بين دمشق والرياض

طريق المصالحة مغلقٌ حتى إشعار آخر

محمد شمس

يقول المثل (خذوا أسرارهم من صغارهم)، فما يكتبه بعض المقرّبين من مصادر تفكير وجيوب آل سعود، يمثّل إشارات لافتة على إتجاهات السياسة في هذا البلد، بل وحتى عن علاقات الدولة بجيرانها. في 15 فبراير الماضي، كتب مدير قناة (العربية) عبد الرحمن الراشد عموداً في صحيفة (الشرق الأوسط) بعنوان (طي اغتيال الحريري)، اعتبر النفوذ السوري في لبنان (قضية خطيرة) من بيان قضايا أخرى (لايمكن أن يهال التراب عليها فقط لأن الحريري قبل بزيارة دمشق). ثم عاد وقال في مكان آخر (دمشق تريد أن تكون طرفاً دائماً في اللعبة اللبنانية).

لأول وهلة، اعتقدنا بأن المقالة ليست أكثر من نفثة مصدور، أو جملة اعتراضية خارج السياق، أو حتى عزف منفرد لاستعادة ترانيم التجاذب في لبنان. ولكن ما لبث أن توضّحت الصورة، ففي 27 فبراير الماضي كتب طارق الحميد في الشرق الأوسط عموداً بعنوان (سورية وإيران.. من يخدع من؟)، تحدث عن قمة دمشق التي جمعت الرئيس السوري بشار الأسد بنظيره الإيراني محمود أحمدي نجاد، والرد السوري على طلب وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون من سورية بالابتعاد عن إيران، حيث قال الأسد (أتمنى من الآخرين ألا يعطوا دروساً عن منطقتنا وتاريخنا، ونحن نحدد كيف تذهب الأمور). الحميد اعتبر التصريح متناقضاً مع الطلب السوري من الأميركيين بالتدخل في المفاوضات مع إسرائيل. ثم يقول بعد ذلك (أمر محير فعلاً، فإذا كان السوريون يريدون علاقات طبيعية مع أميركا، ويريدونها أن ترعى وساطة مع إسرائيل، فكيف يقاتلون في صف نجاد، ويوافقونه على محو إسرائيل)، وفي الأخير تساءل (من يخدع من؟) موضّحاً: (فهناك أمر لا يستقيم بعلاقة دمشق ـ طهران اليوم، فرفع الصوت يشي بأن هناك طرفاً متوتراً، وآخر يظهر عكس ما يخفي؟).

وعاد الحميد في 6 مارس الجاري وكتب عموداً في نفس الصحيفة بعنوان (هل أعطى العرب غطاءً أم كشفوه؟)، غمز في القناة السورية تارة بصورة خفيّة وأخرى بصورة عارية، أي حين اعتبر إعطاء الجامعة العربية تفويضاً لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لسحب البساط من تحت (المزايدين)، وأخرى حين انتقد الموقف السوري المعترض على تقديم تفويض عربي لعباس لأنه ليس بحاجة الى تفويض، وفسّر الموقف السوري بطريقة سلبية (والمغزى واضح، فالسوريون لا يريدون سابقة عربية كهذه، كما أنهم يريدون إعطاء شرعية لحماس لمهاجمة عباس) ثم أثار سؤالاً ينطوي على تعريض بالموقف السوري (طالما أن السوريين يرون أن للفلسطينيين الحق في اتخاذ قراراتهم وحدهم فلماذا تتدخل دمشق في الشأن الفلسطيني أصلا؟).

السعودية ممتعضة من دمشق

ما لفت أيضاً، أن الحميد اعتبر الرد السوري على اعلان رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو عن استعداه لزيارة دمشق بأنه وقوع (في الفخ الاسرائيلي) ويعلّق على ذلك (فبدلاً من إحراج نتنياهو، وكشف ألاعيبه، جاء الرد السوري مرتبكاً؛ فلو أن الرد السوري على نتنياهو كان: أعلن موافقتك على الانسحاب من الجولان على مراحل، أو مباشرة، وتفضّل، أو نأتي إليك، حينها كنا سنقول: ضربة معلم!)، وختم مقالته بما بدأه بالغمز في القناة السورية (الإشكالية اليوم التي لم ينتبه لها البعض هي عدم وجود أفق سياسي، مما سينشط سوق المزايدة، والمغامرين).

وبقطع النظر عن ضحالة التحليل وبدائيته، كما تنبىء عن ذلك معظم مقالات الحميد، فإن ما يهمنا هنا ما تومىء إليه في موضوع العلاقة بين الرياض ودمشق، والتي بدت وكأنها تتقهقر وتعود الى المربع الأول.

زيارة الملك عبد الله الى دمشق في أكتوبر من العام الماضي، وصفت بأنها تاج المصالحات العربية، بما أسست له من مناخ تصالحي إنعكس إيجابياً على الوضع في لبنان وعلى العلاقات العربية العربية. إحتفالية الزيارة عكست نفسها على وسائل الاعلام السعودية بدرجة أساسية التي كانت تقود طيلة سنوات حملة دعائية واسعة ضد سورية ورئيسها بشار الأسد منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في فبراير 2005. توقّفت الحملة الدعائية ضد سورية برهة من الزمن، إيذاناً بافتتاح مرحلة مصالحة تطوي آثار التشنّجات السياسية والأمنية بين البلدين على مدار خمس سنوات خلت.

وفيما بدا أن ترتيبات الزيارة سبقتها جولات مكوكية من موفد الملك، ممثلاً في نجله الأمير عبد العزيز بن عبد الله إلى جانب وزير الإعلام عبد العزيز خوجه، لناحية تحديد موضوعات اللقاء مع القيادة السورية، ومن بينها العلاقات السورية ـ الإيرانية، وملفات لبنان والعراق وفلسطين، كان السوريون على استعداد للتباحث في هذه الموضوعات ولكن من دون شروط مسبقة. لم يكن الملك عبد الله في حلٍ من الزيارة المقرّرة، تبعاً لأجواء المصالحة المطلوبة عربياً وأميركياً..وإسرائيلياً، بانتظار تنضيج مناخ السلام المراد بعثه مجدداً بعد أن توقّف قطار التسوية منذ تدهوّر العلاقات العربية العربية.

قيل القليل عن مضمون زيارة الملك عبد الله الى دمشق، ولكن أجواء المصالحة من شأنها أن تنتج مالم يقل البته، بل هناك من أراد، وخصوصاً في لبنان، تقويل الرياض ودمشق أموراً من أجل إنجاح مسار التهدئة لبنانياً، خصوصاً بعد نجاح الموالاة في الانتخابات التشريعية، ولم يكن هناك ما يدعو لتعكير المعادلة الجديدة، طالما أنها حققت ما كانت تريده الرياض في لبنان من وصول حليفها الى الحكومة.

أما في الملفات الأخرى، وخصوصاً العلاقات الاستراتيجية التي تربط دمشق وطهران، وهو مركز الاشتغال السعودي، فلا يبدو أن الرياض نجحت في إحداث اختراق فيه، بسبب تمسّك القيادة السورية بهذه العلاقات، التي جرّبت عملياً مفاعيلها الإيجابية وأنقذتها في أحلك الظروف، حين كانت الرياض تخطط مع عواصم أوروبية الى جانب قوى الموالاة اللبنانية لإسقاط النظام السوري، فكيف لها أن تقبل بعد أن كسرت الحصار الدولي عليها، أو كما عبّر عنها السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان، والذي يشغل حالياً منصب مساعد نائب وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى في 19 يناير الماضي وهو الذي (هندس) مشروع عزل وإسقاط النظام في سورية خلال السنوات من 2005 ـ 2008 (لقد حاولنا عزل سوريا فوجدنا أننا نحن المعزولون وليس سوريا).

إكتشفت القوى الإقليمية والدولية وقبل ذلك اللبنانية بأن دمشق رقم صعب في المعادلة الإقليمية ليس في الموضوع اللبناني فحسب، بل في كل قضايا المنطقة، ولا يمكن تجاوز دورها لمجرد زيارة الملك عبد الله الى دمشق وطلبه الفكاك عن طهران، وكان على الرياض أن تدرك جيداً هذه الحقيقة قبل أن تقرر ما يجب أن تطرحه من قضايا للنقاش مع القيادة السورية.

مجلس حرب: نجاد والأسد ونصر الله

المعطيات التي ظهرت بعد زيارة الملك عبد الله إلى دمشق لا تنبىء عن نجاح الرياض في الحصول على التزامات سورية حيال قضايا ذات اهتمام منفرد. وبإمكان المراقب أن يلحظ ذلك في موضوع المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، والتي حاولت الرياض، نيابة عن الجانب المصري، أن تضغط على القيادة السورية من أجل إرغام حركة حماس على توقيع ورقة المصالحة الفلسطينية بحسب الشروط المصرية، وحين عجزت الرياض عن إقناع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، الذي زار المملكة لإيصال وجهة نظره الى الملك عبد الله بالقبول بوثيقة المصالحة كما هي دون تغيير، وذهب الأمير سعود الفيصل الى دمشق لهذا الغرض، قررت الرياض نشر رسالة مشعل الى الملك عبد الله في الصحافة المصرية.

قمة دمشق الأخيرة التي جمعت الأسد ونجاد ونصر الله لم تكن ردّاً على التصريحات الأميركية فحسب، بل وجدت الرياض نفسها معنيّة بصورة مباشرة بما تحمله القمة من رسائل إقليمية ودولية. في التفكير السياسي السعودي، أن القمة تمثّل رداً لطلب سعودي قديم/جديد بضرورة تفكيك التحالف بين دمشق وطهران، وكان الجواب السوري واضحاً بأن التحالف الإيراني السوري راسخ ولا يمكن التفريط فيه، وأن خيار دمشق هو الأكثر نجاعة، وعلى الدول العربية أن تحذو حذوه، وأن لاعودة الى تسوية بالطريقة المقترحة سعودياً، في ظل إنهيارات متسلسلة في خيار السلام بفعل التدابير الإسرائيلية التعسفية، وآخرها قرار ضم مسجد الخليل ومسجد بلال بن رباح للتراث الاسرائيلي.

في واقع الأمر، إن تسارع وتيرة القرارات الاسرائيلية (بناء المزيد من المستوطنات، وتواصل الحفريات بالقرب من المسجد الأٌصى، ضم الآثار الإسلامية الى التراث الإسرائيلي، واقتحام المسجد الأقصى في 5 مارس وغيرها، الاغتيالات والاجتياحات الجزئية في القطاع، ومصادرة الأراضي الفلسطينية، وهدم المنازل وغيرها)، تضع معسكر الاعتدال العربي وخصوصاً السعودية ومصر على محك المسؤولية التاريخية وأيضاً مشروعية التمثيل العربي، فيما يكتسب المعسكر الذي جسّدته قمة دمشق والتي جمعت الأسد ونجاد وحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية المزيد من المصداقية والمشروعية.

هنا يبدو التباين إلى حد التناقض بين الموقفين السعودي والسوري، ولهذا السبب يواصل بعض الصحافيين السعوديين الذين نذروا أنفسهم للمناجزة الإعلامية مع دمشق منذ 2005 توجيه انتقاداتهم للسياسة السورية. فليس هناك ما يستوجب الكف عن الحملة الدعائية ضد دمشق، طالما أنها لا تزال متمسّكة بمواقفها في القضايا الخلافية مع الرياض.

لسان حال المسؤولين السوريين أن لا شيء يدفعهم للتنازل عن مكاسب كبرى حصدوها من نضالات سابقة، فهم يدركون تماماً بأن البنية الاستراتيجية التي بحوزتهم حالت دون تعرّضهم لأخطار جديّة كانت محدقة بهم في السنوات السابقة، وكان للسعوديين دور رئيسي فيها. كما لا تريد دمشق التفريط في أوراق قوة بيدها سواء في لبنان أو فلسطين، وقد أثبتت مقاوماتها بأنها قادرة على تعزيز الدور السياسي السوري من خلال صمود هذه المقاومات في الميدان العسكري.

ما يجعل السعوديين عاجزين عن فعل أي شيء حيال تنامي الدور السوري، أن القيادة السورية تتذوق (لذة) منجزات سياسية في ملفات عدّة لبنانية وفلسطينية وتركية وأخيراً عراقية، وفوق ذلك نجاحها التام في كسر الحصار الدولي. في المقابل، خسرت السعودية أوراق عديدة، فلا هي تحوّلت الى دولة محورية في المنطقة رغم الإمكانيات المالية الهائلة التي توفّرت لديها بما يؤهّلها للعب دور محوري في ملفات إقليمية ساخنة، وحتى لبنان التي اعتقدت بأنها ربحته بعد فوز حليفها بالانتخابات البرلمانية لم تستطع أن تغيّر في حقائقه الراسخة وعلى رأسها نفوذ وقوة المعارضة، وسلاح حزب الله، بل إنها لم تنجح في إقناع زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بالبقاء في معسكر حلفائها، وصار اليوم أقرب للمعارضة منه للموالاة، ويتحيّن الفرصة تلو الأخرى لزيارة دمشق وتقديم اعتذار للرئيس بشار الأسد على توصيفاته اللاذعة لدمشق وقيادتها. ثمة من أفشى خبراً بأن الأميركيين عرضوا على دمشق العودة الى لبنان من أجل ضبط أوضاعه، خشية أن يتدهور الوضع اللبناني بما يؤثّر على الأمن الإسرائيلي، وفي الخبر أيضاً طلب السوريون بتبديل الجهاز الأمني اللبناني برمّته كشرط لقبول العرض.

ليس هناك، في المدى المنظور، ما يشير إلى عودة حقيقية للعلاقات السعودية السورية، وأن أية طلبات تستهدف تغيير المواقف الاستراتيجية لدى دمشق لن تزيد الجانبين إلا بعداً، وعلى الرياض أن تدرك بأن تغييراً جوهرياً حصل ليس في النظام الإقليمي بل بات يستوعب هذا التغيير النظام العالمي برمته، ونحن اليوم على مقربة من مشهد جديد سيغيّر وجه العالم، ولا ننسى التغييرات التي جلبها العراق للمنطقة ولا شك أن للسوريين نصيباً منها.

إن مجرد إجراء مشاريع استثمارية سعودية في سورية، وزيادة حجم التبادل التجاري (يصل الآن الى ملياري دولار) بما يعزّز العلاقات التجارية بين البلدين، لا يعني أن تطالب الرياض سورية سداد ثمن الاستثمارات مواقف سياسية، لأن السعوديين وخصوصاً الملك عبد الله قد سمع من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد بأن حين يتعلق الأمر بالمواقف السياسية لا نقبل الابتزاز.

الصفحة السابقة