ولكن.. بعد خراب البصرة!

تحوّل دراماتيكي في الموقف السعودي من العراق

محمد فلالي

إرهاصات تحول استراتيجي في الموقف السعودي من العراق تبدو واضحة هذه الأيام.

الملك يلتقي بالحكيم

ولكن.. بعد خراب البصرة!

في سابقة من نوعها، زار الرئيس العراقي جلال الطالباني الرياض بدعوة من الملك السعودي، وذلك في 11/4/2010، ليغادر في اليوم التالي بعد أن جلّله الملك بالتكريم والقلادة الذهبية، وليحلّ محلّه بالتتابع ضيفاً على الملك السعودي رئيس إقليم كردستان مسعود البارازاني يوم 12/4/2010، وليحظى هو الآخر بوسام الملك عبدالعزيز. وقال رئيس ديوان رئاسة إقليم كردستان فؤاد حسين، بأن الملك السعودي وجه دعوة للبارازاني، ليناقش (المستجدات الاخيرة في الوضع العراقي، فيما سيتوجه بعدها الى لبنان). وفي اليوم التالي 13/4/2010، وصل السيد عمّار الحكيم، رئيس المجلس العراقي الأعلى الى الرياض، على ذات الشاكلة في الداعي والدعوة وموضوعها. ومن المرجح أن يصل قادة عراقيون آخرون الى الرياض للتشاور حول تشكيلة الحكومة العراقية القادمة، من بينهم طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي.

مالذي تغيّر؟ فالسعودية لم تكن ترتاح الى الأكراد، لا قبل سقوط صدام حسين، ولا بعده. لم يزر قادة الأكراد السعودية، اللهم إلا الطالباني عام 2005 للتعزية بوفاة الملك فهد! السعودية طالما أوضحت تصريحاً أو تلميحاً أنها معنية بـ (السنّة) العراقيين، ولكن ليس كل السنّة بالطبع، بل العرب منهم، ما يعني أن نظرتها الى الموضوع العراقي، ليست طائفية فحسب، بل وعنصريّة أيضاً، وهي في هذا تكاد تتطابق مع صدام حسين في رؤيته للمكونين العراقيين الشيعي والكردي.

والسعودية أعلنت مراراً وبصراحة ـ اعتبرها بعض العراقيين (وقاحة) ـ خاصة على لسان وزير الخارجية السعودي، أن بلاده طلبت من أوباما أن يعيد حكم العراق الى سابق عهده، أي يضعه بيد الأقليّة السنيّة العربية (15% من السكان)، وأنها لن تقبل بالحكم في العراق إن كان على رأسه شيعة، بل أن الملك عبدالله ـ ولسذاجته المتناهية ـ قال لوفد عراقي رسمي يحوي سنّة وشيعة زار الرياض 2007، بأن بلاده وكما أنفقت أكثر من خمسين مليار دولار على إسقاط صدام حسين، فإنها مستعدة لأن تنفق أضعاف ذلك لإسقاط حكم الشيعة في العراق!!

والى الآن فإن السعودية من البلدان العربية القليلة التي لم ترسل سفيراً لها الى بغداد، رغم الإلحاح الأميركي، الذي يصل الى حدّ الضغط، ورغم الوعود المتكررة من سعود الفيصل بأن الرياض ستفتح سفارتها هناك وهي وعود امتدت على مساحة ثلاثة أعوام سابقة والى الآن. بل أن السعودية انخرطت في حملات إعلامية ضد الحكومة العراقية وضد رئيس الوزراء نوري المالكي، واصمة إياه بـ (صدّام الصغير)، لمجرد أنه تحدّث في مناسبتين مختلفتين عن العلاقات السعودية العراقية، الأولى في مارس 2009 حين قال بأن بلاده عملت ما في وسعها لتحسين العلاقات مع الرياض وانتقد الأخيرة بأنها لا تريد ذلك؛ فهاجمته السعودية وإعلامها، قائلة بأن المالكي يعلم ما تريده السعودية، واتهمته بالعمالة لإيران (وليس لأمريكا) مع أن المالكي اليوم غير مرغوب فيه لا إيرانياً ولا سورياً. والمناسبة الثانية كانت في يناير 2010، حين وصم الشيخ العريفي المرجع الديني السيستاني بأوصاف غير لائقة، فطلب المالكي في تصريح علني من السعودية أن تضبط مشايخها من إثارة الفتن الطائفية. هنا جاءت الحكومة السعودية بالمفتي السعودي ليرد عليه!

الملك يقلد البارازاني وشاح الملك عبدالعزيز!

إذن مالذي تغيّر، حتى يعيد سعود الفيصل تصريحه العجيب بأن السعودية تقف على مسافة واحدة بين كل الفرقاء العراقيين! وقد جاء التصريح قبيل زيارة الوفود العراقية المتتالية الى الرياض. قال الفيصل في مؤتمر صحافي في 10/4/2010: (نحن نقف مع كل عراقي، مع وحدة العراق واستقلاله وسيادته على أراضيه، ونقف على مسافة واحدة من جميع السياسيين العراقيين)؟ وما هذه الحماسة السعودية الجديدة، والتي قد تكون طارئة، باتجاه الملف العراقي؟

هناك عدّة ملاحظات حول تحوّل الموقف السعودي تجاه العراق:

أولاً ـ أن السعودية شعرت باليأس من تغيير الوضع العراقي الداخلي حسب ما تبتغيه. لقد استخدمت كلّ أوراقها ضد العملية السياسية التي تنتج بشكل طبيعي حكماً أكثرياً، للشيعة العرب فيه الكلمة الأساس. السعودية لم ترد أن يكون على حدودها حكماً ديمقراطياً، فكيف به إن كان حكماً ديمقراطياً للمكوّن الشيعي والكردي فيه الكلمة الفصل؟ لقد استخدمت السعودية وسائلها المتعددة السياسية والتخريبية والتشويهية الإعلامية والحرب الطائفية لتحقيق غايتها، ولا بدّ أنها وصلت الى نتيجة سبق غيرها من حلفائها من حزب الإعتدال العربي أن وصلوا اليها، كما هو الحال مع مصر التي زارها ابو الغيط في تشرين الأول 2008 وأعاد السفير المصري الى هناك.

المدى الذي ذهبت اليه السعودية جعلها وحيدة في موقفها في الساحة العربية، اللهم إلا قطر، فهي الأخرى لم تفتح سفارتها في بغداد، ولم تفك الحصار الإعلامي والسياسي عنه. وما عسى السعودية أن تفعل أكثر مما فعلت؟ لم تتوقف العملية السياسية، ولم تتغير المعادلة في مراكز القوى، ولم يضعف الحكم في بغداد، كما لم يخسر منافسو السعودية في دمشق وطهران واستانبول شيئاً، بل تعززت مواقعهم، كما تعززت مصالحهم الإقتصادية.

ثانياً ـ إن السعودية التي قطعت علاقاتها السياسية مع كل القوى الشيعية، اللهم إلا مع أجنحة العنف، وبعض القوى السنيّة العربية الضعيفة، وجدت في اياد علاوي بديلاً. ولكن هذا الأخير، رغم نجاحه في الإنتخابات الأخيرة، فإنه مجرد لاعب بين أربعة لاعبين كبار على الأقل. فهو لم يحصل إلاّ على 28% من مقاعد البرلمان، في حين حصل الإئتلافين الشيعيين (دولة القانون، والوطني) على ما يقرب من نصف مقاعد البرلمان، وهذا أكبر مما حصلا عليه متوحدين في الإنتخابات البرلمانية الماضية. لكن السعودية، ربما وجدت أن فوز علاّوي، والإنتخابات الأخيرة بشكل عام، يمثّلان فرصة مناسبة لها للقيام بـ (تكويع) سياسي يحفظ لها ماء الوجه، بدل أن تبقى متفرجة معارضة غير مؤثرة في بلد لها معه ثاني أطول حدود بريّة (813 كيلومتراً) بعد اليمن (1326 كيلومتراً).

ثالثاً ـ كل المراقبين السياسيين يعتقدون بأن الإنتخابات العراقية الأخيرة هي انتخابات مفصلية. فمن جهة، هي انتخابات ديمقراطية شفّافة ـ بعيداً عن مهاترات السياسيين العراقيين. ومن جهة ثانية، فإن السنّة الذين لم يشاركوا بكثافة في الإنتخابات السابقة، عادوا ودخلوا اللعبة متأخرين، وشاركوا بجميع فصائلهم السياسية القومية والدينية والطائفية وحتى البعثية منها. لم يتبق إلا أجنحة العنف التي تؤمن بتغيير المعادلة والإستيلاء على السلطة بالقوة (أحد أجنحة البعث المقيم في سوريا، وهيئة علماء المسلمين التي خسرت معظم نفوذها في الداخل العراقي). وعليه لم تتبق ذرائع كثيرة للسعوديين، الذين يتهمون السلطة العراقية القائمة بأنها لا تمثل كل الشرائح العراقية، أو أنها أقصت الآخرين عن المشاركة السياسية كما المشاركة في الحكم: البرلمان والوزارة.

وللرئيس طالباني قلادة الملك عبدالعزيز الذهبية!

رابعاً ـ إن الدوافع الطائفية المتحكّمة في السياسة الخارجية السعودية، والرهان عليها لتغيير الوضع العراقي، باءت بالفشل. ولكن الوضع الداخلي في محيط السلطة (النجدي/ الوهابي) ما كان ليقبل إقامة علاقات طبيعية مع العراق. فالوهابيون يتحمّلون إقامة علاقات سعودية مع اسرائيل، بل وعلاقات حماية وعمالة مع أميركا، ولكنهم لا يتحمّلون إقامة علاقات طبيعية مع بغداد أو حتى طهران، على قاعدة أن الحكام من مذهب مختلف. ومع أن الحكومة السعودية لا تعير بالاً كثيراً لموقف الوهابية والوهابيين فيما لو قررت إقامة علاقات مع بغداد، إلا أن وضع الوهابية ورجالها اليوم بائس الى أبعد الحدود، حيث وصلت شعبية المؤسسة الدينية الرسمية في محيطها النجدي فضلاً عن السعودي العام الى أدنى حالاتها، بما انعكس سلباً حتى على الموقف من الدين الإسلامي نفسه، وعلى تصاعد التحلّل الأخلاقي الذي لم تشهد له البلاد مثيلاً من قبل. وضع المؤسسة الدينية وموقعية الدين ـ بنسخته الوهابية ـ المتضائل في الدولة والمجتمع، فضلاً عن الفشل في الخيار الطائفي على المستوى العربي، يفتح للسعودية الباب للتراجع في سياساتها العراقية في أجواء مؤاتية.

خامساً ـ وهو الأهم بنظرنا، إن العراق كدولة ومجتمع صعب المراس، شديد الإعتداد باستقلاليته، ويتوقع من الحكم القادم ممارسات أكثر استقلالية عن دول الجوار جميعاً، كما عن أميركا نفسها. كما يتوقع أن يكون أكثر صلابة وصرامة في علاقاته الخارجية. نقول هذا، في الوقت الذي تسحب فيه القوات الأميركية تدريجياً من هناك، ما يعني أن الإنتخابات الأخيرة في العراق تؤسس لوضع دائم، يكتمل معه شكل الحكم وسياساته. وهذا يعني بالتحديد، أن السعودية التي اعتادت التعاطي مع الحكم في العراق باستهانة وسخرية واعتداد بالذات، والأكثر من هذا، تتعاطى معه عبر البوابة الأميركية الحاكمة هناك.. هذا الوضع سينتهي في منتصف العام القادم، وبالتالي فعلى السعودية تدبير سياساتها مع الحكم العراقي بشكل مباشر. وهنا تكمن العقدة السعودية؛ فهل ستبقى على عدائها المباشر، وعلى سياساتها القديمة التي فشلت في حصار العراق سياسياً وطائفياً وحتى إقتصادياً. وهل تستطيع السعودية ـ في ظل الفشل الأميركي في المنطقة ـ مواجهة عواقب توتير الوضع مع العراقيين.

السعودية تعلم أن الحكم في العراق لازال مقيّداً بالضغوط الأميركية، وإن كانت تلك القيود آخذة بالتكسّر لصالح القوى الإقليمية الثلاث الأساسية: دمشق وطهران واستانبول. تلك القيود جعلت العراق صامتاً طيلة السنوات الماضية عن سياسات السعودية وإرسالها لفرق الوهابية التفجيرية والتكفيرية، والمال لأجنحة العنف بما فيها القاعدة التي قتلت آلاف المدنيين. وكان على الحكم في العراق ـ كما قال مسؤولوه ـ أن يصمتوا، وفقاً للإرادة الأميركية، وأن لا يفتحوا معركة مع الرياض ـ حليفة الأميركيين. لكن حين تخرج القوات الأميركية، تتقلص مساحة الضغط، ويقف النظام في بغداد على قدميه كما فعل في السنوات الثلاث الماضية، وبصورة متسارعة، وهذا سيجعل نظام بغداد أكثر تجاوباً مع جمهوره الكاره للسعودية ووهابيها التكفيريين، من جهة التعامل معها بالحزم اللازم، وإن أدّى الى تصعيد سياسي.

لهذا، فالسعودية تسارع اليوم، ومن موقع الأضعف، الى ترقيع علاقاتها مع ذات الوجوه التي كرهتها وحاربتها، ومع ذات النظام الذي عملت على إسقاطه من الداخل بالعنف والتآمر السياسي.

ليس أمام السعودية من حلّ سوى هذا؛ أن تعيد القنوات التي قطعتها، وأن تغيّر من خطابها السياسي، وأن تقلّص التكثيف الطائفي في تصريحات مسؤوليها، بل وتصريحات مشايخها الوهابيين.

ليس العراق هو من يحتاج السعودية اليوم. فهو أقدر على فرض علاقة متكافئة معها إن أراد.

الصفحة السابقة