الأوروبيون قادمون إلى الرياض

عبد الله (العظيم!).. لإنقاذ اليورو

يحي مفتي

تحوّل الملك عبد الله الى ما يشبه (حلاّل مشاكل) العالم، فكل أزمة تضرب أياً من دول العالم أو حتى قاراته، كانت الأنظار والأيدي تمتد الى آل سعود الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها على مواطنيهم، بل هم على استعداد لإظهار سخاء منقطع النظير لتقديم ما يلزم لحل أزمات مالية تعيشها تارة الولايات المتحدة، وأخرى الإتحاد الأوروبي، بل هناك في العائلة المالكة من يترصّد الأزمات في كل إتجاهات الريح في العالم من أجل الدخول كقوة مالية إنقاذية لمعالجة مشاكلها..ليس من منطلق إنساني تفعل ذلك، ولا شأن لها بكل القضايا الإنسانية، ولو كان كذلك فالأقربون أولى بالمعروف، فلم نسمع أن هبّ فريق الإسعاف المالي السعودي لنصرة سكّان قطاع غزّة، على سبيل المثال، وهم تحت حصار ظالم وغاشم تشارك فيه الدول الكبرى التي تحظى بمساعدة آل سعود، بل لم نسمع عن خطّة إنقاذية لإقتصاديات عربية وإسلامية تعيش أوضاعاً مزرية مثل اليمن والسودان وباكستان وغيرها.

وعلى الطريقة البدويّة (شيّم له وخذ عباته)، فقد انهمرت الأوسمة على الملك عبد الله من كل قارات العالم، فأوباما يصفه بالحكمة في أول زيارة له الى المملكة والشرق الأوسط عموماً بعد توليّه إدارة البيت الأبيض، وميركل تصفه بالقائد العظيم، بعد أن تراقصت عملة الإتحاد الأوروبي (اليورو) ألماً أمام الدولار، إلى جانب نعوت أخرى نسمع عنها كثيراً ولا أثر لها على الأرض من قبيل ملك الإنسانية، وفارس العرب، رغم أنه لم يغزُ ولم يحدّث نفسه بغزو!!

محلياً، توقّف الناس عن إطلاق النعوت باستثناء قلّة تأمل في أن تحصد (شرهة) من جولات النفاق التي فقدت مفعولها، فلغة الأرقام الصادمة لا تدع مجالاً لتصديق أي نعت مهما بلغ مستوى التزلّف فيه، فقد تبخّرت آمال الناس في الوقت الذي لحس فيه الملك وعوده السابقة بمعالجة ملفات: البطالة، والسكن، والخدمات، والفقر، والفساد.

ولهذا السبب، يرمق الناس في الداخل ما يقوم به الملك من إفاضات سخيّة على دول العالم القريبة والبعيدة بقدر كبير من الغضب والتهكّم، وأن تلك الصورة التي يراد تسويقها عن الملك عبد الله تحترق بنار الفضائح المالية والسياسية. فبينما تزداد مداخيل الدولة من بيع البترول يزداد السكّان المحليين فقراً (8 مليون إنسان تحت خط الفقر كما أعلن عن ذلك عضو في مجلس الشورى)، ويزداد الفساد الذي وعد الملك بإعلان حرب ضروس عليه (3 تريليون ريال هو حجم الفساد)، وترتفع معدّلات البطالة (هناك 3.2 مليون مواطن يبحث عن وظيفة)، أما سرقة المال العام، وسرقة الأراضي الخاصة والعامة، وتعطيل المشاريع التنموية، فتلك ملفات لا نكاد نرصد درجة فداحتها، كونها تقع على مدار الساعة..

المال العام يتم توظيفه حالياً في مجالين لا ثالث لهما: زيادة أحجام الثروة لدى الملك والأمراء الكبار، واستثمار قسم كبير من الثروة الوطنية في تعزيز التحالفات الخارجية، أو الاستثمارات الخاصة للأمراء، وإفساد النخب السياسية والإعلامية والتعليمية والثقافية في أوروبا والولايات المتحدة، وتمويل قوى سياسية حليفة في بلاد العرب. أما الداخل فلا نصيب له الا فتات الموائد التي لا يمكن بحال أن تعين على معالجة واحدة من المشكلات المزمنة في البلاد، سواء في الخدمات العامة (التي فضحتها سيول جدة والرياض والدمام وباقي المناطق)، أو التعليم (حيث لا يزال 70 بالمئة من المدارس الحكومية عبارة عن بيوت مستأجرة)، أو الصحة (حيث تمثّل مستشفيات الدولة مراكز تأهيل للموت)، أو البطالة (حيث يصل معدّلها الى ما يقرب من 20 بالمئة، رغم ما قيل عن أن عدد العاطلين لا يتجاوز نصف مليون عاطل عن العمل).

عودٌ على بدء، فإن زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الى جدة على ساحل البحر الأحمر في 26 مايو الماضي، ولقائها بالملك عبد الله لم تكن لأغراض سياسية، وأن ما قالته عن شعور الملك بخيبة أمل لغياب التقدّم في عملية السلام ليس سوى الساتر للقضية المركزية التي جاءت ميركل من أجلها. فالقضية إقتصادية بدرجة أساسية، وكل ما يأتي بعد ذلك من قضايا تناولتها المستشارة الألمانية في حديثها للصحافة هي ثانوية، بما في ذلك حديثها عن حقوق المرأة التي لم تأت بجديد فيها حين قالت بأن هذه (الحقوق آتية وإن ببطء) وأن (الخطوات الصحيحة انطلقت هنا)، ماهو الجديد في الأمر، بل ماهو الجديد في موقف ألمانيا الديمقراطية.

ميركل في جدة بحثاً عن المال السعودي

ميركل التي حملت معها ملفاً ضخماً حول العلاقات التجارية الالمانية السعودية جاءت برسالة واضحة: أن منطقة اليورو تشهد أوضاعاً حرجة ولابد للسعودية التي تقيم أقوى علاقة تجارية مع المانيا مقارنة مع باقي دول الإتحاد الأوروبي أن تساهم في معالجة هذه المشكلة لما تنطوي على تداعيات اقتصادية على الاستثمارات السعودية (الخاصة بطبيعة الحال) في ألمانيا.

ميركل ترى الحل لمشكلة اليورو في تحقيق توازن من نوع ما في الميزان التجاري، فهي لا تريد شراء منتجات سعودية، ولكن تريد المال السعودي كيما يسند الشركات الألمانية التي تعيش أوضاعاً صعبة بسبب الأزمة المالية العالمية وانهيار سعرف صرف اليورو، بل ولا مانع من دخول المال لإنشاء مشاريع استثمارية في ألمانيا، تماما كما تريد الولايات المتحدة التي استوعبت تريليون ريال سعودي (250 مليار دولار أميركي) في دورتها الرأسمالية. بكلمات واضحة لا لبس فيها قالت ميركل (نحن في أوروبا سنقوم بدعم الشركات السعودية التي تودّ إقامة شراكات ومشاريع مع الشركات الألمانية، وندعم ذلك بتقديم التقنية اللازمة، وهو ما يوفّر الركيزة اللازمة من أجل جودة وتقدم الاقتصاد، وسيشجّع العلاقات ويساعد في تنميتها، وسيحلّ مشكلة عدم التوازن. إننا لسنا مستوردين فقط، وهناك بالطبع الكثير الذي يمكن أن نقوم به في هذا الصدد). إشارات واضحة تطلقها ميركل، فهي تريد القول بأن ألمانيا ليست بحاجة للبضائع السعودية، وإنما هي بحاجة للمال السعودي الذي يمكن تلطيف مهمته بعقد شراكات مع شركات ألمانية، على أن تقام المشاريع المشتركة داخل الأراضي الألمانية، وستقوم الحكومة الألمانية بتوفير الدعم التقني. زيارة الأمير سلمان، أمير الرياض، الى برلين في 30 مايو ولقائه بوزير التجارة الألماني جاءت في السياق الذي تحدّثت عنه ميركل. وللمرء تخيّل كم هي علاقات تجارية خاصة بين الأمراء والحكومة الألمانية، وإلا ما دخل أمير منطقة في قضايا تجارية بين الدول والحكومات.

ألمانيا تحتل صدارة الدول الأوروبية التي تقيم علاقات تجارية مع السعودية، وتطمح لأن تقود مسيرة تصحيح وضع العملة الأوروبية (اليورو)، ولذلك تطمح لأن يكون لها قدم سبق في المشاريع الاستثمارية مع السعودية في ظل تزايد معدّلات النمو الرأسمالي. ألمانيا تريد الدخول الى السوق المحلية كمستثمر في مجال السكك الحديد والطاقة المتجدّدة، ومجالات أخرى تتميّز بها ألمانيا عن غيرها من دول أوروبا، وكل ذلك من أجل توفيّر غطاء مالي لمنطقة اليورو، باعتبار أن ألمانيا هي خامس أقوى اقتصاد في العالم خلال العقد الأول من القرن الحالي، وهي في الوقت نفسه أكبر إقتصاد في الإتحاد الأوروبي، والأكبر أوروبياً في مجال الصادرات الى الأسواق العالم، وبالتالي فهي المعنيّة الأكبر بالحفاظ على متانة العملة الأوروبية، لأنها المستفيد الأكبر والمتضرر الأكبر من قوة وضعف اليورو. كلمة ميركل أمام غرفة تجارة جدة في 26 مايو كانت شديدة الوضوح، حين شدّدت على أن المطلوب من الحكومة السعودية ورجال الأعمال المحليين (الإصطفاف خلف الدول الأقوى وليس الدول الأضعف)، مذكّرة إياهم بأن القلق على (اليورو) يجب أن يدفعهم الى (دعم التجارة البينية). ولذلك أطلقت ميركل وعوداً بإزالة العوائق القانونية والتجارية التي تحول دون زيادة حجم الاستثمارات التجارية، عبر تجنّب (الإزدواج الضريبي، وحل المشكلات التي تواجه الحصول على التأشيرة)، في المقابل طالبت رجال الأعمال المحليين بضرورة القضاء على البيروقراطية وقالت (أود أن ألفت نظركم إلى أنه عليكم أن تقوموا بتسهيل البيروقراطية).

نشير هنا الى أن حجم التبادل التجاري بين ألمانيا والسعودية تزايد خلال العقد الأخير، فقد إرتفعت قيمة التبادل التجاري بين البلدين من 12.14 مليار ريال في العام 2002 إلى 37.6 مليار ريال في العام 2008، ويتوقّع ارتفاع قيمة التبادل التجاري البيني هذا العام الى أكثر من 50 مليار ريال.

يفسّر الدكتور جون اسفيكياناكيس، مدير عام وكبير الاقتصاديين في البنك السعودي الفرنسي أهمية الشراكة التجارية الألمانية السعودية، ويؤكّد على أن ألمانيا هي أكبر شريك تجاري للسعودية في الشرق الأوسط من بين دول الاتحاد الأوروبي. وأوضح اسفيكياناكيس في تصريح لصحيفة "الرياض" نشر في 2 يونيو الجاري أن ألمانيا تلعب دوراً مميزاً وكبيراً جداً في دول الاتحاد الأوروبي، وقد وصلت قيمة الصادرات الألمانية للسعودية نحو 28 مليار ريال سعودي، حيث تعتبر السعودية ثالث أكبر مصدر لألمانيا بعد أمريكا والصين، وتعتبر ألمانيا من أفضل الدول من الناحية التعليمية، ولديها أفضل المناهج الدراسية والطريقة التعليمية.

وأشار إلى أن ألمانيا تلعب دوراً مهماً في توثيق العلاقات بين السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، وبالنسبة للصادرات الألمانية، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تمثّل سوقاً مهماً بلغت 67 مليار ريال سعودي في عام 2009، وبلغت قيمة صادرات الإتحاد الأوروبي إلى دول مجلس التعاون الخليجي 288.5 مليار ريال سعودي. وأكد على ضرورة أن تلعب ألمانيا دوراً فعّالاً في إحراز تقدم نهائي ودائم وتقنع باقي دول الإتحاد الأوروبي في توقيع الاتفاقية للتجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي. وتمّ نقاش هذه الاتفاقية لمدة 23 عام، وقد حان الوقت لتوقيع مثل هذه الاتفاقيات، والكرة الآن في ملعب ألمانيا لإقناع دول اتحاد الأوروبي.

وذكر اسفيكياناكيس أن العلاقة السعودية الألمانية علاقة قديمة ورسمية منذ عام 1926، وتعززت بشكل أكبر بعد توقيع معاهدة نجد في عام 1929، وقبل إقامة الدولة السعودية الحديثة، وتعيين قنصل عام بعدها بسنتين. ولكن ما لم يذكره الخبير الاقتصادي، أن ألمانيا وقفت أيضاً إلى جانب تركيا في مقابل القوى الاستعمارية الأوروبية آنذاك الممثلة في بريطانيا العظمى وفرنسا، ولم تكن ترغب في معادلة تكون فيها الغلبة لخصومها (الحلفاء).

على أية حال، فإن معادلات الحرب قد تبدّلت، وأصبحنا أمام (محاور) جديدة و(حلفاء) جدد، وأن المال السعودي يمثّل الآن محوراً بذاته، تدور حوله دول تطمع في حل مشكلاتها الإقتصادية أو زيادة معدلات دورتها الرأسمالية. هناك عائدات مالية ضخمة، وهناك أيضاً من ليس لديهم مانع في تحمّل أعباء استلامها على هيئة نقد (كاش)، أو مشاريع تجارية، أو حتى استثمارات خاصة.

سخاء أحمق، ربما، ولكنه سخاء مطرّز بشوفينية مكتومة، فالأموال تنفق في الخارج لاعتقاد الأمراء بأنها حق لهم ورثوه من آبائهم وأجدادهم ولا حجّة للناس عليهم، الذي يتعاملون معهم باعتبارهم من عرق أدنى. لا أحد يسأل عن تلك الأموال، إلى أين تذهب، وكيف ستبقى، ومتى ستعود، وإن سألوا كان مصير السائلين إما الحبس، أو التخوين، أو الصمت المختوم بالتهويل، ولذلك سيبقى الملك عظيماً حتى ينقذ اليورو وأزمات العالم، وإن تحوّل المواطنون إلى عضام وتحوّلت العضام الى مكاحل.

الصفحة السابقة