ما لا يراه الأجنبي في مملكة آل سعود

عبد الوهاب فقي

مشكلة المراقبين الأجانب الذين يزورون السعودية هذه الأيام أنهم يقعون ضحية التغييرات الشكلية التي شهدتها البلاد، خصوصاً إذا ما قورنت تلك التغييرات بأوضاع سابقة كانت سائدة خلال عقود مضت. ولكن حقيقة الأمر، أن السعودية التي يراد تسويقها في الخارج أو للخارج هي ليست كما هي في الداخل، أي كما يراها السكّان المحليون الأصليون أو القاطنون لأسباب إقتصادية بدرجة أساسية.

ما ينقله المراقبون الأجانب يدور في الغالب حول ما يمكن وصفه بـ (لبرلة إجتماعية)، كما يظهر في تغييرات طرأت على بعض العادات الاجتماعية (اللباس)، أو دور المرأة (من ناحية اجتماعية واقتصادية)، ولكن حين ننتقل الى المجال الأشد حساسية المتعلّق بالليبرالية السياسية، فإن المراقبين يعودون خالي الوفاض..فمازال شكل النظام الملكي الشمولي هو نفسه، ومازالت الهياكل السياسية المتخشّبة القديمة على حالها، ومازال مجلس الشورى المعيّن لم يتجاوز دوره الهامشي في تقديم رأي حول موضوعات جزئية، ومازال موضوع الاصلاح السياسي محظوراً في الإعلام والصحافة..ومازالت المرأة غائبة عن مجالس الشورى والمناطق والبلديات..وعن قيادة السيارة أيضاً.

مازالت مزاولة الحريات السياسية: حرية التعبير، وحرية التجمّع، وحرية العمل السياسي، مبررات كافية لدى الأجهزة الأمنية السعودية للاعتقال والتعذيب والمنع من السفر والفصل من الوظيفة وحظر النشاط الإعلامي..فلا يزال هناك عدد من الإصلاحيين داخل سجون آل سعود، وقد نالهم الحيف بسبب آراء سياسية إعتنقوها وعبّروا عنها.

قد يبدو مستغرباً إلى حد كبير أن يصاب مراقب قادم من دولة بلغت فيها الليبرالية ذروتها بصدمة التغييرات الشكلية في مملكة آل سعود، مالم يكن في الأمر سرٌ لا ندركه، أو ما لم يكن قد خضع تحت تأثير التضليل الكثيف الذي يجعل من تغييرات إجتماعية هي الصورة البارزة التي يراد نقلها للخارج، خصوصاً وأن الصورة النمطية التي استحوذت على الرأي العام الغربي بدرجة أساسية أن مملكة آل سعود هي صحراء يقطنها مجموعة من المتحجّرين المتشدّدين الغارقين في عادات إجتماعية بعيدة عن روح العصر، وأن الحضارة عصيّة على الوصول الى هذه المملكة، وخصوصاً إلى المناطق الوسطى منها..

تلك هي الصورة النمطية التي مازالت سائدة لدى كثير من المجتمعات الغربية، ولدى أيضاً مراقبين قبل زيارتهم الى المملكة خلال هذا العقد.. بعضهم كان يرى بأن التمدين قد بدأ يكسو الصحراء منذ سنوات، ولكن عدد من المراقبين بدأوا يتحدثون عن متغيرات في المجتمع.

لنقف هنا عند المقال الذي نشرته صحيفة (نيويورك تايمز) في 16 مارس الماضي لرئيس مجموعة يوروآسيا، وهي مجموعة استشارية للأخطار السياسية، ومؤلف كتاب (منحنى حرف جيه: طريق جديد لفهم لماذا تنشأ الأمم وتسقط) إيان بريمر بعنوان (مملكة تتغير ببطء) جاء فيه:

حين تغفو في رحلة الى السعودية، فإنك تصحو لتجد أن النساء السعوديات اللاتي كنّ يرتدين ملابسهن الغربية خلال المغادرة قد استبدلوها بملابس تقليدية استعداداً للهبوط. ولكن ذلك، كما وجدت في زيارة أخيرة، لا يخبر بحال القصة كاملة.

قبل زيارتي الأخيرة، طلبت من الحكومة المضيفة ترتيب لقاء مع سيدات أعمال سعوديّات. وقد دهشت بسرور بالمصادقة على طلبي على نحو عاجل. بل كنت مأسوراً باللقاء نفسه.

ما أدهشني لم يكن الوضوح، والذكاء، والحماسة التي تحدّثت بها سيدات الأعمال السعوديات، فقد شهدت ذلك من قبل. ولكن الدهشة كانت هي كيف يتبادلن بسهولة وبطريقة غير رسمية وجهات النظر المثيرة في مكان عام في قلب الرياض.

سألت سيدة أعمال سعودية شابّة عن وجهات نظرها حول مناخ التجارة في البلاد. وشأن أغلب المجموعة، بدت مرتاحة في محادثة من شخص لآخر مع رجل لم أشهده من قبل في المملكة.

تطور سعودي: المرأة تشجع فريق كرة القدم!

وكشفت تعليقاتها عن آراء صلبة حول المعايير الإحترافية والحس العابث بالمرح. من بين أشياء أخرى، تؤكّد بثقة على أنها كانت مرتاحة أكثر من أي وقت مضى في ارتداء الفستان الرسمي لأنها ترتدي الآن بنطالاً أسفل منه.

في واقع الأمر، هناك الكثير يجري تحت السطح في المجتمع السعودية. فمازال الملك عبد الله يدير بلداً محافظاً بعمق. ولكنّ كلا من المجتمع السعودي واقتصاد المملكة يكشفان عن تحوّلات دراماتيكية في السنوات الأربع ونصف الماضية منذ تسلّمه السلطة بصورة رسمية.

ما يلفت هنا أن هناك تغييراً جيلياً جوهرياً في العادات الاجتماعات والمسالك الإقتصادية التي تفصل السعوديين الشباب عن عوائلهم.

دلالات فجوة الأجيال الناشئة تتقاطع مع جوانب عديدة من المجتمع السعودي. وقد رأيت اختلاطاً عاماً بصورة كبيرة بين الشباب في هذه الزيارة بدرجة أكبر وضوحاً قبل زيارتي قبل سنتين، وسمعت أسئلة أكثر منهم حول المعايير الإجتماعية بالنسبة للدول الأخرى (خصوصاً في الأنظمة الأكثر ليبرالية في الخليج).

النظرات إزاء الزواج قد تبدّلت هي الأخرى. في الماضي، العرسان في الزيجات المعدّة غالباً مايلتقوا لأول مرة في اليوم الذي يصبحوا فيه مخطوبين. ثم يعقب ذلك الزفاف على نحو عاجل. أما اليوم، فإن الأزواج الحضريين يلتقون عدّة مرات ـ بحضور العائلة، للتأكد ـ قبل الموافقة على الخطبة، ويكون لديهم مواعيد لقاء غير مقترنة بحضور العائلة قبل الزفاف.

ولكن إنها الفرص التعليمية المتمدّدة بالنسبة لأولئك الشابات الطموحات التي قد تخلق الاختلاف الأكبر. في سبتمبر 2009، فتحت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا أبوابها، بما يسمح للرجال والنساء السعوديين الحضور معاً لأول مرة. ولم يسمح للشرطة الدينية بالتواجد في المجمع. ويسمح للنساء الآن بقيادة السيارة. بالنسبة لغربي، فإن هذه الإصلاحات تبدو قديمة ورجعية. وبالنسبة للسعودية، فإنها تعتبر لافتة.

تحضر النساء الآن الجامعات السعودية بأعداد كبيرة، رغم أن بنات النخبة من المحتمل جداً أن يدرسن في الخارج. وهناك جهد حكومي مكثّف لتحديد تناقص العمال من خلال إدخال المزيد من النساء في قوة العمل ـ وليس فحسب في الأدوار التقليدية كمعلّمات أو ممرضات. ففي هذا العام، سيتخرّج من مدارس القانون السعودية أول دفعة كبيرة من النساء. وهناك عدد مدهش من الشركات التشغيلية السعودية التي تأسست من قبل سيدات أعمال سعوديات قد بدأت بالعمل.

حياة الرجال تتغير هي الأخرى. فالمجتمع السعودي قد غذّى لفترة طويلة إحساساً غير مدعوم من الأهلية، والذي يصم الرجال السعوديين الذين يقبلون بعمل مقترن بوضعية إجتماعية متدنية. فالعمل الحقير كان من نصيب المهاجرين من جنوب آسيا أو زوايا العالم العربي الأقل ثراءً. ولكن بمرور الوقت، خلق ذلك تناقضاً بين الإنفجار السكاني للشباب السعودي وعدد الوظائف التي تدرّبوا على توليّها.

ولسنوات عديدة، فإن الحكومة قامت بتنفيذ أشكال عدّة من سعودة الإقتصاد. وهذه العملية، التي تستهدف خفض اعتماد المملكة على العمال الأجانب، أثبتت بأنها صراع شاق، خصوصاً في الرياض المحافظة جداً، حيث أن العوائل التي لا تملك مالاً كافياً غالباً ما تحصل على معدل أدنى قبل قبول رب البيت بعمل يشعر بأنه أدنى من مقامه. ولهذا السبب فإن ثمة صدمة أن تلحظ شباباً سعوديين يعملون هذه الأيام في مقاهي ستاربكس المحلية.

إصلاحات الملك عبد الله طالت الاعلام. فالمعارضة المباشرة للحكومة السعودية تبقى خارج الحدود، ولكن بات شائعاً بدرجة كبيرة أن تقرأ وتسمع انتقادات علنية للسياسات المحافظة في البلاد ـ بل وحتى لأعضاء محددين في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الشرطة الدينية للمملكة. مثل هذه التقارير لم تكن لتظهر في الصحف السعودية الأكثر ليبرالية دون مباركة الحكومة.

لايزال هناك أشخاص وجماعات نافذة تعارض بصورة كبيرة كل أشكال اللبرلة. ويبقى السعوديون يعتمدون بدرجة عميقة على البترودولار والعمالة الأجنبية. ولكن من المفيد ملاحظة أن التكنولوجيا والتدريب الإدراي هما من بين الصناعات النامية الأسرع في البلاد. وستواجه الدولة أوقاتاً صعبة لعودة عقارب الساعة للوراء عن هذا الإتجاه ـ ولايبدو أنها تريد ذلك.

ولا تندهش إذا ما ذُكر الملك عبد الله يوماً ما بأنه الرجل الذي جلب بدايات التغيير الحقيقي في المكان الذي هو بحاجة ماسّة إليه. ولا تندهش إذا كانت السيدات السعوديات يصنعن أكثر الفرص الجديدة. (إنتهت المقالة).

حين نعيد قراءة المقالة سنجد واضحاً أن الكاتب لم يتحدث عن تغييرات سياسية، بل هي تغييرات إجتماعية اقتصرت تظهيراتها على المرأة وماطرأ على أوضاعها (اللبس، الدور، التطلعات) من تغييرات. ورغم ذلك، فإن الكاتب أهمل لأسباب غير مفهومة البعد السياسي في موضوع التغييرات الحاصلة في أوضاع المرأة. أن تطالب المرأة بدور، فإن الأمر لم يعد مقتصراً على نشاطات اقتصادية هنا أو هناك أو مشاركة احتفالية في بلدان غربية، وكأنها جزء من ديكور سياسي.

المشكلة أن الدولة ليست قادرة حتى الآن على هضم أن تشارك المرأة في عضوية مجلس الشورى أو مجلسي المناطق والبلديات، ولذلك مازال الحديث يتراوح بين مشروعية مشاركة المرأة وعدم مشاركتها دينياً وسياسياً. ليس علماء الدين المتشدّدين وحدهم من عارض بعنف فكرة الإختلاط، سواء في التعليم أو العمل أو في أي مكان آخر، كما ليسوا وحدهم من عارض مشاركة المرأة السياسية. فقد سبق الأمير نايف وزير الداخلية و حين لعب على وتر العاطفة الدينية والقبلية، وقدّم عبارات تنطوي على إهانة وتحقير لكل من يسمح لزوجته أو أخته بأن تعمل سكرتيرة أو موظفة شركة، ووضع ذلك في إطار الكرامة والغيرة، كما رفض في وقت سابق فكرة مشاركة المرأة في مجلس الشورى واعتبر ذلك غير مطروح ولا حاجة إليه، كما دافع عن تحريم قيادة المرأة للسيارة واعتبره حكم الشرع.

هذه الصورة المتضاربة ليست حاضرة لدى المراقبين أو المراسلين الأجانب الذين يقعون تحت سطوة الصورة الجديدة التي لم يألفوا رؤيتها أو توقّعوا صورة أخرى سمعوا عنها أو شهدوها، وإذا بهم يرون ستاربكس ملتقى إجتماعياً عاماً، وإذا بهم يجرون أحاديث مع سيدات أعمال في مؤتمرات اقتصادية إقليمية ودولية، أو يتحدّثون مع نساء غير منقّبات وربما يتقنّ اللغة الإنجليزية وباللهجة الأميركية..

هذه الصورة التي أراد تسويقها آل سعود، وليس غياب المشاركة السياسية، والتمثيل المتكافىء لكل القوى الاجتماعية والفئات السياسية، ولا النظام القضائي الفاسد، ولا الجهاز البيروقراطي المتعفّن، ولا السرقات الفلكية في الصفقات العسكرية، ولا الخدمات الصحية الرديئة للغاية، إلى جانب قائمة من الفجائع التي تختفي من الصورة الجديدة التي تسرق أنظار القادمين من الخارج.

الصفحة السابقة