صراع الدمّ والطائفية

السعودية ومعركة الإنتخابات العراقية

محمد الأنصاري

لعلّها مراهنة كبيرة تلك التي يعمل على تحقيقها السعوديون، في سياسة خارجية تتسم هذه الأيام بالنشاط على محاور متعددة، تبدأ بلبنان ولا تنتهي بالعراق وإيران واليمن.

فالسعوديون تلقوا دفعة معنوية من انتصارهم في الإنتخابات اللبنانية الأخيرة، وهو انتصار يكاد يذهب مع الريح نتيجة التحالفات الجديدة، والتحوّلات التي أبداها وليد جنبلاط ضد حلفائه خاصة سعد الحريري، وإبداء استعداده للإنقلاب عليهم إن تطلّب الأمر.

فلسفة السعوديين (ونقصد الأمراء) قائمة على مقولة: كل شيء ممكن بالفلوس. فإذا ما كانت تلك الفلوس (أكثر من مليار دولار صرفت على الإنتخابات اللبنانية) قد آتت ثمارها في لبنان، فلمَ لا يحدث ذات الأمر في العراق؟! مَن من دول العالم يستطيع أن يجاري السعوديين في الدفع؟!

علاوي: مرشح السعودية

السعودية المشحونة بالإنتصار الكاذب في لبنان، أخرجت أسنانها لتصارع على جبهات عدّة: الجبهة الإيرانية المستمرة، حيث التصعيد الإعلامي؛ والجبهة اللبنانية حيث الخشية من أن يتذرّر النصر الإنتخابي للأكثرية التي لم تعد أكثرية على أرض الواقع؛ وهناك الهجوم الساحق في اليمن بالتعاون مع الجيش اليمني ضد الحوثيين؛ والأهم، بالنسبة لهذه المقالة، هو ما يمكن تسميته بالإقتحام السعودي للإنتخابات العراقية القادمة.

من سوء حظ السعودية أنها لم تبق لها صديقاً يعتدّ به في العراق. فأذاها طال الشيعة والسنّة والأكراد، عبر إرسال أموالها ورجالها وفكرها العنفي الوهابي الى العراق.

ومن سوء حظ السعودية أيضاً، أن التأثير في الإنتخابات (عمل إيجابي) بنحو ما، إذا ما قورن بفلسفة السعوديين التي لم يتخلوا عنها، وهو تخريب العراق، أي ان السعوديين لا خطة لديهم بشأن العراق، اللهم إلا التخريب. والتخريب في حدّ ذاته ليس عملاً يصنع للسعوديين مكانة، ولكنه يؤذي منافسي السعودية، ويؤجج النقمة الشعبية عليها، كما هو واضح اليوم.

من اللاخطة عدا التخريب، الى التخريب عبر الإنتخابات، زائداً التفجيرات! هذا هو التطور في السياسة السعودية!

من حيث المبدأ، لا تستطيع المعدة الوهابية السعودية استيعاب قيام حكم ديمقراطي في العراق. فآثار الديمقراطية ضارّة على السعودية من أي جهة كانت، ولذا فهي تستميت في نقل نتف الأخبار السوداء التي تتعلق بالإنتخابات في هذا البلد أو ذاك.

ومن حيث المبدأ، فإن السعوديين الوهابيين لا يمكن أن يتحملوا حكماً ديمقراطياً له سمة (شيعية) في العراق. هم لم يتحملوا العراق حين حكمته الأقلية السنيّة، فكيف بهم يتحملوه وقد حكمته أكثرية ذات لون شيعي؟!

ومن حيث المبدأ فإن السعوديين لم ييأسوا من إمكانية حدوث تغيير في العراق، حتى وإن كان في غير صالحهم، المهم أن لا يكون في صالح إيران أو سوريا أو أية دولة تضعها السعودية في قائمة المنافسين، في محيطها الإقليمي.

السعوديون لا يسعون الى منافسة في العراق على النفوذ، كما تفعل الدول الكبرى وإيران وتركيا وسوريا.

السعوديون يريدون أن لا تقوم لهذا البلد قائمة، وإلا فإن بإمكانهم الدخول في لعبة المنافسة السياسية، والإستثمار فيها، بدل الإستثمار في القاعدة والعنف، والتفجيرات، والمؤامرات (كما في الزركة)، ومحاولات محاصرة الحكومة العراقية سياسياً حتى على الصعيد العربي، ورفض فتح سفارة، والضغط على أميركا لتزيح (الروافض!) من الحكم بالقوة.

أياد علاوي، رئيس الوزراء السابق، كان ـ ولازال ـ رجل السعودية في العراق، وهو قد اتهم بتدبير مؤامرات عنف (أحداث الزركة) بالتآمر مع السعوديين، ولازال ملفه غامضاً، وإن كان الرجل يسعى لأن يعود الى العراق (كمنقذ) آت من قصور الرياض وبدعمهم.

السعوديون يشعرون بأنهم تأخروا في دعم علاوي. فحين كان رئيساً للوزراء، لم يدعمه السعوديون، لكونه شيعياً!، ثم لما أخرج من رئاسة الوزراء، عبر الإنتخابات النيابية، وجاء المالكي، اكتشفوا بأنهم قد أخطأوا، وأنه لا يمكن ـ وعبر الإنتخابات ـ إيصال شخصية سنيّة عربية الى رئاسة الوزراء، بالنظر الى حجم الناخبين، وتغلغل الطائفية في مفاصل العمل السياسي العراقي، والتبعة الثقيلة التي تحملها العراقيون من حكم صدام حسين.

ولأن السعودية تكره الأكراد ولكن دون مستوى كره الشيعة، فإن خيار السعوديين يبقى في دعم علاوي، البعثي السابق، والمقرب من الولايات المتحدة الأميركية، والمعادي للنفوذ الإيراني، خاصة وأن علاوي تزعم جبهة تشمل السنّة والشيعة، والقوميين والبعثيين، وبالتالي فإنه أصبح مقبولاً، وهو وإن كان شيعياً، فحاله ـ بالنسبة للسعودية ـ أقلّ إيلاماً!!

لكن علاوي لا يستطيع ـ حسب المعطيات الحاضرة ـ الوصول الى رئاسة الوزراء، فحصته الإنتخابية المتوقعة لا تجعله مرشحاً قوياً. فالأكثرية الشيعية لا يبدو أنها ستصوت له؛ كما أن الأكثرية الكردية لن تصوت إلا للبرزاني والطالباني والأحزاب الاسلامية الكردية. أما السنّة العرب فلهم مرشحوهم؛ هناك الحزب الإسلامي، وهناك البعثيون الذين ظهروا تحت مسميات مختلفة، وهناك الصحوات، وهناك الرافضون للعملية السياسية من أصلها.

المالكي في الرياض: أصبح عدواً

وعليه لا بدّ أن يحدث تغيير جوهري، يمكن له أن يغيّر المعادلة، حتى ينجح علاوي والسعودية.

ضمن هذا السياق يمكن فهم تحرك السعودية المتوازي مع تحرك الأميركيين.

هناك ثلاثة اتجاهات تقوم بها السعودية في هذا الوقت:

الأول ـ هو التخريب، ودعم العنفيين في العراق، لإثبات شيء واحد، وهو أن المالكي الذي نجح بشكل نسبي في الحدّ من العنف، وإعادة الهدوء وما يقال أنه (دولة القانون)، هو حاكم فاشل، وبالتالي يمكن إسقاطه في الإنتخابات القادمة من جهة، وإشعار الشارع العراقي بأن المنقذ لن يكون سوى علاوي، القادر على إعادة البعثيين من أصحاب الكفاءات الى السلطة، من جهة أخرى. ومن هنا أيضاً، كان اتهام جهات عديدة للسعودية في الأسابيع الثلاثة الماضية بأنها تقف وراء التفجيرات في العراق، وقد أعلنها أكثر من مسؤول عراقي، مشيراً الى أن السعودية يزعجها الهدوء الأمني في العراق؛ والصحيح أنها تريد إيصال مرشحها على موج من الدماء.

الثاني ـ هو الضغط بأن لا يتشكل (إئتلاف) يضم القوى الشيعية السياسية المختلفة، وبالخصوص الإتجاهات الثلاثة: حزب الدعوة الذي ينتمي اليه المالكي، والحزب الإسلامي الأعلى الذي يتزعمه الحكيم، وتيار مقتدى الصدر. وكما تشير التجربة الماضية للإنتخابات النيابية، فإن هذا الإئتلاف، ورغم كل ما قيل عن فساد بعض رموزه، وفشلهم في إدارة الدولة، فإنه لازال قادراً على تجميع الصوت الشيعي وصبّه لصالح مرشحيهم للرئاسة (المالكي على الأرجح).

إيران تضغط لإعادة الحياة للإئتلاف، والمرجعية الدينية الشيعية، تقدّم رجلاً وتؤخر أخرى، من أجل انجاحه، دون أن تتورط في التفاصيل، وحتى لا يحملها الجمهور تبعات الفشل المحتمل لرئيس الوزراء القادم. لكن الولايات المتحدة من جانبها تضغط من أجل أن لا يقوم ائتلاف شيعي، وهي قد نصحت المالكي بأن يقيم ائتلافاً من كل الألوان. ولكن الألوان الأخرى لا تقبل بالضرورة الإنخراط في الإئتلاف، والإنفكاك عن الطائفية السياسية. فلا الحزب الإسلامي السنّي، ولا الأحزاب الكردية تقبل بالتعاون مع حزب الدعوة لتشكيل ائتلاف وطني. فضلاً عن أن علاوي وغيره لا يقبلون الدخول في إئتلاف إلا أن يكون هو رئيساً للوزراء. زد على ذلك، فإن الأثمان لدخول هؤلاء في ائتلاف وطني عالية، إذ إن كل طرف يريد الدخول بشروطه، ويريد حصّة من الحكم. بمعنى آخر، فإن رئيس الوزراء القادم، وسواء كان هناك ائتلافاً شيعياً أو وطنياً، فإنه سيكون ضعيفاً، وستكون قدرته على إدارة الدولة ضعيفة بالنظر الى تدخلات الأحزاب الأخرى. يبقى القول أن السعودية، تحرّض واشنطن على منع قيام ائتلاف شيعي يضيع على مرشحها علاوي فرصة الفوز، كما تعتقد.

الثالث ـ قررت السعودية صبّ المال صبّاً في الإنتخابات القادمة. وقد بدأت الآثار تظهر منذ الآن، بحسب مراقبين للوضع العراقي الحالي. السعودية بدأت بشراء العشائر ورجالها، سنّة وشيعة!، وهذا تطوّر في العقلية السعودية الوهابية، التي ترى بأن الشيعة ليسوا أكثرية في العراق!! ويقول مطلعون بأن السعودية تحاول بمجهودها المالي، كما بمجهودها السياسي القليل، تشكيل ائتلاف مقابل يرأسه علاوي ويدخل ضمن قائمته الإنتخابية، على الطريقة اللبنانية المعروفة. ليس هناك من مدى يمكن أن يصل اليه السعوديون، فهم مستعدون لدفع مليارات من الدولارات إن كان ذلك سينجح مرشحهم.

والسؤال هل اللعبة السعودية ستنجح في العراق كما نجحت في لبنان.

الأرجح أنها لن تنجح. اللهم إلا إذا فشلت الدعوات لقيام ائتلاف شيعي موحد في الإنتخابات.

وأما المال السعودي، فسيغيّر من المعادلة كثيراً، ولكنه لن يقلبها رأساً على عقب، كما تتوقع السعودية.

الصفحة السابقة