دولة المسافة الواحدة

في لبنان، وحده دون سواه، يتلو السفراء السعوديون آية من غير كتاب الله عزّ وجل (نحن نقف على مسافة واحدة من جميع الأفرقاء)، فكلما جاء سفير جديد كرّر ما تلاه سلفه على اللبنانيين من ألواح دبلوماسية، حتى أصبحت مرفقة ضمن أوراق الإعتماد التي يقدّمها السفير السعودي..

الغريب في المشهد اللبناني، أن إضاءة إشارة المرور لليسار والانعطاف مباشرة وبصورة حادة لليمين باتت عرفاً يجمع عليه كل السياسيين اللبنانيين، إذ لاشيء ثابت وحقيقي في المعادلة اللبنانية، بل عدم الثبات وحده الثابت في هذه المعادلة..

السعودية مثلاً، ترفع شعار (المسافة الواحدة من كل الأفرقاء اللبنانيين) وتضيف عليه (إحترام السيادة اللبنانية وإرادة الشعب اللبناني الشقيق)، ولا ترى في ذلك سوى إلتزام حرفي وأمين لممارسة السيادة السعودية بكل ضروبها على الأرض اللبنانية..

رفع حلفاؤها في قوى 14 آذار شعار (حرية وسيادة واستقلال)، وصدّق العالم بأنه الشعار الإنقاذي للبنان، الذي سيخرجه من دوامة التدخّلات الإقليمية والدولية..ومنذ خرجت القوات السورية من لبنان، كان قادة (ثورة الأرز) يبتهجون بأنهم من أعاد للبنان سيادته وحريته واستقلاله..ولكن تبيّن لاحقاً أن هذا الشعار لا يشتغل إلا في اتجاه واحد، ولا يستهدف سوى سورية وحدها، فقد فتح الشعار أبواب لبنان على مصراعيها لتدخّلات بأشكال أخرى فجّة ومثيرة للإشمئزاز..

فمنذ خروج سورية من لبنان، أصبح الأخير مسرحاً سعودياً وأميركياً، فزيارات الوفود الدبلوماسية والأمنية والعسكرية الى بيروت لا تتوقف، وباتت السياسة في لبنان عهدة خارجية بامتياز، فتارة يعدّ الأميركي أجندة الأفرقاء في الموالاة، وتارة يقرر السعودي ما يجب على الحكومة فعله..هذا قبل أن يأتي موعد الإنتخابات في 7 يونيو الماضي.

قبل أيام من الإنتخابات تنبّه المراسلون الأجانب في بيروت إلى أن تحضيرات الفرقاء اللبنانيين للإنتخابات تجري خارج الجغرافيا اللبنانية، بدءً من تدخّلات السيدة الفاضلة سفيرة الولايات المتحدة ميشيل سيسون التي كانت تعقد الاجتماعات المتواصلة مع قادة الموالاة لحسم قوائم المرشّحين، وصولاً إلى كمية (الكاش) المطلوب سعودياً في الحملات الإنتخابية، حتى أن صحيفة (نيويويورك تايمز) ذكرت بأن هذه الانتخابات تعتبر الأكثر فساداً في تاريخ لبنان، بناء على ما حصلت عليه من معلومات حول حجم التمويل السعودي في هذه الانتخابات والذي بلغ 750 مليون دولار..الصحافة اللبنانية كانت أقرب إلى مصادر أخبار التمويل السعودي وآثارها في الدوائر الإنتخابية، وقدّرت ما دفعته الحكومة السعودية بـ (مليار دولار) فقط لا غير.

ونتيجة لذلك، حقّقت السيادة السعودية في لبنان أكبر منجز لها في الألفية الثالثة، وقبضت بـ (مليار إنتخابي) بضاعة السيادة اللبنانية. هل توقف الأمر عند هذا الحد؟ بالطبع كلا، ولن يكون غير كلا جواباً لأصحاب (الحرية والسيادة والإستقلال). فبعد أن كانت السعودية الناخب الرئيسي في الإنتخابات اللبنانية، وهي من خرج منها منتصراً، فلا بد أن تكون، ولها مطلق الحق السيادي في ذلك، المسؤولة عن تأليف الحكومة..ولا عزاء للجنرال ميشيل عون الذي نعى استقلال لبنان، حين تساءل عن المكان الذي تصنع فيه الحكومة. الجواب في عهدة دولة الرئيس المكلّف سعودياً سعد الحريري الذي طار مرات عدة الى الرياض كيما (يتدارس) مع المسؤولين السعوديين موضوع تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة..

ولأن حرية وسيادة واستقلال لبنان تستوجب تشاورات الـ (سين سين)، فقد باتت القوى السياسية موالاة ومعارضة خارج معادلة الحكومة اللبنانية الجديدة..صارت الرياض باعتبارها الفائز في الانتخابات اللبنانية هي من يقرر نسب التمثيل في الحكومة لا على قاعدة الأحجام السياسية أو الشعبية لكل فريق، بل على أساس ما تسفر عنه (التسويات) بين دمشق والرياض..

يمّم اللبنانيون جميعاً وجوههم قبل الرياض، بانتظار ما يحمله إليهم الرئيس المكّلف سعودياً من بشارات تنجيهم من أزمة حكم وشيكة..كان حقاً مثيراً مشهد الموفدين السعوديين الى دمشق وبيروت في محاولة لإقرار الصيغة السعودية للحكومة اللبنانية..فلم يعد شعار (حرية وسيادة واستقلال) لبنان يشكّل عائقاً أمام كثافة الحضور السعودي في معادلة الحكم اللبناني، بل لا يشعر السعوديون ولا الحريري بالحرج وهم يقطعون المسافات السيادية بين بيروت والرياض في محاولة لفرض واقع على الأرض اللبنانية..كل ذلك يجري في الهواء الطلق، ولا ضير سعودي إزاء ما تكتبه الصحافة اللبنانية عن الدور السعودي الحاسم في ملف تأليف الحكومة..

زيارة مستشار الملك عبد الله الأمير عبد العزيز بن عبد الله والوزير (السفير السابق) عبد العزيز خوجه الى دمشق لم تبحث في شؤون العلاقات السعودية ـ السورية، فتلك متوقفة على استجابة دمشق لمطالب الرياض حيال الشأن اللبناني بكل تفاصيله وتعقيداته بما فيها الموقف من سلاح حزب الله، والسلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وفك التحالف مع إيران، وعملية السلام مع الكيان الإسرائيلي..وهي ذات الموضوعات على جدول أعمال القمة الثنائية بين الملك عبد الله والرئيس السوري بشار الأسد..

في كل الأحوال، إنها لحظة سعودية بامتياز، فالديمقراطية اللبنانية توافقية كانت أم تلفيقية تشهد اختبار جديداً، مع نوايا مبيّتة بتحويل لبنان إلى مشروع اقتصادي سعودي، يراد عمّا قريب استثماره سياسياً وسيادياً، بحيث يصبح جاهزاً لكل ما خشي اللبنانيون منه من توطين للفلسطينيين، وسلام مع الكيان الإسرائيلي (وهو ما تتغياه التهدئة المفتعلة حالياً في لبنان)، وصولاً إلى تثبيت شكل مطوّر للوصاية..على الطريقة السعودية.

وأخيراً: عشتم وعاشت السيادة السعودية في لبنان.

الصفحة السابقة