الرياض ترفض فتح صفحة جديدة مع دمشق

المناكفة السعودية الخاسرة

يحي مفتي

لم تشأ الرياض فتح صفحة جديدة مع دمشق بسهولة، وكأن عقد الماضي القريب لم تحل مالم تحصد السعودية منها ما كانت تستوجبه من الجانب السوري، في ملفات لم تعد تملك الرياض أوراق كافية للضغط بها.

رغم أن الملك عبد الله بدا كما لو أنه يرسل إشارات جديّة الى دمشق من أجل استئناف العلاقات، والتي بدأها باستبعاد الأمراء المتورّطين بصورة مباشرة في توتير العلاقات بين البلدين، وعلى رأسهم الأمير سعود الفيصل الذي تتهمه دمشق بأنه وراء محاولات تحشيد قوى دولية لإسقاط النظام السوري، وكذلك الأمير بندر بن سلطان، الأمين العام لمجلس الأمن الوطني السعودي، الذي تعرّف الملك مؤخراً، ومن وحي شهادة القيادة السورية، على تدخلاته في الحياة السياسية السورية، وتسبب من خلال تشجيع مجموعات سلفية متطرّفة على تفجير الأوضاع الأمنية في بعض المناطق السورية. كل الوجوه السابقة اختفت من مشهد العلاقة السورية السعودية، وتم تسليم اوراق اعتماد السفير السعودي الجديد في دمشق، إيذاناً بعودة العلاقات الطبيعية بين البلدين، ولكن مع ذلك لا يتحدّث أي منهما عن علاقات طبيعية، فأين يكمن الخلل إذن؟

كان الاعتقاد سابقاً أن لبنان يمثّل الحلقة الملتهبة التي تحول دون زوال التوتر بين الرياض ودمشق، رغم ما أبدته الأخيرة من إشارات بالغة الدلالة، حين نأت بنفسها عن التدخل في الانتخابات التشريعية في لبنان في يونيو الماضي، مع أنها كانت تشهد بالعين المجرّدة كثافة الإغداق المالي السعودي في المعادلة الانتخابية اللبنانية، والتي لم تكن سرّاً، بل عرف عنه القاصي الأجنبي والداني اللبناني. حقّقت الرياض ما كانت تطمح إليه بعد أن أفسدت الديمقراطية اللبنانية بمالها الانتخابي، ونجح حلفاؤها من فريق 14 آذار، وأرادت بذلك (الإنجاز السياسي) والانتخابي أن يكون مدخلاً للمقايضة مع دمشق، التي بدت مرتاحة لوضعها بعد انفكاك الطوق الذي فرضته القوى الدولية عليه على خلفية الاتهام السياسي بضلوعها
الأسد يستقبل نجل الملك
في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير 2005.

حمّلت الرياض الرئيس الفرنسي ساركوزي مسؤولية تحرير دمشق من الضغوطات الدولية، حين بادر بعد أن حسمت المعارضة النتائج الميدانية في 7 مايو 2008 للإنفتاح على سورية، واكتشفت القيادة الفرنسية حينذاك بأن المعارضة اللبنانية ليست بالطرف الضعيف الذي يمكن الاستهانة به، وانسحب الحال على سورية باعتبارها الحليف العاضد للمعارضة، على الأقل من الناحية المعنوية والسياسية، ولابد من فتح الرهانات مجدداً. السعودية شعرت حينذاك بأنها غير قادرة لا على قلب النظام في سوريا ولا إضعاف المعارضة اللبنانية، وذلك شكّل أزمة داخل النظام السعودي الذي أنفق مليارات الدولارات من أجل تغيير معادلات كبرى في المنطقة.

أوحت القيادة السعودية الى السوريين من خلال تبديل الوجوه المسوؤلة عن التوتر في العلاقات بين دمشق والرياض بأنها جادّة بالفعل على مقاربة مختلفة لملفات المنطقة: لبنان، فلسطين، العراق، الوضع الاقليمي. وكان إيفاد الملك عبد الله نجله الأمير عبد العزيز بن عبد الله رسالة واضحة بأن ثمة إرادة صلبة بعودة العلاقات الثنائية الى سابق عهدها. وقابل السوريون تلك الارادة بقدر كبير من المسؤولية، وأطلقوا التصريحات المتفائلة عن قرب لقاء قمة بين الرئيس بشار الأسد والملك عبد الله، بل تجاوزوا تصريحات سلبية صدرت في وسائل إلإعلام السعودية ومنها قناة (العربية)، وواصلوا التبشير بعهد جديد بين الدولتين.

ما تسبب في خيبة أمل السوريين، أن تبديل الوجوه لم يكن يفضي إلى استبدال السياسة أو بالأحرى العقل السياسي السعودي في التعاطي مع سورية كدولة ذات سيادة ولها ثوابت ومصالح محدّدة. تقول مصادر سورية بأن القيادة السعودية أبدت استعاداً نظرياً لعودة العلاقات ولكن في التفاصيل كان ثمة شيطان سعودي كبير يكمن فيها، حيث أعادت طرح الشروط القديمة: قطع العلاقات مع إيران، ووقف كل أشكال الدعم عن حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، والتعاون في ضرب قوى عراقية مصنّفة في خانة الخصوم للأمة العربية، ودعم مبادرة الملك عبد الله المعدّلة للسلام مع الدولة العبرية، والتعاون من أجل دعم التشكيلة الحكومية التي ينوي رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري تأليفها.

نظر السوريون الى تلك الشروط، أو بعضها على الأقل، باعتبارها مساساً مباشراً بثوابتهم، التي أنقذتهم في فترات سابقة من أخطار محدقة بالنظام، بل اعتبروها مصدر تميّزهم، وأن التفاوض عليها بمثابة تفاوض على بنية النظام السوري نفسه، وثوابته الاستراتيجية.

سمع السعوديون كلاماً واضحاً من الجانب السوري بخصوص تلك الشروط، واحتسبوا بعضها تدخّلات مباشرة في الشأن السوري. ولذلك تم التركيز على ملفين أساسيين: تشكيل الحكومة في لبنان وعملية السلام في الشرق الأوسط. ولذلك جرى اختبار العلاقات بين دمشق والرياض بناء على ما تسفر عليه المفاوضات الثنانئية في هذين الملفين على وجه الخصوص.

صحيح أن تشابك المصالح بين سوريا والمملكة السعودية على المستويين الاقليمي والدولي لعبت دوراً كبيراً في تأخير ولادة الحكومة اللبنانية، بل وفي زيادة وتيرة مفاعيل الخلاف السوري السعودي على الملفين اللبناني والإقليمي بصورة عامة، إلا أن ما لا يستسيغه السوريون من الجانب السعودي هي عقلية الإملاء التي تحول دون تفاهمات صلبة بين الطرفين.

بدا واضحاً أن قرار سعد الحريري بتقديم اعتذاره عن تأليف الحكومة اللبنانية الى رئيس الجمهورية مؤشر واضح على أن معادلة (سين سين) أخفقت في إنقاذ جهود رئيس تيار المستقبل لناحية قطف ثمار الفوز بالانتخابات التشريعية، مع نيّة إسقاط عرف لبناني قائم على أساس تشكيل الحكومات وفق ما تسفر عنه مروحة المشاورات مع كل الأطراف اللبنانية الرئيسية، من أجل اختيار الوزراء في الحكومة وتقسيم الوزارات. بدا الخلاف على حسم تأليف الحكومة لبنانياً، في ظل تحشيد موالاتي متصاعد لمنع زعيم التيار الوطني الحر ميشال عون من تحقيق مكتسبات تفوّقه الانتخابي في الجانب المسيحي في التشكيلة الحكومية. وهناك من يرى بأن ثمة ضغطاً كونياً يتعرض له الجنرال عون باعتباره العقبة الكبرى التي تحول دون حصول فريق الموالاة على استحقاقات حاسمة في المرحلة المقبلة. فإرادة إضعاف عون إقليمية (سعودية بدرجة أساسية ومصرية وأردنية بدرجة ثانوية)، ودولية (أميركية بدرجة أولى)، وهو ما يجعل تمسّك المعارضة بحق عون في الحصول على حصة وازنة في التشكيلة الحكومية مبنياً على قناعة راسخة، ما يجعله مرتاحاً لتمسّكه بهذا الحق.

ولرئيس اللقاء الديمقراطي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط مقاربة مختلفة، كما هي عادته دائماً، فقد نبّه في وقت مبكر إلى أن حل عقدة تشكيل الحكومة في لبنان يتم عبر نجاح التفاهم السعودي السوري، بل يشفعه بتفاهم آخر سعودي إيراني. يعتقد مراقبون لبنانيون بأن طبخة التفاهم السعودي السوري لم تنضج بعد، وأن وقتاً كافياً بات مطلوباً من أجل الوصول الى تفاهمات حقيقية وصلبة، فتصدّع أسس الثقة منذ اغتيال الرئيس الحريري في فبراير 2005 وحتى يونيو 2009 تسبب في إحداث شرخ عميق في العلاقات بين الرياض ودمشق، وليس من السهولة بمكان أن تحسم ملفات خلافية في جلسة أو جلستين. وطالما أن حواراً سعودياً سورياً لم ينضج بعد، فإن ذلك
سعود الفيصل أوصل العلاقات الى الحضيض
يعني تأخيراً في توافق لبناني داخلي على تشكيل الحكومة، وهو ما أفصح عنه رئيس كتلة حزب الله في البرلمان اللبناني النائب محمد رعد بقوله بأن الحكومة لن تولد لا قبل العيد ولا بعده، في إشارة واضحة إلى أن العقد الرئيسية بين الموالاة والمعارضة ليست سهلة.

السعودية بطبيعتها المواربة والمرتابة ترى بأن للسوريين يداً في تخريب جهود سعد الحريري في تشكيل الحكومة، وأن ما يتمسّك به الجنرال عون من مواقف ليست نابعة من إرادة تياره وتعبيراً عن روح الناخبين الذين أوصلوا نوابه الى المجلس. ومع ذلك، فإن السوريين أعلنوها مراراً بأن ليس لديهم ما يضغطون به على الجنرال عون، وأن الاجندة السياسية لدى المعارضة اللبنانية متوافقة مع الجانب السوري، وأن الاستقطابات السياسية الاقليمية والدولية هي ما يوحي بانها، أي أجندة المعارضة، تتم بناء على ضغوطات أو إملاءات. وتدلل دمشق على موقفها هذا بما جرى في الانتخابات اللبنانية حين امتنعت عن التدخل فيها لدعم حلفائها، ولكن حين بدأت المشاورات بخصوص تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة كان للمعارضة موقف ثابت، وهي الحصول على الثلث الضامن، استمراراً للتوافق الذي تمّ في الدوحة في مايو 2008. وتبقى مسألة تأليف الحكومة أحد المحاور الاختبارية في العلاقات بين دمشق والرياض حتى إشعار آخر، ولا ترى سورية بأن من صالحها القبول بشروط سعودية تدرك بأنها تزيد الأمور تعقيداً في الساحة اللبنانية وستنعكس بصورة وأخرى على علاقاتها المستقبلية مع الحكومة اللبنانية.

في شأن متصل في ملف العلاقات السعودية السورية، تصرّ الرياض على دور أساسي لدمشق في عملية السلام في الشرق الأوسط، فلا تريد السعودية أن تقود قطار التطبيع دون سورية التي باتت تمثّل رمز الممانعة العربية لعملية السلام وفق الشروط الأميركية ـ الاسرائيلية. لا ننسى في الوقت نفسه أن مبادرة الملك عبد الله في قمة بيروت في مايو 2002 جرى تعديلها مراراً وكانت تصرّ السعودية على أن تكون سورية حاضرة في كل تعديل تجريه على المبادرة، بما في ذلك قمة الرياض في مارس 2007. وإذا من أعيد إستحضار مفهوم دول المواجهة والتصدي وهي الدول المتاخمة لفلسطين المحتلة، فإن السعودية تسعى إلى حشد كل هذه الدول، بما فيها لبنان وسورية، خلف مبادرة السلام مع الإسرائيليين.

أدرك السعوديون منذ سنوات بأن حركات المقاومة في لبنان وفلسطين هي العقبة الكبرى أمام مرور مبادرة السلام مع الدولة العبرية، الأمر الذي شجّعها على البحث عن خيارات حل أخرى، سواء عبر الحروب (عدوان تموز على لبنان سنة 2006، والعدوان على غزة في ديسمبر 2008)، بل نجد صورة متكررة في لبنان وفلسطين تقودها السعودية، فبعد عدوان تموز تم تشجيع عناصر القاعدة على الانتقال الى لبنان استعداداً لخوض معارك ضد حزب الله، ولكن افتضاح أمر الشبكات القاعدية التي تورّطت في حرب مع الجيش اللبناني في نهر البارد في الشمال اللبناني حال دون نجاح الخطة السعودية بقيادة بندر بن سلطان وفريق ديك تشيني. الشيء ذاته تكرر في غزة، حيث بدأت السعودية في تشكيل خلايا سلفية وهابية لمشاغلة حركة حماس بعد أن عجزت الآلة العسكرية الاسرائيلية على القضاء على قوة حركة حماس العسكرية.

محاولات تبدو بائسة بالنسبة للسعودية التي يبدو أنها لم تستفد من تجارب ماضية، وليست على استعداد لاستماع النصيحة الذهبية بأن حماس، كما حزب الله، تمثّل مجتمع مقاومة، وليس مجرد تنظيم عسكري، بل إنها بإقدامها مرة أخرى على تشكيل خلايا سلفية مسلّحة قد يتسبب في إحداث إضطرابات أمنية، ولكنه لن يغيّر في المعادلة الغزّاوية، بل قد تكون لها نتائج عكسية على أية عملية مستقبلية.

بالنسبة للسوريين، فإن السعوديين يلعبون خارج الملعب الفلسطيني الحقيقي، وإن رسوخ حركة حماس في غزة يجعل التعامل المباشر معها ضرورة حتمية، بعد أن أثبتت كفاءة عالية في مقاومة سنوات الحصار بمشاركة مصرية ـ سعودية ـ أردنية وإسرائيلية وأخيراً العدوان على غزة في ديسمبر ـ يناير الماضي. ورغم الغطاء السياسي والاعلامي الكثيف من جانب دول الاعتدال وعلى رأسها السعودية ومصر للعدوان الاسرائيلي على غزة، واستمرار الحصار عليه من أجل منع المساعدات عن أهله وإعادة إعمار ما هدمته آلة الدمار الإسرائيلية بصورة وحشية وغير مسبوقة، فإن حماس بقيت متماسكة ليس كقوة عسكرية مقاومة فحسب، بل كجهاز إداري، وفريق سياسي متمسك بثوابته في المقاومة والتسوية معاً، فهل تعي العائلة المالكة بأن المناكفة التي تخوضها مع سورية خاسرة في لبنان وفلسطين وفي كل مكان آخر طالما بقيت عالقة في لعبة المناكفة الهابطة.

الصفحة السابقة