بندر الغائب الحاضر

(اليمامة) تطير إلى أميركا

ناصر عنقاوي

يبدو أن لعنة (اليمامة) ستبقى تلاحق الضالعين فيها من أشخاص أو شركات أو حتى أشباح، بالرغم من مرور ربع قرن على توقيع صفقة اليمامة بين السعودية وبريطانيا. فما إن تغلق أبواب القضاء في دولة ما وإن بصورة مؤقتة، حتى يبدأ قضاة آخرون في دول أخرى بفتح الأبواب مجدداً، وكل بحسب ما اخترقه الضالعون في (اليمامة) من قوانين، أو استغله من صلاحيات وامتيازات لناحية إما التهرّب من الاستحقاقات المالية، أو تمرير مبالغ ملوّثة عبر حسابات بنكية متنقّلة.

في ديسمبر من العام 2006، نجحت ضغوطات سعودية في تعطيل مفعول القضاء البريطاني، بعد أن طلب رئيس الوزراء البريطاني حينذاك بإيقاف عمل مكتب التحقيق في الغش التجاري الخطير، قبل أن يعاود الأخير عمله بفعل ضغوطات منظمات المجتمع المدني في بريطانيا ومنظمات حقوقية وقانونية في أوروبا مسؤولة عن مراقبة سير عمل القضاء والتثبّت من الفصل بين السلطات، وتطبيق القوانين. حين عاد المكتب المشار إليه لمواصلة التحقيق في ملف الرشاوى الخاصة بصفقة (اليمامة)، تكشّف حجم الضغوطات التي تعرّض لها المجتمع القضائي في بريطانيا وكذلك كبار السياسيين بهدف تجميد التحقيق، أو الالتفاف على النتائج التي يمكن التوصّل إليه بحسب مسار التحقيقات، بل تكشّف بعض قصص محاولات التسوية المشوبة بالغش.

بندر بن سلطان، الذي يبدو غائباً هذه الأيام ولم يحضر استقبال والده بل قيل أنه اختفى من المشهد السياسي بصورة كاملة، يبدو الشخصية الأكثر بروزاً دائماً، حتى أنه ما إن تذكر رشى اليمامة حتى يرد إسم بندر بن سلطان إلى جانبها، فقد حصد نحو ملياري دولار من (صفقة القرن)، وحسب أن الأمور تسير كما خطّط لها، ولم يخطر في باله أن حساباً عسيراً ينتظره من وراء هذه العمولة الفلكية في تاريخ صفقات التسلح، وخصوصاً في بلدان يتمتع فيها القضاء بالإستقلال والصحافة بالشفافية والنقد.

بندر انتهى سياسياً

كان الإعتقاد بأن في بريطانيا سيكون مدفن التحقيقات في (رشى) اليمامة، ولكن ذيولها في دول أخرى مثل الولايات المتحدة التي سنّت تشريعاً منذ بداية التسيعينيات يحظر تقديم عمولات في صفقات تجارية وعسكرية مع أطراف خارجية، أملت فتح تحقيق في تداعيات الفساد في (اليمامة) على الولايات المتحدة. قبل تصرّم العام 2009 كانت محكمة الاستئناف قد أصدرت حكماً ضد صندوق معاشات العاملين في مدينة هاربر وودز في ميشيغان الذي قد يطلب من المحكمة العليا الأميركية السماح له بمقاضاة شركة (بي أيه إي سيستمز) في الولايات المتحدة على خلفية دعاوى بأنها دفعت أكثر من ملياري دولار رشى للفوز بصفقة أسلحة سعودية قياسية.

وقالت محكمة الاستئناف الاميركية بأن القانون البريطاني وليس الأميركي يملك الاختصاص في دعوى حاملي الأسهم بشأن رشى مزعومة للأمير السعودي بندر بن سلطان وآخرين. وتركت محكمة الاستئناف التي أيّدت ماتوصّلت إليه محكمة أقل درجة للصندوق امكانية رفع قضيته في بريطانيا. وقال محامي صندوق معاشات العاملين في المدينة سالفة الذكر كافلين أن الصندوق ليس لديه خطط لرفع هذه القضية في بريطانيا. وقال إنه ربما يطعن بدلاً من ذلك أمام المحكمة العليا ضد رفض القضية من جانب محكمة الاستئناف في مقاطعة كولومبيا.

ويتهم صندوق معاشات التقاعد مديرين وتنفيذيين حاليين وسابقين في شركة (بي أيه إي) وهي أكبر شركة لصناعات الأسلحة في بريطانيا بخرق مهامهم الإئتمانية وتضييع أصول مشتركة من خلال مزاعم عن السماح برشى ومدفوعات غير قانونية في صفقة أسلحة عرفت باسم (اليمامة) في الثمانينات.

وتنفي (بي ايه اي) ضلوعها في أي مدفوعات مخالفة لتأمين الحصول على الصفقة التي بيعت فيها مقاتلات (تورنادو) وطائرات تدريب (هاوكر) وغيرها من المعدات العسكرية الى السعودية مقابل نفط بدءا من عام 1985. وقدّرت قيمة صفقة المقايضة تلك بين الحكومتين بما يصل الى 80 مليار دولار وهي أكبر صفقة أسلحة من حيث قيمة التكلفة في بريطانيا.

وقالت ليندساي وولز وهي متحدثة بإسم شركة (بي أيه إي) في لندن أن الشركة ترحّب بحكم محكمة الإستئناف الأميركية. ونفى محامون عن الامير بندر أي مخالفات من جانبه. ودفع المدّعون بأنه يتعين أن يكون للولايات المتحدة سلطان قضائي بسبب ذهاب أكثر من ملياري دولار من الرشى المزعومة الى الامير بندر عبر حساب في بنك ريجيز وهي مؤسسة مالية في واشنطن العاصمة لم تعد عاملة الآن. ودفع ممثلو الدفاع عن شركة (بي أيه إي) بأن جميعهم تقريباً يقطنون خارج الولايات المتحدة وليس في واشنطن العاصمة.

وكان مكتب التحقيق في الإحتيالات الخطيرة ببريطانيا قد أسقط في ديسمبر/كانون الاول 2006 تحقيقاً في صفقة اليمامة. وقال رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت توني بلير أن التحقيق في هذه المسألة يهدد الأمن القومي والعلاقات مع السعودية التي وصفها بأن لها دوراً حيوياً في جهود مكافحة الإرهاب وجهود السلام في الشرق الاوسط. وفي يونيو/حزيران 2007 قالت (بي أيه إي) أن وزارة العدل الأميركية فتحت تحقيقها الخاص في مدى امتثال شركة (بي أيه إي) مع قوانين مكافحة الرشى ومن بينها تعاملات مع السعودية.

ويأتي فتح ملف الرشى في الولايات المتحدة بعد شهور قلائل على استئناف مكتب التحقيق في الاحتيالات التجارية في بريطانيا عمله في التحقيق في القضية، فيما يواصل المدّعى عليهم بمن فيهم الأمير بندر بن سلطان حشد قواهم من أجل دفع الإتهامات الموجّهة إليهم بخصوص تلقي رشاوى عبر حسابات بنكية في أوروبا..فهل يخسر الأمير بندر في التجارة كما خسر في السياسة؟

الصفحة السابقة