دولة الطبّالين

يعجب المرء أحياناً من تساهل جوقة الطبّالين للدولة السعودية في إطلاق التوصيفات المتناقضة، وتصوير الأشياء بخلاف ما هي عليه في الواقع. فيصبح الإستبداد السعودي نموذجاً فريداً في الديمقراطية، والتطرّف الديني شكلاً من أشكال التسامح غير المسبوق في تاريخ الأديان في العالم، والتشريعات المتكلّسة مدرسة مثالية متقدّمة في القانون، دع عنك عشرات النظم والسياسات والبرامج، بما فيها تلك التي تسبّبت في وقوع كوارث على المستويين المحلي والعالمي.

ولعل أظهر صور الغرابة تقميص الملك عبد الله شخصية خرافية لا تناسب مؤهلاته العلمية والنفسية والعقلية، ولا تنسجم حتى مع أدائه فضلاً عن منطقه، ولكن لمجرد أن مشيئة خاصة وضعته في مقام وهمي فقامت جوقة الطبّالين بحملة إقناع واسعة النطاق كيما يخرج الملك على الصورة التي أُريد له أن يكون عليها.

ولأن مهر العظمة لا تكفله التصويرات الوهمية، فإن أخطر ما في الأمر أن يكتشف المخدوعون بأن عظماءهم ليسوا سوى تماثيل من رمل، ما يدفع بهم في مرحلة لاحقة للجحود بكل شيء، حتى الحقائق تبدو، في مرحلة ما، في هيئة أوهام. فما بالكم لو أن ما اعتقدوه عظيماً ختم عهده بنكسات متعاقبة، ولم يحقق ما وعد به، بل عمل بخلاف ذلك، فبدلاً من المحاسبة تتفشى في عهده المحسوبية، وعوضاً عن إصلاح الأجهزة والسياسات تصبح الدولة نهباً لكل صاحب نفوذ، ولا قانون إلا الرشوة والواسطة، فيصبح الفساد بأشكاله كسوة الدولة ودثارها. وما يبعث السخرية حينئذ أن تنبري الفرقة الموسيقية المتنّقلة لتعزف ألحاناً تحرّض على التقيوء وأشياء أخرى، طمعاً في الحصول على (شرهة) أو (شهرية) من هذا الأمير أو ذاك.

كتب أحدهم عن العقلية المستقبلية لدى الملك عبد الله، وقال بأن لديه القدرة على رسم معالم صورة المستقبل، إستناداً على كلام مكتوب قاله الملك في افتتاح مجلس الشورى في شهر مارس الماضي جاء فيه (أن الشعوب العربية ترى مصيرها مهدّداً، وآمالها مبعثرة، ومستقبلها مظلماً)، حسناً وماهو الحل، لنقرأ سوياً (التحديات تفرض يقظة لا غفلة معها وصلابة لا تقبل الضعف وصبراً لا يخالجه اليأس وإيماناً لا قنوط معه)، فهل تختفي وراء هذه الكلمات رؤية مستقبلية؟

ومع ذلك، سنهبط الى مستوى الإذعان القهري إلى القبول بالرؤية المستقبلية المزعومة في كلمات الملك، فأين الرؤية من المنصّة (أي مجلس الشورى) التي أطلق منها خطابه التاريخي، حسب توصيف أحدهم، مع لفت النظر إلى أن الخطاب ليس فيه من بنات ولا أولاد أفكار الملك، فقد جيء له به معدّاً سلفاً، وتدرّب على نطق كلماته مرات ومرات. ما يشدّ الإنتباه في تحليل الكاتب ما توصّل إليه بأن خطاب الملك يبث الطمأنينة بأن عملية التطوير الداخلي مستمرة ومتوثّبة، ويضيف (وكأني بالمليك يُطمئن المواطنين الذين كانوا يتطلعون إلى تطورات جوهرية يحملها الخطاب حول صلاحيات مجلس الشورى "التشريعية والرقابية" بأن الغد حافل بما يبهج ويسر من قرارات التطوير والتحديث..). هل من أحدكم تنبّه إلى ما قاله الكاتب هنا، فقد نأى عن استعمال كلمة (إصلاح) ووضع بدلاً منها كلمة (تطوير)، فهذا هو الملك التطويري الذي يطمئن مواطنيه!. ثم كيف للتطوير أن يتم، وقد أبلغنا نائبه الثاني قرارات مستعجلة بأن لا انتخابات بلدية، ولا انتخابات شوريّة، ولا مشاركة للمرأة، ولا..فأين إذاً تكمن الرؤية المستقبلية، أو عملية التطوير المستمرة!

صحيفة محلية أخرى اختارت لافتتاحيتها كلمة عن الملك ودوره في (صناعة الغد السعودي المزدهر)، فجاءت متطابقة تماماً مع الواقع مقلوباً، وزادت على من سبقها حبة مسك، حين أحالت منه بطلاً قومياً في مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، هذا ونحن في عصر الثورة الاتصالية العالمية التي لا يكاد للنملة أن تجد مهرباً، فكيف بموقف شائن متخاذل كشفت عنه السعودية طيلة أيام العدوان الإسرائيلي على سكّان القطاع، ورأى العالم كله كيف حاربت الذين أرادوا توحيد الموقف العربي من همجية الآلة العسكرية الصهيونية، ومنعت انعقاد قمة عربية في الدوحة وقاطعتها، وحتى المصالحة العربية التي أرادت السعودية أن تكسب ورقتها لم تتحقق بلسان عمرو موسى نفسه، فضلاً عن تصريحات أخرى صادرة من هنا وهناك، فأين هو (جمع الشمل وتوحيد الكلمة) بحسب الصحيفة، وما عانت الأمة العربية من الانقسام كما تعاني منها اليوم بفعل مباضع ثالوث الاعتدال، الذي تمثّل السعودية أول أضلاعه.

آخر كتب عن المبادرات الحكيمة، واستهّل مقالته بتوصيفات تكاد تنطبق على الأنبياء والرسل دون سواهم (ملك الأمة وحبيب شعوبها) هكذا بكل بساطة، يتم فرض الزعامة القهرية التي يتناقض أوصافها مع الموصوف بها.. ليس بهكذا إكراهات يتغيّر الحال ولا بهذه الطريقة يولد العظماء ياسادة.

ويا كرام: أن يتم تحميل شخص ما لا يحتمل من أوصاف يعد عملاً ساخراً وتهكمياً، وتذكّرنا هذه الطريقة بمهارة ذكية لأحدهم كان يبالغ حد الكفر في تدبيج ألوان المدح والإطراء في الحاكم، وحين سئل عن ذلك قال بأنني أردت أن يحدّث الناس أنفسهم بأن ما يقال عنه ليس أكثر من نعوت مفبركة، فيعقدوا المقارنة بين ما يقال عنه من أوصاف كاذبة وحقيقته الواقعية، فيزدادوا مقتاً له وكرهاً. وننصح أولئك بأن لا يقعوا ضحية مهارة ذكية قد ترتّد على الملك أضعافاً مضاعفة من الكراهية له ولعهده، وليتهم يستمعوا لما يقال عنه في المجالس الخاصة، وخارج الحدود حتى يقتنعوا بأن القضية ليست أن تبالغ في مدح الملك أو حتى الأمراء الكبار، ولكن أن تصوّرهم بخلاف حقيقتهم، وفي النهاية فإن ما قرّ في العقول والأذهان عن الملك والأمراء لم يتغير، فقد التصقت صفات الغباء واللصوصية والإجرام بهم، وأن تبديلها يتطلب معاجز، فهل يقدر الطبّالون على صنعها؟

الصفحة السابقة