لحركة طالبان في مسألتين: ثقلها السياسي والعسكري على الأرض والذي يجب أن ينعكس في أية ترتيبات سياسية مقترحة، والمسألة الأخرى ضمان عدم تعرّض قيادات الحركة لتصفيات جسدية على يد قوات الناتو، وهما أمران تفقتر السعودية الى ضمانات مؤكّدة بتحقيقهما.

ولأن السعودية تعيش هاجساً دائماً من ترتيبات أميركية إيرانية فإنها أقصى ما تقوم به لإفشال أو على الأقل للحد من تداعياته أن تلوذ بوسائلها التقليدية، أي عبر تنشيط قناة التمويل لحركة طالبان كما في العراق ولبنان، والتي تتم غالباً بطريقة غير رسمية، حيث تفوّض جهات دينية مقرّبة من وزارة الداخلية للقيام بهذا الدور، كما حصل في العراق، حيث كانت الحقائب اليديوية تمتلىء بالمال السعودي خلال مواسم الحج والعمرة لتنقل إلى بعض الجماعات المسلّحة للقيام بعمليات تخريب للعملية السياسية الجارية، وقد تحدّث المسؤولون العسكريون والأمنيون الأميركيون والعراقيون كثيراً عن ذلك وأبلغوا نظراءهم السعوديين بهذا الشأن.

في المؤتمر الدولي الذي عقد في لاهاي في 31 من مارس الماضي، كانت الرسائل المتبادلة بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة وطهران من جهة أخرى تشي ببدء مرحلة تفاهمات على أسس مختلفة وجديدة. فقد أعربت واشنطن قبل انعقاد المؤتمر في أن تقبل طهران على غرار الدول المجاورة لافغانستان الدعوة الى مؤتمر دولي حول هذا البلد. وقال المتحدّث بإسم البيت الأبيض روبرت غيبس بأن بلاده تأمل في أن تشارك طهران بما أسماه حلولاً وافكاراً بناءة للتعاون مع المجموعة الدولية للرد على التحديات في افغانستان. ولم يتأخر الرد الإيراني طويلاً، فقد قابل الدعوة بإيجابية غير مسبوقة، وأعلنت ايران عن موافقتها على المشاركة في مؤتمر لاهاي، بخلاف موقفها السلبي من مؤتمر مماثل عقد في فرنسا في ديسمبر من العام الماضي، فيما كانت الدوائر السياسية الأميركية تتدارس سلة الحوافز التي تنوي إدارة أوباما تقديمها لإيران من أجل تأسيس قاعدة صلبة لحوار ثنائي منفتح على كل ملفات الشرق الأوسط.

وقد بدأت بوادر الحوافز من مجلس الشيوخ الأميركي الذي ناقش خيارات السياسة الأميركية حيال إيران، بتجاوز الخطوط الحمراء على برنامج إيران النووي، بحسب إفادة بعض الخبراء أمام لجنة كيري، الذين طالبوا اعتماد مقاربة إيجابية مع الإيرانيين. بل ذهب ريتشارد هاس، رئيس مجلس الشؤون الخارجية إلى حد اقتراح قبول واشطن بـ (الحق في تخصيب) اليورانيوم، مع تحديد ماهية الحق، ومداه، ودرجة الشفافية، ومدى هامش عمل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

نصائح روسية هي الأخرى جاءت متزامنة مع الرؤية الأميركية الجديدة، حيث رحّبت روسيا بدعوة إيران الى المؤتمر الدولي حول أفغانستان، ووصف جورجي ميرسكي الخبير في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية بموسكو إيران بأنها القوة العظمى في الشرق الأوسط التي عززت مكانتها خلال الأعوام الأخيرة في هذه المنطقة الهامة بالعالم، وأن على واشنطن التعامل معها على هذا الأساس.

رسالة أوباما في 20 مارس الماضي بمناسبة حلول السنة الميلادية الإيرانية، النيروز، تضمنّت هي الأخرى إشارات إيجابية، مستبعداً حتى مجرد الإشارة إلى قضية تخصيب اليورانيوم، بل مدح الدبلوماسية الإيرانية، وقال بأن أقطابها ماهرون (ولديهم خبرات وتجارب ترشحهم لمواجهة الولايات المتحدة في "المباريات المعقدة"). وقد يبدو مطلبا إيران برفع إسمها من قائمة (محور الشر) الداعمة للإرهاب، والتخلي عن تمويل مشاريع زعزعة الاستقرار في إيران أو إطاحة النظام في مقدمة الشروط التي تتمسك بها إيران قبل البدء بأي حوار مع واشنطن. ولذلك، يبدو واضحاً إصرار إيران على تحويل الإشارات الإيجابية المنطلقة من واشنطن إلى مواقف عملية، تنطلق من الاعتذار عن أخطاء الماضي، وتؤسّس لرؤية مستقبلية تقوم على تقدير الوزن السياسي لدى طهران. ولذلك، قال مرشد الجمهورية الإيرانية علي الخامنئي بأن التغييرات الجوهرية في السياسة الخارجية الأميركية ستقابل بروح إيجابية.

واصلت واشنطن إطلاق إشاراتها الإيجابية تجاه طهران عشية انعقاد المؤتمر الدولي حول الملف الأفغاني، وأعلنت وزيرة الخارجية هيلاري كيلنتون بأن الولايات المتحدة (متلّهفة) للإستماع إلى مقترحات إيران حول أفغانستان. نشير إلى أن واشنطن جرّبت العقلية الإيرانية الخلاّقة في تسوية عدد من المسائل العالقة في القضية الأفغانية منذ سقوط حكومة طالبان، وقد تفاجأ الأميركيون والأوروبيون في مؤتمر بون بألمانيا في 27 نوفمبر 2001 والذي حضرته الفصائل الأفغانية وبإشراف الأمم المتحدة، كيف أن طهران ساهمت بفعالية لافتة لتسوية مشكلات ذات صلة ببناء الدولة الافغانية الجديدة.

ما يشغل بال الايرانيين هو أمن حدودها مع أفغانستان وتجارة المخدّرات، ولكنهما ليسا مشكلتين غير قابلتين للحل، ولكنهما مبرران للنفوذ الإيراني في المسألة الأفغانية. الوزيرة كلينتون قالت بأن بلادها (ستواصل مد اليد إلى طهران)، وهذا يعني أن مؤتمر لاهاي لن يكون سوى الحلقة الأولى في سلسلة الاتصالات بين طهران وواشنطن. هذا يعني ببساطة أن دوراً إيرانياً بات مطلوباً في المنطقة، ولا بد للقوى المنافسة لها أن تتعامل معه بواقعية أكبر، وخصوصاً السعودية التي فشلت بالتعاون مع دول معسكر الاعتدال بما فيها الكيان الإسرائيلي، في عزلها. فقد باتت إيران جزءً من مجموعة الإتصال التي اقترحها اوباما في خطته الجديدة لأفغانستان.

ما تخشاه السعودية من أي تقارب أميركي إيراني أن تأتي النتائج على حسابها، وبالتأكيد سيضيق المسؤولون السعوديون ذرعاً بالتصريحات الإيجابية الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين، وخصوصاً إبداءهم الاستعداد بمساعدة أفغانستان، على حد وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي، وأن (هدف ايران في المنطقة هو مساعدة السلام والاستقرار والهدوء الضروري لتقدم المنطقة).

وقال آخوندزاده نائب وزير الخارجية الإيراني في كلمته في المؤتمر بأن (الجمهورية الاسلامية الايرانية اذ ترحب بعروض التعاون التي قدمتها الدول المساهمة في افغانستان، تعلن استعدادها التام للمشاركة في المشاريع الرامية الى مكافحة تهريب المخدرات ومشاريع التنمية واعادة الاعمار في افغانستان).

وزير الخارجية البريطاني ميبلاند قال في 31 مارس بأنه ليس الوقت المناسب لفرض مزيد من العقوبات على ايران، بالرغم من أن بريطانيا معروفة بمواقفها المتشدّدة حيال إيران وخصوصاً في مشروعها النووي، وينظر اليها الايرانيون على أنها الناطق غير الرسمي للدولة العبرية في الموضوع النووي في اجتماعات الوكالة الدولية للطاقة.

وفيما ينفتح أفق جديد في علاقات إيران والغرب، تبدو السعودية أمام معادلة صعبة، فلا هي قادرة على مسايرة الغرب في انفتاحه على إيران على الاقل لجهة اختبار إمكانية نجاح خيار الانفتاح وتسوية الملفات الساخنة بين طهران وواشنطن، ولا الملك عبد الله قادر بحسب الظروف المحيطة به على تفعيل خيار الانفتاح على إيران الذي بدأه مع الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني وواصله مع الرئيس محمد خاتمي. لا بد من إلفات النظر إلى أن هناك أمراء مثل وزير الخارجية ورئيس مجلس الأمن الوطني عملا خلال السنوات الأخيرة على تخريب فرص التقارب الإيراني السعودي، بعد أن كانت ستصل التفاهمات الثنائية إلى حد تشكيل تحالف سياسي في ملفات المنطقة. ما هو أخطر من تخريب الفرص كان استنزاف المجهود الدبلوماسي السعودي طيلة السنوات الماضية لبناء حلف مناهض لإيران وسورية بالتعاون والتنسيق مع الكيان الإسرائيلي، فيما كان الإيرانيون مستمرين في إيصال رسائل الى الملك عبد الله للتنبيه من خطورة المبادرات المنفردة التي قوم بها سعود الفيصل وبندر بن سلطان والتي تهدد الأمن في المنطقة.

اليوم وبعد أن فشلت خيارات الحرب وأساليب التهويل لإخضاع إيران لشروط الغرب، ولم يعد هناك من خيار إلا اعتماد الوسيلة الدبلوماسية، خصوصاً بعد أن قبلت إدارة أوباما بحق إيران في تخصيب اليوارنيوم إلى مستوى معين، فإن ثمة رسائل أميركية بدأت تصل إلى القيادة السعودية وتدعوها لتمتين العلاقة مع طهران، لأن ذلك من شأنه تخفيف حدّة التوترات في المنطقة، وتحقيق تفاهمات في القضايا الخلافية بدءً من أفغانستان وصولاً إلى لبنان.

وفيما بدا أن الرياض غير راغبة في تجاوز الماضي، فإن التفاهم الأميركي الإيراني سيدفع القيادة السعودية لإعادة النظر في سياسة الترفّع والعزوف عن خيار التفاهم الثنائي الذي يبعد شبح الحرب عن المنطقة بعد أن خيّم طويلاً. قد تنتظر السعودية ما تسفر عنه الانتخابات الايرانية، ولكن في نهاية المطاف لا مناص من التفاهم مع القادم الى الرئاسة الايرانية للتفاهم معه في كل قضايا المنطقة، وحتى لا تخسر أفعانستان كما خسرت العراق ولبنان.

الصفحة السابقة