الصيف ضيعت اللبن

الملك وحصاد جولته الغربية

خالد شبكشي

رغم الاعلان المبكّر عنها، فإن جولة الملك عبد الله الى أوروبا والولايات المتحدة شابها الكثير من التبدّل في مواقيتها ومواضيعها، حتى أنك لا تكاد تعرف إن كانت هذه الجولة ستتم بالفعل أم أن كلاماً آخر سيصدر عن الديوان الملكي لبيان ما سيجري لاحقاً. سؤال بدأ في مستهّل الجولة: ما هو دور الملك عبد الله في قمة العشرين في تورنتو بكندا في 26 يونيو الماضي؟ وتكرّ سبحة الأسئلة الأخرى: ماهي الأسباب وراء التبدّلات السريعة في جدول زيارات الملك عبد الله، في تفاصيله ومواعيده؟ ولماذا تمّ وبصورة مفاجئة إلغاء المؤتمر الصحافي المقرر انعقاده بعد زيارة الملك عبد الله إلى واشنطن، ولم يتحدّث أحد عن الأسباب وراء ذلك؟ في فرنسا، أعلن عن صفقة أسلحة جديدة سبقت وصول الملك عبد الله الى باريس ولقائه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ولكن الزيارة لم تتم في موعدها، فقد تأجّلت الى وقت لاحق، أي الى 12 تموز (يوليو)، ثم أعلن عن إلغاءها تماماً ولم يحدد موعد آخر لزيارة الملك.. لماذا؟

في الإجابة على السؤال الأول، يتساءل أحد المتابعين في موقع حواري على شبكة الإنترنت بتهّكم: مالذي يدفع ابو المتاعب (إشارة تكهمية على كنية الملك عبد الله أبو متعب) للذهاب الى قمة العشرين، وما شأننا وتلك القمة، فهي تتحدث عن الأزمة المالية، ومشكلة المصارف، وليست هذه من مشكلاتنا، فنحن نعاني من أزمات مثل: البطالة، أزمة سكن، شحّ الخدمات العامة، الفساد المالي الفلكي..مشكلتنا، حسب قوله، ليست في قلة المال بل في إدارته وتوظيفه. يقول آخر: إنها قمة الوجاهة، ومن المؤكّد أن حكومتنا ستتكفّل بنفقات المؤتمر كخطوة أولى ثم تتلوها خطوات أكبر. يعلّق آخر: (بلاوي العالم والمجموعة الشمسية ودرب التبانة الاقتصادية والاجتماعية كلها اجتمعت في السعودية: لا تأمين صحي مثل الاوادم والمستشفيات مسالخ! لا تأمين اجتماعي ومؤسسة التأمينات أكبر حرامي اجتماعي! بطالة متزايدة مع وجود فرص عمل كبيرة! لا توجد إعانة للعاطل عن العمل ولا يوجد حد أدنى للأجور!..صحاري واسعة تغطي مساحة 2270000 كم مربع تقريباً و متر الارض أعلى من قيمة متر الارض في أوروبا!، أكثر من ??? من الشعب لا يملك مسكناً خاصاً مع وجود وفرة في الأراضي تكفي ضعف عدد السكان!، مشاريع بسيطة تكلف عشرات الملياراات ثم تختفي دون أي أثر!، مطارات متهالكة، شركة كهرباء متآكلة، حماية مستهلك نايمة!، مدن تغرق في زخة مطر!) ثم يخلص للقول( كل بلاوي العالم في السعودية وتسأل عن نظرات أبو متعب؟).

الملك: مبادرتي قائمة!

حضور الملك عبد الله في قمة العشرين كان لافتاً لا لكون السعودية دخلت في قائمة الدول الصناعية، وأنجزت انتقالها الى مصاف الدول الرائدة في مجال التكنولوجيا الحديثة، ولكنها جاءت كمنقذ مالي دولي، ليس للحكومات فحسب بل حتى لشركات غارقة في ديونها، أو بنوك مفلسة، أو جامعات شحّت مواردها. ليس هناك من ينتظر حكمة من السعودية، ولا حتى موقف أخلاقي، وليس من بين قادة قمة العشرين من يتشوّق الى سماع خطبة عصماء من الملك عبد الله، فالضيافة غير العربية للرجل جاءت على خلفية وجود مال وفير لدى دولته يراد توظيفه لحل أزمات دول كبرى، من بينها الولايات المتحدة في مقابل تأمين الحماية للنظام.

زيارة الملك عبد الله بعد ذلك الى واشنطن ولقاءه بالرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، كان الملف الاقتصادي فيها حاضراً خصوصاً بعد الاتفاق على المحفظة الإستثمارية الفلكية التي بلغت تريليون ريال سعودي، أي نحو 280 مليار دولار، وهناك ملفات أخرى كانت حاضرة أيضاً، من بينها الملف الإيراني.

الجانب السعودي يشعر بأنه يخسر دوره الإقليمي، لحساب خصومه، بالرغم من توافر قوة مالية غير مسبوقة بيده ما تجعله قادراً على إدارة دفة السياسة الإقليمية بدون منازع أو مزاحم. ما يبعث على الشفقة ما جرى خلال انطلاق اسطول الحرية من تركيا لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة، حيث ظهرت السعودية في هيئة تبعث على الإزدراء، فقد بدت جرماً صغيراً أمام قامة الأتراك المتطاولة التي غطّت على المشهد الإقليمي. في ذلك الوقت، استعانت الحكومة السعودية بالرواية الباعثة على السخرية وهي مخططات (القاعدة) لاغتيال الأمراء.

على أية حال، من بين ملفات التباحث بين الملك عبد الله والرئيس الأميركي كان موضوع المبادرة السعودية المعرّبة للسلام التي طرحت في قمة بيروت 2002 وجرى تعديلها في مارس 2007 في قمة الرياض، فماذا جرى في واشنطن مؤخراً؟

ذكرت مصادر فلسطينية وعربية في واشنطن بأن إدارة أوباما والملك عبد الله ناقشا سبل الخروج من انسداد أفق التفاوض بين الكيان الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، في ظل تعثّر فرص المصالحة بين فتح وحماس، وعدم قدرة الطرفين الرئيسيين المصري والسعودي في الضغط على/إقناع القوى الفلسطينية بتوقيع ورقة المصالحة والدخول في مفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين. الملك عبد الله بدا مستسلماً، بحسب هذه المصادر، وكأنه ينتظر مبادرة أميركية إنقاذية هي الأخرى لوضعه الذي لا يحسد عليه، كون مكانته تعرّضت لاهتزاز عنيف بفعل الأدوار الأخرى التي لعبتها كل من تركيا وايران وسوريا وقوى الممانعة في المنطقة، فيما تواصل السلطات الإسرائلية سياسة الاستيطان وتهويد القدس، وهدم المنازل ومصادرة الأراضي والتهجير، ما تسبب في إحراج الملك عبد الله الذي بدا كما لو أنه بات محشوراً في زاوية لا يستطيع الهروب منها، وأن الأوضاع مرشّحة على الدوام لمواجهات وانفجارات جزئية أو شاملة فيما لا مخرج محتمل من الأزمة القائمة.

أمام مثل هذا الوضع المتدهور، طلب الملك عبد الله بإسم دول الاعتدال جميعاً من واشنطن من أجل التحرّك لطرح مبادرة واضحة لتحقيق السلام على كافة المسارات، وفي هذا السياق كشفت مصادر دبلوماسية مطلعة في العاصمة الامريكية لموقع (المنــــار) الفلسطيني في 3 يوليو الجاري أن السعودية تضغط على الولايات المتحدة للخروج بمبادرة سلام امريكية تضم بعض البنود الواردة في مبادرة السلام العربية وطرحها على طاولة التفاوض لانهاء الصراع العربي الاسرائيلي بصورة شاملة وعلى اساسها يصار الى تفعيل جميع المسارات.

وقالت المصادر لـ (المنـــار) أن السعودية وعدت ادارة الرئيس اوباما استعدادها في حال استجابت واشنطن للطلب السعودي وموافقة اسرائيل على المبادرة باقناع الدول العربية بتقديم واتخاذ خطوات حسن نية اتجاه اسرائيل، كما ان الرياض لا تمانع في ادخال تعديلات على المبادرة العربية.

الفيصل بدل الملك في باريس

وبالرغم من محاولات الملك عبد الله تقديم فاتورة إجراءات قام بها على صعيد الحرب على الإرهاب بما فيها فتوى هيئة كبار العلماء بتجريم تمويل الإرهاب، والقبض على مجموعة عناصر من تنظيم القاعدة، فإن ثمة كلاماً سمعه الملك عبد الله عن تحسين أوضاع حقوق المرأة. مصادر مقرّبة من وزارة الخارجية الأميركية ذكّرت بأن القرار المفاجىء بإلغاء المؤتمر الصحافي بين هيلاري كلينتون وزير الخارجية، ونظيرها السعودي الأمير سعود الفيصل جاء على خلفية احتمال إثارة سؤال حول موقف الإدارة الأميركية من أوضاع حقوق المرأة والمعتقل هادي المطيف، الذي تبنّت الخارجية الأميركية قضيته وطالبت الحكومة السعودية بإطلاق سراحة، ونشرت بياناً على موقعها الإلكتروني توضّح فيه المماطلة السعودية من هذه القضية رغم وعود كبار المسؤولين بحل المشكلة سريعاً.

في موضوع آخر، حسمت الحكومة السعودية أمر زيارة الملك عبد الله إلى فرنسا. فقد سبقت صحيفة (إيلاف) الإلكترونية في 3 يوليو الجاري الأمور ليعلن مراسلها في الرياض سلطان القحطاني بأن قرار الملك عبد الله هو (تأجيل بنكهة الإلغاء..!)، فيما نقل القحطاني عن دبلوماسيين توقّعاتهم بأن يكون التأجيل (إلى الأبد). وكان من المقرر أن يزور الملك عبد الله باريس في 11 يوليو الجاري وأن يفتتح بعدها الملك والرئيس ساركوزي معرضاً سعودياً يحتضنه متحف (اللوفر) لعدّة أيام. يقول المراقبون بأن الزيارة مقررة منذ أكثر من أربعة أعوام، وتحديداً في العام 2006، أي بعد زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى المتحف الوطني في الرياض.

الكلام حول أن قرار التأجيل لأسباب بروتوكولية بسبب تزامن الزيارة مع عيد الثورة الفرنسية بدا كما لو أنه كلام بائس، ولربما يعكس عجز الدبلوماسية السعودية عن انتاج مبررات منطقية لمثل هذا القرار اللافت. قرار التأجيل الأول جاء بعد يومين من تصريحات نسبتها (لو فيغارو) للملك عبد الله قال فيها بأن (هناك دولتين يجب أن يزولا وهما إسرائيل وايران)، وهي تصريحات نفتها الحكومة السعودية، ولكن الأخيرة حمّلت المسؤولية للرئيس الفرنسي ساركوزي وفريقه باعتبار أن الصحيفة مقرّبة منه. نقل القحطاني عن دبلوماسي خليجي قوله بأن هناك (قوى داخل المؤسسة الفرنسية كانت تستعد لتخريب الزيارة). مصادر فرنسية أخرى تشير الى أن التصريح المنسوب الى الملك عبد الله نقلته (لوفيغارو) عن مسؤول فرنسي في حكومة ساركوزي.

وفيما لم يصدر حينذاك أي توضيح أو تكذيب لخبر التأجيل، نقلت وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس) في 10 يوليو الجاري عن مصدر مسؤول لم تكشف هويته تأجيل زيارة الملك الى فرنسا التي كانت مقررة 12 يوليو الجاري. ونقلت الوكالة عن المصدر المسؤول أنه (بناء على الاتفاق) بين خادم الحرمين الشريفين والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي فقد (تمّ تأجيل الزيارة (..) إلى موعد يتم تحديده لاحقاً في أقرب فرصة ملائمة للجانبين). ولم تحدّد أسباب التأجيل.

السبب المتوفّر والسهل لقرار التأجيل هو تقرير صحيفة (لو فيغارو) على موقعها على الإنترنت في 30 يونيو الماضي يقول فيه بأنه يتمنى زوال اسرائيل وإيران. السعودية كعادتها لم تشر إلى أسباب تأجيل زيارة الملك، ولكن صحيفة لوموند اليومية الفرنسية نقلت عن مسؤول فرنسي قوله (إن مقالا نشر على موقع صحيفة " لوفيغارو" على الانترنت يوم 30 حزيران (يونيو) تسبب في (غضب شديد لدى المسؤولين السعوديين)، ونقلت لوفيغارو عن الملك عبد الله قوله (إنه لا حق لاسرائيل او لايران في الوجود). وتعتقد أوساط فرنسية وتشاركها مصادر أوروبية (أن السعوديين يمارسون نفاقاً سياسياً واضحاً في تعاملهم مع ايران، فهم يؤكدون في وسائل إعلامهم على أنهم يسعون لتوطيد العلاقات مع ايران باعتبارها دولة اسلامية ولايمكن الغاء دورها في المنطقة، الا أنهم في نفس الوقت يسعون جاهدون لزعزعة الإستقرار فيها من خلال دعم المعارضة والأكراد والسنّة، بالإضافة إلى الإلحاح المستمر على حليفهم الاستراتيجي، الولايات المتحدة، لاتخاذ موقف (ينهي الملف الايراني الى الأبد)، وهذا يعني تأييد شن هجوم إسرائيلي أو امريكي على المنشئات النووية الايرانية).

في هذا السياق، أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية في 11 يوليو أن وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل سيعقد محادثات مع نظيره برنار كوشنير في باريس تتناول العلاقات الثنائية والقضايا الدولية والإقليمية. فيما جاء في الخبر أنه كان من المقرر أن يجتمع الملك عبد الله بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في حين أشار متحدث في السفارة السعودية في باريس الى أن زيارة الملك عبد الله أرجئت وإنه لم يتم تحديد موعد جديد لها بعد.

الزيارة المؤجّلة مراراً من جانب الملك عبد الله، والتي سبقها إعلان عن إتفاق تعاون نووي مع فرنسا، قد تكون أحد المؤشّرات الرئيسية على أن العلاقات بين الرياض وباريس ليست على مايرام، وأن ثمة أسرار أخرى تخفي أكثر من مجرد رد فعل على تصريح نشرته (لو فيغارو).

الصفحة السابقة